2018/05/06 | 0 | 2172
الشيخ حسين العباد : آفات اللسان - (٣)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ (طه: 25 ـ 28).
لا زال الحديث أيها الإخوة المؤمنون في آفات اللسان، وفي هذه الجمعة نذكر طرفاً من تلك الآفات، مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً:
10 ـ المزاح والدعابة : ولعل البعض يستغرب أن نذكر هذا في آفات اللسان، ولكننا لا بد أن نعلم أن هذا ليس على إطلاقه، إنما في ما زاد عن حدّه، فمن الطبيعي أن الإنسان يمزح ويضحك ويداعب الآخرين، وهذا ليس حراماً، ولكن الكلام فيما زاد عن الحد، أما في حدود المتعارف فهو أمر مقبول ومعقول.
والمزاح هو خفة في اللسان ميلاً للنفس وشهواتها، أو لتطييب نفوس الآخرين بأي سبب كان، إما لأجل مصالح الدنيا أو غيرها، فترى البعض يضحك ويمزح ويداعب لا لشيء إلا لتطييب خواطر البعض.
عن رسول الله (ص) قال: «كثرة المزاح تذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك تمجُّ الإيمان مَجّاً» (الكافي، الكليني2: 665). وكما قلنا أن هذا النهي لا يشمل المزاح بالنحو المألوف، فالحديث واضح أنه يركز على مفردة الكثرة، فيقول: كثرة المزاح، كثرة الضحك، ولا يقول: المزاح أو الضحك، فليس المطلوب من المؤمن أن يكون عبوساً قمطريراً، ولكن لا أن يتصدى المؤمن طيلة الجلوس في مجلس مثلاً للضحك والمزاح والمداعبة، لأن هيبته تزول، ولعل الكثير منا ينتبه لذلك حتى مع عدم اطلاعه على الروايات.
ويقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «ما مزح امرؤٌ مَزحة إلا مَجّ من عقله مَجّة» (نهج البلاغة: 555. صبحي الصالح).
وفي وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) لابنه الإمام الحسن (ع) قال: «إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكاً، وإن حكيت ذلك عن غيرك» (نهج البلاغة: 405. صبحي الصالح). فقد لا يكون الأمر المضحك من فعلك أنت، إنما نقلته عن غيرك، إلا أن الغرض النهائي قد تحقق، وهو الإضحاك، فعليك أن تتجنب كل ما من شأنه أن يُضحك الآخر، بالقيود التي ذكرناها، وهي الكثرة والاستمرار، لا مطلق النهي. فلا زلت أؤكد أن المزاح بالحدود المتعارف عليها أمرٌ مطلوب، وقد جرى بين يدي رسول الله (ص) بل صدر عن رسول الله (ص) وعن الأئمة (ع) والعلماء الربانيين، وهو المزاح المتعارف في الحدود المعينة.
فقد مد رسول الله (ص) رجله ذات يوم وسأل من حوله: ما تشبه هذه الرجل؟ فسكت الجميع وراح يفكر. ثم سألوه : ماذا تشبه؟ فأجاب : تشبه الرجل الأخرى. فضحك الجميع. وقد أراد رسول الله (ص) أن يلطف الأجواء في ذلك المجلس، ويدخل الارتياح في نفوس من حوله.
ويحكى عن الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم أنه في يوم من أيام العطلة، أصر عليه الطلبة ـ وهم بالمئات ـ أن يكون ذلك اليوم يوم دراسة، فأصر على أنه يوم عطلة وراحة، لكنهم تشبثوا بالدرس ولحوا عليه كثيراً، فوافق رضوان الله عليه، وجاء في ذلك اليوم إلى المدرسة، فتعجب أن الجميع قد حضر بالفعل، وهم بالمئات من كبار العلماء وليسوا من صغار الطلبة، كما هو معروف في مثل هذه المراحل المتقدمة. فلما صعد المنبر وأراد الشروع بالدرس خرج الجميع من قاعة الدرس، فتعجب الشيخ، وعرف أن هذه مزحة، وخرج معهم إلى باحة المدرسة. ثم قال لهم : بما أنكم حضرتم، فدعونا نستغل الوقت، وندرس بعض المطالب، فتهيأ الجميع لذلك، وعادوا لقاعة الدرس، فصعد الشيخ المنبر، وبدأ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم نزل من المنبر وخرج إلى باحة المدرسة، فضحك الجميع وعرفوا أن هذه مزحة بمزحة.
فالمزاح بهذا المقدار مقبول .
11 ـ السخرية والاستهزاء : وهما ظلم عظيم لبني البشر. وتكونان بمحاكاة أقوال الناس، أي تقليد أقوال وأفعال الناس، وهو من المحرمات المشددة.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ﴾ (الحجرات: 11). فهي واضحة الدلالة في النهي المشدد.
وقال رسول الله (ص) : «كان في المدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت الله عن عيوبهم الناس، فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس وكان في المدينة أقوام لا عيوب لهم، فتكلموا في عيوب الناس، فأظهر الله لهم عيوباً، لم يزالوا يعرفون بها إلى أن ماتوا» (أمالي الشيخ الطوسي: 44). فلا يذكرنّ أحد عيوب الناس، ولا يظننّ أنه بلا عيوب، فليس هنالك من هو معصوم سوى المعصومين.
وعن الإمام الصادق (ع) : «حدثني أبي عن آبائه عن علي (ع) أنه قال: من قال في مؤمن ما رأت عيناه، وسمعت أذناه، ما يشينه ويهدم مروءته، فهو من الذين قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ يُحبُّونَ أَنْ تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ في الدنيا وَالآخِرَة﴾» (وسائل الشيعة، الحر العاملي17: 211).
هذا في من كان فيه عيب بالفعل، ونقله الناقل، فكيف بمن ينقل ما ليس فيه؟ إننا نجد أن البعض بمجرد أن يجلس في مجلسه يفتتح حديثه بنقل الأخبار عن الناس، بما يشينهم ويهدم مروءاتهم، وهذا مشمول بالآية وبما أوعدت عليه من العذاب الأليم.
من هنا نجد أن السخرية فيها الكثير من المحاذير التي لا نلتفت إليها، فتصبح من الذنوب المركبة المتعددة، فهي تنطوي على كشف العيوب والغيبة وإثارة الاختلاف والأحقاد وغيرها، صحيح أن العنوان واحد إلا أن الذنوب كثيرة.
أسباب السخرية :
هنا يأتي السؤال: ما هو الداعي للسخرية؟ وما هي الأسباب التي تجعل الإنسان يسخر من أخيه المؤمن؟ الجواب : أن لذلك أسباباً كثيرة، منها:
1 ـ الغنى والثروة : فهذا العامل يكون في الكثير من الأحيان سبباً للسخرية بالفقراء، فالغني كثيراً ما يشعر أنه متميز على الآخرين، فيسخر ممن هو دونه. قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة ~ الَّذِي جَمَعَ مَالَاً وَعَدَّدَه﴾ (الهمزة: 1، 2).
2 ـ العلم : فمن يملك شيئاً من العلم والمعرفة تراه يستهزئ بمن هو أقل منه علماً والعياذ بالله. يقول تعالى: ﴿فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (عافر: 83).
3 ـ القوة البدنية : فالقوي بدنياً تراه كثيراً ما يسخر بمن هو أضعف منه. يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: 15).
4 ـ الألقاب الاجتماعية : وهي كثيرة، كالعلامة والفهامة والدكتور والمهندس والأستاذ والشيخ. فتراه يسخر ممن هو أقل منه مرتبة. وكانت هذه الظاهرة معروفة لدى الكفار قبل الإسلام، وحاربها الإسلام وشدد عليها.
فالألقاب إنما تطلق لتعيين مرتبة اجتماعية وتخصص مميز عن غيره، فيقال: فلان دكتور، لبيان أن عمله هو علاج المرضى. وفلان إمام جماعة، لبيان أنه يؤم الجماعة، وهكذا، فليست الألقاب للتمييز الطبقي أو غيره. فلا يستدعي لمن يحتل هذه المواقع أن يستهزئ بغيره.
5 ـ الجهل : فالكثير من الجاهلين يستهزئون بأهل العلم. وقد كان موسى (ع) نبياً، إلا أن بني إسرائيل كانوا يستهزئون به ويسخرون منه.
فمن يسخر من الآخرين كثيراً ما يكون دافعه الجهل.
6 ـ الرغبة في إظهار الشرف والعلو في المجتمع.
فعلى كل من يسخر من غيره أن ينتبه إلى أن العباد خَلْقُ الله، وهو واحدٌ منهم، فإن كانت لهم عيوب فله عيوب مثلهم أيضاً، بل قد تكون عيوبه أظهر، فهل يرضى أن يسخر منه أحد؟.
قال أحدهم لسلمان الفارسي: هل لحيتك أفضل أم ذَنَب الكلب؟ فقال سلمان : إن أمامنا عقبة كؤوداً، وصراطاً عظيماً، فإن اجتزتُ هذه العقبة فلحيتي أفضل، وإلا فذنب الكلب أفضل.
فالإنسان عقل وشهوة، فإن غلبت شهوته عقله كان دون الحيوان، لأن الحيوان خلق بغريزة فقط، وليس له عقل. وإن غلب عقله شهوته كان أسمى وأفضل من الملائكة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
جديد الموقع
- 2024-10-31 العمل الفردي ومعضلة الاستمرارية.
- 2024-10-31 دع الكتب تمضي
- 2024-10-31 يعيشون بيننا - الأستاذ المرحوم أحمد الحبابي
- 2024-10-31 تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد
- 2024-10-31 قراءة في ديوان الشاعر محمد الحرز ( مشّاؤون بأنفاس الغزلان) -تمثيل وتشخيص وترجمة سرديّة وأمثولات رمزية وتوغُل في صميم التجريب.
- 2024-10-31 جمعية أدباء بالاحساء تعقد جلسة أنسها الأدبية الثامنة
- 2024-10-31 الروضة بالاحساء ينظم برنامج كبارنا معلمو الحياة
- 2024-10-31 متلازمة القلب المنكسر؟ - ومسائل انفعالية أخرى
- 2024-10-30 الكتاب المسموع منافس أم مكمل؟
- 2024-10-30 مفارقة اللذة