2020/05/12 | 0 | 2676
أما من عليٍّ؟
قدم الكاتب الكندي "د. آلان دونو" أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة "كيبيك" بكندا لكتابه "نظام التفاهة" بقوله: "ضع كتبك المعقدة جانبا، فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة، لا تكن فخورا، ولا روحانيا، ولا حتى مرتاحا، لأن هذا يمكن أن يظهرك بمظهر المغرور، خفف من شغفك لأنك مخيف، وقبل كل شيء لا تقدم لنا فكرة جيدة من فضلك فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفا، هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة، وسع حدقتي عينيك وأرخ شفتيك، ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة، وينبغي أن يظهر ذلك عندما تتحدث عن نفسك، قلل من إحساسك بذاتك إلى شيء لا معنى له، يجب أن نكون قادرين على تصنيفك، لقد تغير الزمان؛ فلم يعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يقارن بحريق الرايخستاغ، كما أن البارجة الروسية "أورورا" لم تطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان، ومع ذلك فقد تم شن الهجوم بنجاح: ..."، الكلام وما تلاه من تفاصيل ذلك الكتاب الذي ربما وصفه قارئ بالمؤدلج أو المتطرف، إلا أن ما سلط "فيروس كوفيد 19" الضوء عليه من حال العالم وخصوصا المجتمعات الرأسمالية التي تقوده، وحال الأمن الصحي وغيره لما سوى طبقة أصحاب رؤوس المال فيها، سيجعل ـ مع الالتزام بمبدأ (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ـ لمثل النقد والتوصيف الذي اشتمل عليه الكتاب المذكور تقييما آخر، كما سيجعل التوق إلى القيم التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام ـ كما هي ـ أكثر إلحاحا، البوابة التي أجد خلالها للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الحضور المتألق، حيث الحاجة إلى الانتماء لله الحق والطهر والنقاء، إلى البصيرة والعلم، إلى الاستقامة والعدل، إلى السكينة ورَوح الضمير، إلى الحب والرحمة، وهي وغيرها من قيم الحق ينابيع ثرة في شخصية عليٍّ، عليٍّ الوعي والنهج، الذي لا يجد عاقل محب للعدل بفطرته في ساحة أطروحته غربة، ولا يختلف في انتمائه لأفق السماء مسلم، سواء من حاربه ومن أحبه، الأمر الذي تنطق به كل محطة من حياته الرحبة، التي استعصت على السيف الآثم الذي خضبه بدم الشهادة في محرابه فازداد عرشها الخالد في القلوب والعقول توهجا ورسوخا، وفي شيء من هذا حوار قال فيه ضرار بن ضمرة الكناني لما طلب منه معاوية أن يصف له علياً عليه السلام، فقال : "كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان غزير الدمعة طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبئناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: (يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا)، يتضرع إليه، ثم يقول : (يا دنيا غري غيري، إليّ تعرضتِ، أم إليّ تشوقت، هيهات هيهات، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمركِ قصير، وخطركِ كبير، وعيشكِ حقير، آه آه من قلة الزّاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق)، فبكى معاوية ووكفت دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها بحجرها، فهي لا ترقـأ عبرتها، ولا يسكن حزنها.
نعم، هو عليٌّ المشروع المحمدي الذي لم يتح له إزاء ما شن عليه من حروب ومعوقات متنفسا، ومع ذلك قال القائل في عهده في وضع واحدة من الطبقات التي ألفت السحق عادة في جل عهود الدنيا: "لقد تمنى الناس أن يكونوا أيتاما في عهد علي بن أبي طالب، فقد كان يطعمهم الجوز والعسل"، ولا زال كتابه لأحد ولاته ملأ السمع والبصر والعقل، وهو يستبق فيه ما ربما كان مكمنا لخلل محتمل في بيئة العدل التي كافح لإرسائها كثقافة، مهما بدا صغيرا كتصرف والي البصرة في عهده: (أَمَّا بَعْدُ، يَا بْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الاَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَ الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد وَعِفَّة وَسَدَاد، فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً).
التوق لعلي توق انتماء الشجرة الطيبة لأصلها في طريق صوغ واقع واستشراف مستقبل متفاعلين مع معطيات الحياة، ولكنهما حاضر ومستقبل متكئين على جذور رصينة يجدان نفسيهما فيها معتقدا وتاريخا وحضارة، لا حاضرا مبتورا عن جذوره، ومستقبلا مقتحما تم تخطيطه وفقا لماضي أمم أخرى واستوحي من تراثها، الأمر الذي لا يعود أهله معه أمة، بل مجرد عدد كبير من التائهين اللذين فقدوا شخصياتهم واعتذرت عنهم هوية الآخرين، فالأمة مجموعة بشرية ذات معنى في مسيرة الإنسانية، وبحسب معنى الأمة تتحدد قدرتها على الاستمرار، وأي معنى تنطلق منه أمة بعمق وديناميكية إسلام يمثله علي عليه السلام ويفديه بنفسه وحقه؟ وأي مقام مفترض لها بقدر البنوة له ولنفسه ـ بنص آية المباهلة ـ النبي محمد صلى الله عليه وآله، الذي خاطبه في شأنها كما روي عنه بقوله: (يا علي، أنا وأنت أبوا هذه الأمة)؟
إن تناول علي عليه السلام بعقل متجاوز لعقد التاريخ وتراته هو تناول لحاضر ومستقبل، فالفضائل النفسية والعقلية والعلمية والعملية التي حفلت بها حياته مادة من شأنها بناء حاضر جديد معافى، ومستقبل واعد بالكثير الطيب، كما أن الصلة الواعية بعلي عليه السلام كفيلة ببناء الإنسان أو إعادة بنائه، مهما كان هذا الإنسان مهدوما مهزوما ألف أن ينتظر حلول الآخرين لمشاكل سمح لهم بأن يجعلوا حياته حافلة بها، وببناء الإنسان يبنى حاضره ومستقبله، فهما صورتان لشاكلته، وبدون الإنسان المعافى يكون الحاضر مريضا والمستقبل كهفا يعج بأخطار الظلمات، وفي الإنسان الياباني الذي هدم منجز ماضيه وحاضره في حينه؛ في ميقات من تاريخه؛ فصمد ماضيا وحاضرا ومستقبلا لأنه لم يهدم مثال في هذا الصدد مع الفوارق.
وبكلمة أخرى أقول ونحن نستقبل مصرع عليٍّ عليه السلام في محراب الكمال: إلى صدور وعي عن علي عليه السلام، فهو عزيمة يصير النوى بها نخلا كما أجاب من سأله ـ بحسب حديث الباقر عليه السلام المروي في "الكافي"ـ عن وسق نوى تحته: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: (مائة ألف عذق إن شاء الله)، قال: فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة، واستقامة يقين ما رأى شيئا إلا رأى الله قبله وبعده ومعه، وحب متقن لا خيار معه في الحياة إلا الفتح أو الفتح، ما كان به الذخيرة للنبي صلى الله عليه وآله الذي قال فيه مقالته في شأن راية الإسلام التي بات الناس إثرها يدوكون ليلتهم (يعني يخوضون) أيهم يعطاها: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)، أجل لنبحث في سعينا إلى ثقافة النجاح عن علي عليه السلام لنحلق به:
يا ذرى "مجده" أما من عليٍّ يتلوى بكفه أملود
ينتضينا "فتحا" ويدرك "بلوانا" فقد ألحت عليها القيود
ويسوي زيف الطبائع حتى كل شيء لأصله مردود!
جديد الموقع
- 2024-05-04 افراح الدويل و الغزال في احلى مساء بالاحساء
- 2024-05-04 عميدة اسرة العليو بالاحساء في ذمة الله تعالى
- 2024-05-04 فريق طبي في مدينة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) الطبية يجري عملية تثبيت وتعديل الفقرات القطنية لمريض بعمر (56) عام
- 2024-05-03 مستشفى اليرموك التعليمي يجري عملية قسطارية طارئة لمريض يعاني من احتشاء العضلة القلبية
- 2024-05-03 مستشفى الأمام علي (عليه السلام) العام في بغداد يجري عملية تداخل قسطاري طارئ لمريض يبلغ من العمر 48 عام
- 2024-05-03 "بيئة الأحساء تنفذ يوم بيئي مع جماهير نادي الفتح الرياضي"
- 2024-05-03 النجف رصاصة طائشة تصيب زائر أثناء تأدية صلاة المغرب في الصحن الحيدري
- 2024-05-03 بعد عقم دام 7 سنوات أسرة ترزق بتوأم في مستشفى كمال السامرائي
- 2024-05-03 طوارئ مستشفى الحلة التعليمي في بابل تنقذ حياة طفل تعرض إلى صعقة كهربائية
- 2024-05-03 مستشفى بعقوبة التعليمي في ديالى ينجح بإجراء عملية تطويل عظم الساق لمريض يعاني من قصر الطرف السفلي