2025/03/03 | 0 | 987
الواقعية الأخلاقية عبر كتاب أخلاق القرآن للشيخ باقر بوخمسين
ضمن أمسية خاصة بإحياء تراث الشيخ باقر بوخمسين " 7 ربيع أول 1445 هـ " هذه الورقة تتضمن نقطتين مترابطتين حول الواقعية الأخلاقية : النقطة الأولى: - " شبه سيرة أخلاقية " النقطة الثانية: - "حول كتاب أخلاق القرآن
النقطة الأولى : التاريخ الثقافي في القرن العشرين هو الأقرب إلينا لأنه مازال متصلا بنا بوضوح الملامسة. رغم ما فيه من سجال متماوج بين الحلم والواقع، بين انفعال وتفاعل وافتعال، القرن العشرين كان افتتاحية محاولات (تنهيض) فكري معاصر لم يقتصر على الاستهلاك الماضوي والانهماك الكلامي وإنما حاول فتح نافذة رؤية عصرية عبر اهواء ورياح متباينة، لم تكن الحوزة العلمية بمنأى عن التجدد المقترن بمشاريع الإصلاح الديني لجيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ثم التحرر من الاستعمار بين العراق والشام ومصر والمغرب. لا تصل إلى منتصف القرن العشرين حتى نجد توهج مشاريع بينها الإصلاح التعليمي الذي كان (الشيخ محمد رضا المظفر) من أبرز رواده . رعيل النخبة الدينية دشن بنية عقلية دينية عصرية مؤدية لخطاب وعي استعاد جاذبية الحضارة الإسلامية واستقطاب الرسالات النبوية بعيدا عن العصبيات الضيقة، متجاوزا عقبات جهات مناوئة (الشيوعية ثم القومية ثم التطرف الديني). منذ منتصف القرن العشرين بلغت نظرنا حضور خليجي فيه شخصيات أحسائية كان في صميم المشروع الفكري لعدة فضلاء كان بينهم مربع الأسماء الباقرية (باقر الشخص، باقر الصدر، باقر بوخمسين، باقر القرشي) هذه النخبة لم تتلاقى في الأسماء فقط وإنما نجد التلاقي في الدراسة والثقافة والصحبة كان السيد باقر الشخص المتوفي 61 م أستاذ البواقر الثلاثة (الصدر و بوخمسين و القرشي). كان عقد الستينات مرحلة ذروة السجال الثقافي العربي والاسلامي الديني والمدني، سجال بين تأصيل الهوية وبين استيراد التحديث. جيل الشيخ باقر اقتحم بهدوء غمار مشروع خطاب ديني عصري لم يخرج عن الوسطية المرجعية المزدهرة حين ذاك في الأربعينات والخمسينات والستينات الميلادية . كانت قناة رعيل المتفقهين المثقفين في الصحافة (صاحبة الجلالة) بين الدروس والمنتديات والصحافة، كانت حيوية حياة الشيخ باقر أثناء هجرته النجفية من 1930 إلى 1956 م، وهي مرحلة حافلة بثلاثة آفاق (فقه الأعلام، وثقافة النهضة، وأدب التحديث) مما شكل منعطفات كبرى علمية وفكرية وأدبية . من الرائع أن نجد الطاقة الخليجية فعالة قبل أن تثبت لنا التجارب أن أهمية الجالية في الحواضر الإسلامية تقوم بثلاثة شروط : 1- تكوين الكفاءات العلمية: وهذا شرط اثبات الوجود وهو الثروة المعنوية . 2- بناء المراكز والمدارس: وهذه معيار قوة حضور أي جالية . 3- أولية المشاركة للمعرفة والرأي على التبعية المتفانية . لقد وجدنا ألفة بين الشيخ باقر بوخمسين والشيخ باقر القرشي اتخذت منحى مختلفا بتنوع الأدوار عن منحى الباقريين الشخص الأستاذ والصدر التلميذ، وهو بعبارة أدق تنوع أصح من أنه اختلاف. هذا الاتجاه يمتاز بطابعين : الأول: واقعية ما يناسب ظرف الزمان وظرف المكان . الثاني: التوازن بين الممكن والمأمول . لم نتجاوز عنوان موضوعنا (الواقعية الأخلاقية .... ) لأن الواقعية الأخلاقية خارج حدود الأخلاق الفردية المتجسدة في تهذيب النفس، هذه ناحية عميقة مهمة إلا أن الواقعية الأخلاقية تتكامل عندما تشع بالعطاء إلى درجة الأريحية، وما الأريحية ّ؟ هي أن تستمر في العطاء وتزداد بهجة كلما أعطيت، لاستمرار حيوية الحضارة الإسلامية بما في ذلك الارتقاء بالمجتمع المحلي إلى التفوق وتحويل المنطقة إلى حاضرة من الحواضر المهمة . السمعة الطيبة للحضور الخليجي في المدن العلمية تتعزز بشروط الأهمية الثلاثة : (تكوين العلماء، وبناء المركز، والمشاركة الفعالة). أن تتفوق علميا، أن تبني مدرسة، أن تشارك ... هذا ما تعنيه أهميتك في العالم . العالم، الكاتب، الإداري الشيخ باقر بوخمسين وجه هذه الواقعية الأخلاقية عندما قرر عدم الانطواء على الذات، وعدم الانزواء في كهف الماضي، فكان من علمائنا الذين جعلوا الأحساء في موقعها اللائق حاضرة حضارة لا منطقة مغمورة لا تعرفها تلك المدن الشهيرة، وهكذا كان دور علماء القطيف أيضا في النصف الأول من القرن العشرين، ومن نماذج هذا الموقف الوطني الديني (الشيخ عبدالحميد الخطي الخنيزي) من القطيف و(الشيخ باقر بوخمسين) من الأحساء. مع حفظ حق أدوار علماء المنطقة المحفوظة في وجداننا والمحفوظة عند خير حافظ سبحانه. هذه شذرة من شبه سيرة أخلاقية من جيل شيخنا الباقر الرائد، وتجدر الإشارة مع الإشادة بكتب ثلاثة خصصت لسيرة وفكرة الشيخ باقر بوخمسين بإجادة المؤلفين :(الشيخ محمد علي الحرز + الشيخ علي عساكر + الدكتور محمد جواد الخرس). مؤلفات اطلعتنا على أن بلادنا ليست داعمة وإنما مشاركة في التاريخ الثقافي المعاصر وأن شيخنا الباقر من أهم أعلام هذه المشاركة الحضارية . النقطة الثانية : كتاب (أخلاق القرآن) تأليف العلامة الشيخ باقر بوخمسين، المنشور في دار روافد بيروت لبنان هذه السنة 2023 م / 1445هـ الطبعة الأولى في 332 صفحة بجهود فضلاء مذكورين في الكتاب .طبع الكتاب بعد ثلاثين عاما من وفاة المؤلف، وبعد قرابة ثمانين عاما من تأليفه حيث تمت كتابته حدود عام 1365 هجرية كما أفادت اللجنة بما أفاده عنها الأستاذ الكاتب (إبراهيم سلمان بوخمسين) .إلا أن كتاب (أخلاق القرآن) لم يتقادم ولم يستنفذ صلاحيته لا بالرؤية ولا بالأسلوب، فما زال معاصرا باللفظ والمعنى، وما ذلك إلا لأن المؤلف عالم دين عصري، وأديب نهضوي، ومثقف حيوي، واجتماعي رائد، ومن كانت هذه سماته لا بد أن نجد في كتابه ميزة الواقعية الأخلاقية المتأصلة بالينابيع الصافية من آيات وأحاديث حفظت الرؤية في نهج أقوم وأسلم، ورغم أن الكتاب حافل بالشواهد من نصوص دينية إلا أن تحقيق المرحوم الفاضل الشيخ حسن بن الشيخ باقر بوخمسين أضاف إلى الكتاب التزود من شواهد الأحاديث والحكم على مئات الفقرات .كما استخرج مصادر شواهد متن الكتاب فزاده متانة واشراقة . لماذا التأكيد على الواقعية الأخلاقية في كتاب (أخلاق القرآن) ؟ بصراحة لأن أفق الأخلاق أو (علم الأخلاق) لم يتم فتح السجال حول تاريخه ومبانيه، وإذا صح دخول الخرافة إلى مجال فكري فان مجال الاخلاق مصاب بالتسرب الخرافي ولو تم الاشتغال به والتحقق من الجدل الكلامي لأصبح علم الاخلاق في موضع جدل متشعب وذلك لما توغل في الأخلاق النظرية من تفلسف وتصوف من خوارق وغرائب . لنأخذ على سبيل المثال كتاب (المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء) تأليف الشيخ محسن (الفيض الكاشاني) المتوفي سنة 1091 هـ، المحجة كتاب موسوعي في حدود ثماني مجلدات وهو إعادة كتابة على ضوء كتاب (احياء علوم الدين) أشهر ما ألفه أبو حامد الطوسي الغزالي المتوفي 505 هـ. الكاشاني من أعلام القرن الحادي عشر والغزالي من أعلام القرن الخامس، لكن الفاصل الزمني لخمسة قرون لم يمنع الكاشاني من التعلق بكتاب الغزالي، فقد صرح بإعجابه بالكتاب لأهميته مع حسن البيان والتحرير وجودة الترتيب والتقرير، أما التصريح اللافت فهو قول الكاشاني : " ألا أن أبا حامد لما كان حين تصنيفه عامي المذهب ولم يتشيع بعد وإن رزقه الله هذه السعادة في أواخر عمره، كما أظهره في كتابه المسمى ب (سر العالمين) وشهد به ابن الجوزي الحنبلي ... ثم يقول صاحب المحجة عن الاحياء: " وكان فيه من الحكايات العجيبة والقصص الغريبة المروية عن الصوفية مالا يتلقاه أكثر العقلاء بالقبول لبعدها عن ظواهر العقول مع قلة فائدتها ونزارة عائدتها". ولنذكر من غرائب الاحياء على سبيل الفهرسة وموجز الأنباء : ــ عابد يمكث عدة أشهر بلا طعام ولا شراب بسبب منام ! ــ زاهد عاف كل أمواله ورمى بها في البحر ! ــ كهمس بن منهالي : يختم القرآن كل شهر تسعين مرة ! ــ كرز بن وبرة : يختم القرآن في اليوم مرتين ! ــ ناسك يعالج الكسل فيلزم نفسه بالقيام على رأسه طول الليل . ــ قال إما مسجد لمصلي: من أين تأكل ؟ فأجاب المصلي: يا شيخ اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك .! هذه الشواهد بعض ما يدل على أن (علم الأخلاق) تخللته مبالغات وخرافات مازالت من المسكوت عنه، ويا ليت ينتقل (الجدال العقائدي) إلى (جدال أخلاقي) فما زال المجال الأخلاقي في حاجة إلى فرز الأصيل عن الدخيل . في اتجاه واقعي مختلف نجد كتاب (أخلاق القرآن) أقرب إلى الأخلاق العملية، وحتى على الصعيد النظري لا يبعد عن منهجية التفكير للتدبير، والعلم للعمل فحينما يبحث كتاب (المحجة البيضاء) عن الجانب النظري من موضوع الصدق لا يتخلى عن الغرائبية رغم انتقاده غرابة كتاب الغزالي، فإن مؤلف المحجة نفسه يورد بعض الأحاديث الغريبة مثل المروي النبوي: "اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي واجعل علانيتي صالحة" ويورد هذا الحديث الأغرب: " لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يرى الناس كالأباعر في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير" ولا نتصور شخصا واقعيا يرى نفسه أحقر حقير، حتى لو تم توقيعه بمثل هذا . كما ينقل كتاب (المحجة البيضاء) عن كتاب (مصباح الشريعة) على أنه جزما بالإمام الصادق (ع)، ولا نعيب على الكاشاني هذا النقل ففي مصباح الشريعة نصوص جيدة المضمون بغض النظر عن سندها بل عن أصل مصدرها، الذي هو ربما مواعظ تضمنت اقتباس اخبار بالمضمون بينما يتناول كتاب (أخلاق القرآن) موضوع (الصدق) مثلا بمنأى عن التعقيد والغرابة كما هو الحال في مختلف عناوين الفضائل والرذائل البالغة 66 مطلبا . يفتتح المؤلف الباقر كل موضوع بآية يتلوها حديث ثم يسند مسائل الموضوع بحديث أو آية ومن خلال ذلك يستنتج مثل هذه الرؤية : "ولولا الصدق لانتزعت الثقة بين الناس بعضهم من بعض وبطلت جامعتهم وتقطعت روابطهم وفسد نظام العالم أجمع، ولا يمكن أن يصل إلى الشرف الحقيقي إلا الصادقون". حتى الرؤية النظرية العلمية نطالعها بمنظور عملي حي كما في مسألة فطرية الصدق، فما هو دليل العلامة باقر بوخمسين على فطرية الصدق لا كسبيته ؟ هذا هو الجواب : "الصدق في الناس فطري، ولو لم يكن فطريا لما حصل الامتنان في أصل الأحوال التي ينقلها الخلف عن السلف، ولا ما ثبت اعتقاد في آية أو رواية، ولا ما كان وثوق في أمر من أمور الدنيا بين الناس وذلك باطل قطعا". يكتفي الشيخ المؤلف بهذا الاستدلال العقلي أو العقلائي على فطرية الصدق، إلا أن نجله الشيخ حسن يحسن الإضافة لاستدلال نقلي من حكم الإمام (ع) من كتاب غرر الحكم بحكمة تدل على فطرية الصدق: " الصدق مطابقة المنطق للوضع الإلهي، والكذب زوال المنطق عن الوضع الإلهي" الوضع الإلهي: تعبير عن أن الصدق فطرة الله . هذه من منهجية أخلاقية استدلالية بعقلانية بعيدة عن التعقيد قريبة من الواقع العملي . ـــ في الجزء الثاني من كتاب (أخلاق القرآن) يتناول المؤلف الراحل موضوع (الكذب) من قسم الرذائل بنفس المنهجية الواقعية العقلانية المفيدة بإشارات استدلالية لا مستغربة، ولنلاحظ هذا الالتفاتة بقوله : " لا تكذب أبدا، وأن لم يطلع عليك أحدا، لأن الله سبحانه يطلع عليك، ولأنك تكون قد اضطهدت الفضيلة الواجبة عليك لشخصك، وأنه قد يكون في الأمر ترتيب لا تقف على سره ينتهي بظهور كذبك فتقع في الفضيحة. " لقد اتحفنا سماحته رضي الله عنه بثلاثة أدلة على سوء الكذب ولو كان خفيا، أدلة دينية ونفسية وعملية في أوجز عبارة معتبرة ثم لاحظنا هذا الاستدلال في أقصر مقولة : " لا فرق بين السارق والكاذب، لأن الأول يسرق مالك والثاني يسرق عقلك، وأن سرقة أغلى شيء وهبه الخالق لأكبر عقوبة" . في نهاية قراءة عاجلة يجدر القول : إن كتاب (أخلاق القرآن) ليس مجرد تجميع مواعظ وتلخيص مطالب، وإنما هو كتاب ــ على اختصاره ــ حاشد بالمفاهيم الأخلاقية المليئة بالشواهد من آيات وأحاديث عن النبي وآله عليهم السلام مع بيان جميل باستدلال منطقي، وما يجذب ــ إلى جانب البيان ــ إشارات الكتاب الاستدلالية المعقولة بأقصر العبارات مما يجعل كتاب (أخلاق القرآن) هذا من الكتب العلمية الروحية القريبة من تنوير العقل وتوجيه القلب في خطاب ديني عصري، هو من نتاج منهجية الشيخ العلامة باقر بوخمسين الإصلاحي التوعوي المعتدل السلمي.
جديد الموقع
- 2025-12-30 (قصيدةُ نثرِكَ بلا لاءاتِ فنائِها)
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي