2018/03/27 | 0 | 917
نسبية الأمور
النظرية النسبية الفيزيائية التي طرحها ألبرت آينشتاين قبل أكثر من مئة سنة كانت حينها متعثرة الفهم على الكثير من الناس، حتى النخبة العلمائية. النسبية لا تقتصر فقط على الفيزياء فهي تطال تقريبا كلَّ شيء. في فصل الشتاء، بعض ثدييات القطب المتجمد الشمالي تقضي جلّ وقتها في الماء الذي تقارب درجة حرارته التجمد بدلا من اليابسة (أو فوق سطح الثلوج) وذلك لأن الماء نسبيا أدفأ من الهواء، ومنها تلوذ هذه الحيوانات بالماء طلبا للدفء. بالنسبة لنا نحن، لا تزال درجة التجمد باردة ويصعب علينا التأقلم معها كوننا نعيش في مناطق دافئة نسبيا. لو للدب القطبي قدرة على التواصل مع البشر وتقول له إن الماء حينها بارد فإنه ربما لن يصدق لأنه يقارن درجة حرارته بالمحيط لا بواقعية أن درجة التجمد مزعجة (خصوصا للبشر)، ولو قضيت وطرا معه فإنه لن يصدقك لأنه دائما سيقيس بمحيطه لا بالمدارك البشرية في قياس درجات الحرارة.
نفس الأمر ينطبق على العلم وتقييم العلماء، وفي ذلك يقول المرحوم الدكتور علي الوردي: «رأيت ذات يوم رجلا من العامة يستمع إلى خطيب وهو معجب به أشد الإعجاب. فسألته: "ماذا فهمت؟". أجابني وهو حانق: "وهل أستطيع أن أفهم ما يقوله هذا العالم العظيم؟"». بالرغم من اختلاف الزمن، إلا أننا لا نزال نرى الوردي ورجل العامة يتجسدان على الأرض، ولكن أمثال الوردي يحاولون الارتقاء بالأمة من خلال تفكيك الأمور وبالعلم ونشر المعرفة، ولا يزال العامي يفرض رؤيته في عظمة أشخاص أو أفكار دون علم. وحال الأمة انعكاس موضوعي لغلبة أمثال الوردي أو ذلك الرجل العامي. هي ليست حرب؛ هناك تنويريون يحاولون إنارة الطريق وهناك ظلاميون يكرهون النور ويحاولون إطفائه حتى ولو اضطروا لاستخدام أساليب قمعية. المشكلة تكمن في أن العامي لا يستطيع أن يميز لأنه لا يمتلك الأدوات المناسبة والمعايير الموضوعية، فمن الطبيعي له أن يتبع ما تمليه عليه عاطفته وما مضى عليه أبواه.
كما سبق، هناك معايير موضوعية ونسبية (وفوق كل ذي علم عليم). اليوم نحن نعرف أن الشمس مركز مجموعتنا الشمسية وتدور حولها الأجرام، بما في ذلك أرضنا الجميلة. أول من أتى بهذه الفكرة، أريستاركوس الساموسي (Aristarchus of Samos) قبل أكثر من 2200 سنة. بعد ذلك بأكثر من 300 سنة، اقترح بطليموس نظامه الفلكي والذي جعل فيه الأرض في المركز وجعل الأجرام تدور حولها. بالنسبة لنا اليوم، ومع فارق الزمن والتطور والتمدن، كان أريستاركوس أكثر خصوبة وتخيلا من الناحية الذهنية من بطليموس لأنه توصل إلى شيء غير مألوف وخارج الصندوق. بذلك، نحن لا نهين بطليموس ولا نستسهل بإنجازاته، ولكن منطقيا يبقى أريستاركوس أفضل منه؛ على الأقل في هذه الجزئية، وعلينا أن نعترف بهذا الأمر وبكل أريحية وبدون مكابرة. بعد بطليموس بما يزيد عن 800 سنة يأتي شخص ويتبنى نظام بطليموس للأجرام في كتاب يختص بالعقائد. نسبيا، يبقى بطليموس الأستاذ في هذه الجزئية، ويبقى أريستاركوس أفضل منهما، أيضا في هذه الجزئية؟ بالطبع، ليس من الإنصاف محاكمة أهل الماضي بمقاييس اليوم، وكذلك ليس من الإنصاف فرض قناعات السابقين على جيل اليوم. العلم يترقى ويتطور وينمو ولا يقف عند شخص أو رأي أو نظرية.
نحن بشر محدودون بالمادة ولا نستطيع أن نسبر ما وراء الطبيعة إلا من خلال الأثر أولا (أي الأمور المادية) ثم الفلسفة ثانيا وذلك إذا عجزنا أن نجد حلولا يفسرها العلم المادي، ومعرفة المادة بصورة أفضل لأي شخص دليل تقدمه وترجيح قوله عندما يتصور ما وراء المادة إذ لا يمكن لشخص أن يجهل المادة ويكون أفضل من غيره في فهم ما ورائها، وهذه نتيجة طبيعية وعلاقة رياضية متعدية؛ من لا يفهم الأسهل لا يمكن له أن يفهم الأصعب أفضل ممن يفهم الأسهل أحسن منه. الطريقة المتاحة لنا لتمييز الأعلم تتم من خلال تعاطيه مع ما نستطيع قياسه نحن بأدواتنا، أي من خلال المادة. أما بخصوص ما وراء الطبيعة، فالكل يدلو بدلوه والكل يدّعي المعرفة دون دليل أو برهان، وهذا كما أشار شارلوك هولمز أن البعض يحاولون أن يلووا الحقيقة والبيانات لأجل فرض النظرية التي يتبنونها وإن خالفت الواقع. وفي ذلك وعندما سئل الدالي لاما الرابع عشر، وهو الزعيم الروحي للبوذيين، "ماذا لو تبين لك أن ما تتبناه خطأ؟". أجاب بكل شجاعة؛ "حينها علينا أن نغير البوذية" ولكنه استطرد هذا إذا أثبت العلم قدرة الأرواح على عدم التناسخ (تناسخ الأرواح فكرة تنص على انتقال الروح من كائن لآخر وليس بالضرورة أن يكونا من نفس الجنس؛ مثلا، أن تذهب روح بشر بعد موته إلى كلب). هنا الدالي لاما يأتي بفكرة فلسفية لا يمكن التحقق منها ولا يمكن نقضها، وإن أردنا فعلا أن نُقَيّم البوذية فعلينا النظر إليها من خلال منظور مادي بحت، خصوصا إذا علمنا أن البوذيين من أكثر الناس سيطرة على النفس في الزهد وتحمل الألم، ولكن وبالرغم من أن هذا شيئا نستطيع قياسه، ولكنه ليس دليلا على صحة ما يتبناه البوذيون وذلك لأنهم يستخدمون الإيحاء للسيطرة على أرواحهم ورغباتهم، وإلا على الناس الإذعان لهم لأنهم تمكنوا من أرواحهم أكثر من غيرهم. غير البوذي لا يقبل دليل تفوق البوذي الروحاني، ولكنه في أغلب الأحيان يرجح روحانياته على البوذيين وعلى غيرهم ويعتبر الأمر قطعي الدلالة ولا يمكن حتى النظر إليه لا من ناحية مادية أو موضوعية أو نسبية. والنسبية أداة موضوعية أشار لها البارئ عز وجل في قوله (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ).
بخصوص العلم والأعلمية، هناك معايير دالة على العالم، ومنها عليه أن يكون أولا باحثا جيدا قبل أن يكون عالما، وإذا ثبت أن بحثه ركيك ومعلوماته خاطئة ويبني عليها نظريات، فحتما هذه النظريات ستكون خاطئة لأنها ليست مبنية على أسس قوية، ومثل هذه الشرائح لا يمكن أن يطلق عليه عالم، وهكذا على الأقل ينظر أصحاب المدارس التجريبية كما يشير البارئ عز وجل: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
تبقى النسبية محل جدل وأخذ وعطاء، ولكن هناك من يمتلك مقاييس موضوعية وهناك من لا يمتلكها، ويظل التفوق العلمي ونفع النفس والناس مقاييس موضوعية يمكن استخدامها لترجيح الأعلمية (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، على الأقل في هذا العصر: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ.
جديد الموقع
- 2025-12-30 (قصيدةُ نثرِكَ بلا لاءاتِ فنائِها)
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي