2020/05/31 | 0 | 3702
الحياة الجديدة بعد جائحة كورونا
عاشت الكرة الأرضية ما يزيد عن الخمسة أشهرٍ حتى الآن و سكانها يتحدثون عن فيروس متناهي الصغر ينتمي لعائلة كورونا الشهيرة؛ و الذي أطلق عليه علماء طب مكافحة الفيروسات اسم كوفيد19 نسبة إلى مرض كورونا لعام 2019م و الذي أسماه بعض الإعلاميين باسم "السيد كوفيد" من باب الطرفة و التمييز، هذا الفيروس العجيب الذي فتح باب النقاشات غير المنتهية بين المحللين السياسيين و علماء الأمراض و الأوبئة و الفيروسات و كثيرٍ من الباحثين الذين قدموا مئات إن لم نقُل الآلاف من أوراق العمل لدراسة و تحليل هذا الفيروس و منشأه و طريقة انتقاله للإنسان و كيف انتشر بهذه الطريقة المكوكية معللين ذلك بأسباب متباينة؛ منها ما يقول بأنها حربٌ بيولوجية بين قوى العالم؛ و منها ما يراه فيروساً طبيعياً لا دخل للإنسان بوجوده؛ و منها ما اتهم الحيوانات مثل الخفاش المسكين و نسب وجود هذه الجائحة إليه حينما التهم صينيٌ نهِمٌ ذلك الخفاش المصاب بالفيروس في سوق سمكٍ في مدينة ووهان الصينية، و منها من قال بأنه فيروسٌ كالأنفلونزا و أن لا ضير من وجوده و أنه قد لا يكون قاتلاً سوى لكبار السن و المصابين بالأمراض المزمنة كالسكري و ارتفاع الضغط و الفشل الكلوي و مرضى السرطان، كل هذه اتنظيرات ضربها السيد كوفيد حينما كشّر عن أنيابه و أعلن حربه على الإنسان و بدأ بالفتك به في مختلف الأعمار و الألوان و الأقطار، هنا توقف الإنسان قليلاً و بدأ يفكر بعمقٍ في تأثير هذا الفيروس فأعلن بأن انتقل من مرحلة المرض الموسمي ليكون جائحةً بمراحل متعددة و بدأ يستشعر خطورته و يبدي خوفه و قلقه منه، العديد من الاحتياطات الصحية التي اتُّخِذَت و الكثير من التقارير اليومية التي رُصِدَتْ و لا تزال ترصدها أكثر من مائة و خمسين دولة على سطح الكوكب و التي ليس لديها حديث سوى السيد كوفيد، أبواب كثيرةٌ فُتحت و بدأ كل من يعتمر خوذةً صحيةً أو سياسية بالتحدث عن الأمر و كأنه العالِم به العارِف بتفاصيل و حيثيات وجوده، بل انتقل الأمر لعامة بني البشر فأصبح الجميع علماء فجأةً و بدأنا نستقبل الآراء المتعددة من خلال برامج التواصل الاجتماعي التي عجّت بأخبار وصول السيد كوفيد بالقرب من أبواب بيوتنا، الأخبار التي أظهرت علماء الطب الشعبي و أدويتهم ذات الفوائد المرتبطة بالثوم و البصل و الكراث و المانجا و الكستناء و مرقة لحم العجل و الخبز المحمص و كل أدوات المطبخ من زيوت عطرية و توابل، ليس هذا فقط بل امتد الأمر لمن يدّعون العلاج الروحاني الذين تركوا السحر الأسود و جلب الحبيب و تزويج غير المرغوبة و توجهوا لعلاج الناس من هذا المرض بالأحجار الكريمة و الطلاسم و العبارات الدينية المتنوعة على كل مستويات الملل و المذاهب، هذا الفيروس الذي جعل شعب العالم "تحت مسمى الإنسان" يصرف نظره عن أية مشكلةٍ اجتماعيةٍ، سياسيةٍ، اقتصاديةٍ، دينيةٍ؛ عرقيةٍ؛ رياضيةٍ أو فنية حتى و يركز كل اهتمامه على تأثير هذا الكوفيد و الفترة التي سيظل فيها ضيفاً غير مرغوبٍ به على سطح الأرض، في المقابل دفعت حكومات دول العالم أجمع مزيداً من الجهود المضنية التي نزفت على إثرها من اقتصادها و ميزانياتها و التي جعلت بعض الأمصار تتخوف من تهاوي منظومتها الصحية بالإضافة لإعلان إفلاسها و خروجها من جدول الدول المعترف بها ماليا، فيروسٌ صغيرٌ كهذا أظهر الوجه الحقيقي لكثيرٍ من الدول التي تدّعي سيادة العالم و تضع أسماءها في تصنيفات دول أسمت نفسها بدول العالم الأول في صورةٍ هوليوودية انكشف زيفها أمام مواجهة هذا الجرم المتناهي الصغر، لقد استطاع السيد كوفيد و بكل جدارةٍ أن يغير ديموغرافية مجتمعاتٍ كثيرةٍ و تحويل سلوكياتها و تغييرها حسب ما يريده هو رغم تمسك تلك الشعوب بتلك السلوكيات لقرونٍ مضت و التي لم تكن فكرة تغيير تلك الأعراف واردةً في أي حالٍ من الأحوال قبل وصول هذا الضيف إلى العالم، فلو دققنا النظر في بعض سلوكياتنا المحلية لوجدنا أن السيد كوفيد استطاع و بكل جرأةٍ أن يضع الحل الفصل في مسألة الوضيمة التي يقدمها أهل الميت في أيام عزائه الثلاثة، بل و استطاع أن يحسم الأمر كلياً في مسألة حضور الناس للتعزية نهاراً أو ليلاً و تقديم واجب العزاء لأهل الميت أو لمن يحضر إلى مجلس العزاء من عامة الناس، كذلك فقد تمكن السيد كوفيد من رفع الحرج عن غير المستطيع الذي يطالبه أقاربه و المجتمع بإكرام الضيف أثناء أيام فاجعته، لم يتوقف الأمر عند هذا بل امتد ليحسم أمر الوليمة التي يقدمها العريس لإشهار زواجه، و أغلق باب الطلبات غير المنتهية التي يعاني منها الشباب حينما يقدِمون على الزواج من حفلات خطوبةٍ و شبكةٍ و هدايا و حجوزاتٍ لقاعات و قصور أفراح و رحلات ترفيهية تحت مسمى شهر العسل، تغييرات جذرية لسلوك الإنسان فرضها السيد كوفيد الذي استطاع إغلاق ديوانيات الشباب و مقاهي السهر بعيداً عن العائلة و الأبناء ليقرّب الأزواج من زوجاتهم و الآباء من أبنائهم و يحد من ظاهرة التسكع في الشوارع و الطرقات بلا هدف و يضع لكل أمرٍ نقوم به جدولاً يبدأ حين رفع الحظر الجزئي و يرجع للسكون عند إعلان بداية ساعة ذلك الحظر جزئياً كان أو كليا، كثيرون هم الذين تحدثوا عن تأثير السيد كوفيد على معرفتهم بذويهم و تقريبه منهم لدرجة أن بعضهم صّح بشيءٍ من الطرفة عن اكتشافه بعض المواصفات التي لم يكن يراها سابقاً في شريكة حياته و بعض أبنائه و أقربائه، السيد كوفيد علّم العالم أجمع ما لم تستطع المدارس و المنشآت الصحية تعليمه إياه من الالتزام بالنظافة الشخصية مبتدئة بغسل اليدين و انتهاء بآداب العطاس و الكحة و طرق التقارب الاجتماعي و التحية، لقد استطاع السيد كوفيد أن يجبر الناس على رياضة المشي رغماً عنهم و لو كان ذلك على سبيل الترويح عن النفس بالخروج في حال إعلان منع التجوال، و قد رفع الكسل الذي كان يصيب كثيراً منهم حين توفير حاجياتٍ عوائلهم و متطلبات معيشتهم، بل و جعل الناس يتابعون الأخبار بشكلٍ دوري و مجدول للاطلاع على آخر مستجدات هذا المرض و عدد الإصابات اليومية التي يتم تقصيها و القراءة بشكلٍ كبيرٍ حول هذا الفيروس و تأثيره على الإنسان، الإنسان الذي كان لا يهتم بالرياضة عدا في مشاهدتها تلفزيونيا ليجادل و يثير الفوضى حول تشجيعه لتلك الرياضة و ذلك اللاعب، الإنسان الذي كان يحذف كافة القنوات الإخبارية عدا القنوات التي تصدر من خلالها أوامر حكومية قد تفيده مالياً أو وظيفيا، الإنسان الذي لا يرى للوقت أية قيمةٍ تذكر و يحاول جاهداً تمضية ذلك الوقت بادعائه الملل و السأم بسبب طوله و الفراغ الذي يحتله من حياته حسب تعبيره، ذلك الوقت الذي بات الآن ضيقاً أمام محاولة إنجاز ما يمكن إنجازه قبل إغلاق باب الخروج من المنزل و قبل استيقاظ الفيروس ليلاً حسب فهم بعضهم، جملةٌ من التغييرات التي حصلت و لا تزال تحصل في العالم الذي يطمح أن يعود للحياة الطبيعية ظناً من كثيرين أن تلك الحياة قد تعود فعلا، الحياة التي انتهت بنهاية عام ألفين و تسعة عشرة و بدأت بعدها حياةٌ جديدةٌ يجب على إنسان هذا العصر تكييف نفسه ليعيشها بمعطياتها الجديدة و تطوراتها الحديثة التي ابتدأها السيد كوفيد و سوف تستمر بهذه الكيفية حتى بعد انحساره، هذا الضيف الذي سمح للحيوانات بالخروج من بيوتها لتتحرك بحريةٍ غير آبهةٍ بالإنسان الذي سيطر على هذا الكوكب بمصانعه و طائراته و سفنه و بواخره و سياراته و ملوثاته، الإنسان الذي دخل سجنه في حين تم تبادل الأدوار و لو لفترةٍ حين بدأت الطيور بالشقشقة دون خوف و ظهرت بعض الحيوانات الجبلية التي ظن الإنسان أنها انقرضت في حين أنها كانت مختبئةً خائفة منه واقعا، لقد ظهرت تلك المخلوقات لتتنفس هواءً نقياً لا تلوثه عوادم السيارات و لا محركات الديزل و لا البقع و التسربات النفطية في البحار و لا دمار الحروب و نزاعات القوى الإنسانية، هواء نقي سمح للأشجار بالنمو دون تدخل الإنسان لتقليمها و إيلامها بقطع أطرافها، هواءٌ صالحٌ لكل شيء على هذا الكوكب عدا ذلك المخلوق السامي الذي اعتقد لوهلةٍ أن لمثله الحق في السيطرة على قمة هرم الحياة و ابتلاع كل ما يجده أمامه من نباتٍ و حيوان، بات معلوماً اليوم أن السيد كوفيد لن يسمح للإنسان بأن يفرض سيطرته على العالم أبداً بل إنه قادمٌ ليجدول حياة البشر من جديدٍ و يعطيهم درساً في أدب العيش و معرفة حجمهم الطبيعي و قوتهم الفعلية، درسٌ مهمٌ أعتقد أن السيد كوفيد يتمنى أن يكون مفيداً للإنسان في هذه المرحلة و في مراحل حياته القادمة إن سمح له ذلك الكوفيد بالاستمرار فيها.
جديد الموقع
- 2024-09-19 سمو محافظ الأحساء يشيد بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى
- 2024-09-19 أمير الشرقية: الخطاب الملكي أكد على مضي بلادنا لتحقيق المزيد من التطور والازدهار والنماء
- 2024-09-19 سمو نائب أمير الشرقية يشيد بمضامين الخطاب الملكي السنوي
- 2024-09-19 قصيدة النثر باعتبارها صندوقا مملوءا بالذهب
- 2024-09-19 أفراح العباد والبخيت بالمطيرفي تهانينا
- 2024-09-18 التعصب والمتعصبون
- 2024-09-17 الفتيات الصغيرات تستخدم مستحضرات مضادة للشيخوخة شاهدنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الضرر النفسي الحاصل بسببها أعمق من الضرر الذي أصاب البشرة
- 2024-09-17 التدخين أثناء الحمل يضر بالأم وبالجنين ولاحقًا بمستوى تحصيل الطفل الدراسي
- 2024-09-17 الأدلة لا تفيد بأن من عاشوا خلال المراحل الأخيرة من العصر الحجري في شمال غرب المملكة العربية السعودية قد واجهوا تحديات موجات جفاف مما اضطرّهم الي الترحال، بل عاشوا حياة متقدمة ومزدهرة
- 2024-09-17 ما الصور الذهنية وما فوائدها؟