2018/04/09 | 0 | 1067
في صحبة السخرية
يوميات من أدب الرحلات للصديق الشاعر زكي السالم الذي تفضَّل وخصَّني بنسخة إهداء، فله الشكر الوافر على هذا التخصيص والتنصيص.
عادة ما أتخلص من بعض كتب الإهداء تلك التي تأتيك فضولا، وقد لا ترقى لمستوى القراءة فضلا عن مستوى كتابتها الهابط، لذلك أقوم بتوزيعها بعد نزع صفحة الإهداء طبعا.. ولكن الأمر مع أديبنا الأستاذ زكي يختلف تماما، فما يكتبه حريٌّ بالمتابعة والتقييم.
منذ مدَّة، وأنا أتابع بشغفٍ واهتمامٍ ما ينثره من مقالات ساخرة في هذا المجال، وكنت من المتشوِّقين لرؤيتها كاملة في كتاب، وها قد تحقق الحلم، أو جزء من الحلم فما طبع لا يغطي رحلات هذا السندباد الأحسائي (وتنقَّلتُ سائحًا في أمصار عدَّةٍ لكنِّي لم أشأ تدوينها جميعًا) كما يقول.
في حدود 140 صفحة تتجول، وكأنَّك حاضر معه بكل حالاته؛ تنتظر كما ينتظر، وتتعب كما يتعب، وتستمتع كما يستمتع، وتأكل ما لذ وطاب كما يأكل، ويسحرك الجمال كما يسحره، هذا ما شعرت به على الأقل حتى نهاية آخر صفحة، والرغبة تحدوني لقراءته مرة أخرى على مهل.
استوقفتني لأول وهلة كلمة (يوميَّات) البارزة في العنوان، وتأمَّلتها مَليًّا، فرأيت أنَّ المعنى يعكس كتابة متتالية يومًا بعد يوم، وواقع الكتاب أنَّه مدونة لأيَّام متفرقة، وفي أوقات متباعدة، فكان حريًّا أن تُستَبدَل هذه الكلمة بما هو أقرب لصفحات الكتاب، وتمنيتُ أن يكون العنوان أَدبيًّا، مع أن هذه اليوميات لم يضع تحتها تاريخ السفر وأيامه، إلَّا أَن تَستشِفَّ من بعضها في ثنايا الأحداث.
ورد في الحديث النبوي بأنَّ (السَّفرَ قطعةٌ من العذابِ)، ولكنَّ السَّفر عند زكي قطعة من البهجة والضحك، فقديمًا كانت المعاناة حقيقية وشاقَّة جدًّا بدءًا من المواصلات والتغرُّب ومكابدة المسافات وطوارق الليل والنهار، والعذاب النفسي من حنين وخوف وترقب، أمَّا اليوم فالوضع مختلف تمامًا، فإنسان اليوم يسافر غالبًا للترفُّه والتنزُّه والسياحة في جنان الأرض وروابيها.
الأستاذ زكي يمتلك قلمًا سيَّالًا في السَّرد ولا غرو فهو الأديب المتمرِّس في بحر الأدب وفنونه، كما يمتاز بالحسِّ الفكاهي الذي وظَّفه بعفويَّة في ثنايا الكتاب، وهذه إضافة تحسب له، وتضاف في أدب الرحلات.
السخرية مطلب أساسي في الأدب، وكما يقول عبدالفتاح كيليطو: (عند كل كاتب رغبة في الإضحاك، حتى وإن لم يعلن ذلك صراحة. إنها طريقة في فتنة القارئ وإغرائه، وليس من السهولة أن تحظى بابتسامة القارئ) كيليطو... موضع أسئلة / أمينة عاشور ص 111.
وأكاد أجزم أن السخرية عند الأستاذ زكي تجري في عروقه مجرى الدم، وقد تجلَّت في هذه اليوميات بطرق وأساليب شتى، منها المبالغات في التوصيف، والتشبيهات غير المتوقعة، وكأنه يريد بذلك إيقاظ القارئ إلى آخر صفحة بمفاجآت ضاحكة وأساليب ساخرة لا تنتهي: (فتناول صاحبي بُطْلًا من الـ.. فبدأ يخاطبني بصيغة الجمع حتى توهمت أنه يعظمني وحين تحقَّقتُ الأمر اكتشفت أن الرجلَ يراني ثلاثة في واحد كأني شامبو..إلخ)، (فكانت مني انطلاقة كأنَّني زِهبَة)، (كأنَّ طائفًا من الـ"بف باف" غشينا).
يعتمد في سخريته كثيرًا في توظيف المفردة والعبارات المحلية الضاربة في خصوصيتها، تلك التي لا يصح التعبير إلا بها فلو استبدلها بكلمة فصحى لم تكن لتأخذ هذا الدويَّ من الإضحاك، والمتعة الجاذبة، من هنا يؤكد زكي على حيوية الكلمة المحلية في كسر رتابة الفصحى وجديتها التي لا يتفاعل معها الكثير من القرَّاء، علمًا بأن اللهجات المحلية لها جذور فصحى لو دققنا في اشتقاقاتها، وبحثنا عن شواهدها بين قبائل العرب.
قد يقول قائل بأن المفردة المحلية قد تكون عائقًا أمام عربي آخر في فهمها، وأقول بأن الإحساس بالعبارة يكفي مع أن الكاتب أشار في الهامش إلى شرح معظمها، وأهمل بعضها ربما اعتمادًا على حس القارئ.
خذ على سبيل المثال بعض الأمثلة التي سأسوقها دون ترتيب:
وركبتاي تتلاطخان.. كي لا أكون مَلطَشةً للمتخطرفين... ألحَّت فسكتُّ وأصرَّت فانثبرتُ وقرَّرت فاندحشتُ... فالتصق وجهي بوجه شاب متغضِّن الملامح شَلَولَخ.. فُخنا وحَمقنا.. دَفشِين مزعجين.. وهمسات النسيم تُكوفِخ وجوهنا... إلخ.
ومعاملة بعض التعابير المحلية مُعرَبةً: (فوقًا عليه) كما يصنع إسماعيل ياسين في أفلامه مع بعض المفردات المصرية، أو حتى معاملة بعض المفردات الإنجليزية بخصائص عربية: (سنعمل لك دسكونتًا خاصًّا).. (لم نلتقِ إلا فَيسيًّا). هذه الأمثلة وغيرها تكاد تكون أبرز سمة في طريقته الساخرة.
يفتتح يوميَّات كلِّ سفرة بمقدمة أشبه باستهلال المقامات، ولا تخلو من طريقته العجيبة في المزج بين الكتابة الأدبية الراقية، والأساليب الساخرة، نقرأ له في مقدمته لسفرة تركيا:
وجدتني مضطرًا غارقًا حد الثمالة في رغبة عارمةٍ تحيطني إحاطة المعصم بالسوار؛ لألبِّي دعوة صديقي العذب ناجي حرابة لرفقته لسفرة (غُرُب) على وزن (سهم غرب) أي رحلة لا نعرف وجهتها، ولكنَّه سفرٌ والسلام.
اقترحتُ المغرب فوافق ورفضتُ لأننا زرناها سويَّةً "معًا" العام الماضي، فاقترحت اليونان أو فرنسا فوافقتُ ورفضت الفيزا التي تشترط عشرة أيام للحصول عليها، فقال: شرايك بأندونيسا؟
وبما أني (تمالزتُ) العام الماضي وماليزيا هي أندونيسا تقريبًا رفضتُ.. ثم فكَّرت وبصَّرتُ كثيرًا لكنِّي لم أعرفْ أبدًا بلدانًا تُرضيني وترضيه، فأشار عليَّ بأذربيجان، فكانت كاليونان تتطلب فيزا، قلت شرم الشيخ بمصر.. منها نتطمَّن على (الشيخ) ومنها (نتشرَّم) لنا شوي، فاعترض لقدحه بعدالة الشيخ، قال: ما رأيك بتركيا؟ فخشيتُ إن ذهبتُ أن أكون السلطان في (حريم السلطان)... إلخ.
هذه المقدمة تستعرض لنا الأسباب التي تم اختيار تركيا لسفرهم من خلال حوار حائر وساخر في الوقت نفسه.
ومن سمات السخرية لدى الكاتب اعتماده بعض العبارات اللازمة من صفحة لأخرى، حيث يتلاعب في تحويرها ليصدم القارئ بموجة من الضحك (فأنا – وأعوذ بالله من كلمة أنتَ -...)، كما يتكرر التواضع في أكثر من صفحة، وكأنه هذه المرَّة يسخر من ذاته (لولا وجودي الشريف لكان أجملَ وأحلى من في الطائرة.. لأترك تواضعي جانبًا وأعد "أعود" لصاحبي.. وحين دار في ذهني أن هذا الجمالَ ينقصه الوجهُ الحسن كنت وبكل تواضع نسيت نفسي).
أدعو وبقوَّة لقراءة هذا الكتاب، ليكتشف القارئ متعته الخاصة به، ويتنادم مع السخرية في وجوهها المختلفة، فما أحوجنا إلى الضَّحك، وما أحوج الضحك لنا.
بقي لي أن أشير إلى بعض الملاحظات التي أرجو أن تؤخذ بعين الاعتبار في طبعة ثانية:
1- مراجعة بعض الأبيات الشعرية ففيها نقص يخل بالوزن.
2- استعمال كلمة رهط بمعنى (شخص واحد) في أكثر من موضع، ورهط في اللغة تعني من 7 إلى 10 أشخاص.
3- ملاحظات تتعلق بضبط بعض الكلمات ضبطًا غير صحيح إمَّا إعرابًا أو بناءً، وأخرى تتعلق بدلالة بعض المفردات دلالة خاطئة، وهذه تحتاج لمراجعة النسخة مراجعة لغوية.
تبقى مجرَّد ملاحظات يسيرة لا تقلِّل من قيمة الكتاب ولا الكاتب، فالقيمة الأهم هي هذه المتعة التي تخرجنا من مكابداتنا اليومية حينما نمسك بالكتاب مرة ثالثة وعاشرة.
جديد الموقع
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي
- 2025-12-27 العالم الرقمي و خصوصيتنا