2020/03/20 | 0 | 5057
المنعكس الشرطي والإدراك
الفصل الأخير الذي ختم به السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( 1935 -1980م) رحمه الله كتابه فلسفتنا (1)، هو تفسير الإدراك والشعور الذي فسّره الفكر المادي بأنه مجرد تفاعلات فيسيولوجيا مادية ،ومحل إقامته هو الدماغ ، فهو كالكاميرا . بخلاف الفلسفة الإلهية التي ترى أن الإدراك والفكر موجود مجرد غير مادي ، ومحل إقامته ما يناسب تجرده وهي النفس ، فيكون عندنا وجودان وجود خارجي ووجود ذهني ، وأما الحواس معدات مستقبلة .
الفكر الماركسي فسّر الفكر والإدراك تبعًا لماديته من منطلق مدرسته بنظرية التطور القائم على مبدأ التناقض ، وقال بتطور المادة و استمراريتها من خلال ذلك ، وربطوا مستوى الإدراك والتفكير بالظروف التي حوله وأعلاها العامل الاقتصادي .
جاء عالم اسمه جورج بوليتزر (1903-1942م) فخالف الماركسية وذلك باعتماده على نظرية علمية وهي (الفعل المنعكس الشرطي أو الاستجابة الشرطية ) وتعرف بنظرية بافلوف التي وضعها الطبيب الروسي (إيفان بتروفيتش بافلوف ) (1849-1936م) .
وقد فسّر بافلوف الجهد بفضل تجربة قام بها على أحد الحيوانات ،بأن ما يقوم به الذهن من عمليات إدراكية وشعورية وأحاسيس إنما هو كالآلة ، لا قدرة له إلا على نحو الفاعل الخارجي التي نسميها بالمنبهات فـــ" تمكّن – بافلوف- بمنهج الانعكاسات الشرطيّة من اكتشاف القوانين والآليات الأساسيّة لنشاط الدّماغ. وأدّت دراسة بافلوف لفيسيولوجيا عمليّة الهضم إلى فكرته القائلة بأنّ منهج الانعكاسات الشرطيّة يمكن أن يستخدم لبحث السلوك والنشاط العقلي للحيوانات. وقد أفادت ظاهرة «إفراز اللّعاب نفسيّاً » والعديد من الأبحاث التجريبيّة كأساس للنتيجة التي توصّل إليها عن الوظيفة الإشاريّة للنشاط النفسي ولتوضيح تعاليمه عن النظامين الإشاريين ". (2)
فاكتشف بافلوف أن استجابتنا للأشياء تارة تكون طبيعية وأخرى ثانوية أي من عامل خارجي عنّا وذلك عندما قام بتجربة بأن " يجمع لعاب الكلب من إحدى الغدد اللعابية ، فأعدّ جهازاً لذلك ، وأعطى الحيوان طعاماً لإثارة مجرى اللعاب ، فلاحظ أنّ اللعاب بدأ يسيل من كلب متمرّن قبل أن يوضع الطعام في فمه بالفعل ؛ لمجرّد رؤية الطبق الذي فيه الطعام ، أو الإحساس باقتراب الخادم الذي تعوّد إحضاره .ومن الواضح : أنّ رؤية الشخص أو خطواته لا يمكن اعتبارها منبّهاً طبيعياً لهذه الاستجابة ، كما ينبّهها وضع الطعام في الفم ، بل لا بدّ أن تكون هذه الأشياء قد ارتبطت بالاستجابة الطبيعية في مجرى التجربة الطويل حتّى استخدمت كعلامة مبدئية على المنبّه الفعلي .وعلى هذا يكون إفراز اللعاب ، عند وضع الطعام في الفم فعلاً منعكساً طبيعياً ، يثيره منبّه طبيعي وأمّا إفراز اللعاب عند اقتراب الخادم أو رؤيته ، فهو فعل منعكس شرطي ، اُثير بسبب منبّه مشروط ، يستعمل كعلامة على المنبّه الطبيعي ، ولولا إشراطه بالمنبّه الطبيعي ، لما وجدت استجابة بسببه " وهذه التجربة تسطيع أن تفعلها في الواقع الخارجي مع كل حيوان أو غيره ، كانعكاس تعامل الطفل حين يراك تلبس ثوبك للخروج من المنزل بالتعلق بك ؛ لكي تأخذه معك ، مع أنك ربما تخرج وأنت لا بس بنطلون .
ولتوضيح تجربة بافلوف بهذه المعادلة :
الطعام مثير طبيعي (غير شرطي) إفراز اللعاب عند رؤية الطعام . ينتج (استجابة طبيعية غير شرطي )
صوت الجرس (مثير خارجي شرطي)
تكرار المثير الشرطي (صوت الجرس) عند إحضار المثير الطبيعي (الاستجابة غير الشرطية) . ينتج : الاستجابة الشرطية .
فيهدف هذا الإجراء بسلب الإجراء الشعوري لدى الإنسان وإيعازه إلى منبهات ومن عامل ثانوي فيريد أن " السلوك النفسي عند الإنسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيسيولوجيا مركزها اللحاء المخي عند الإنسان أو الحيوانات العليا ". (3)
هذه التجربة " استغلّته السلوكية ، فزعمت أنّ الحياة العقلية لا تعدو أن تكون عبارة عن أفعال منعكسة فالتفكير يتركّب من استجابات كلامية باطنة ، يثيرها منبّه خارجي وهكذا فسّرت الفكر كما تفسّر عملية إفراز الكلّب لعابه ، عند سماعه خطوات الخادم ، فكما أنّ الإفراز ردّ الفعل الفيزيولوجي لمنبّه شرطي ، وهو خطى الخادم ، كذلك الفكر هو ردّ الفعل الفيزيولوجي لمنبّه شرطي ، كاللغة التي أشرطت بالمنبّه الطبيعي مثلاً ".
فيفسر كل ما هو مرتبط بإدراكاتنا كالتفكير والشعور والأحاسيس إنما هو نتيجة الاستجابة الشرطية ، وهذه محاولة لبيان صحة الدليل المادي للإدراك والشعور ،وأنها نتاج تفاعلات كيميائية فيسيولوجيا , ومن الأمثلة العرفية للإشراط الإيجابي والإشراط السلبي :
ابتسامة المعلمة (مثير غير شرطي )تجاه طفل صغير: تولّد له إحساسًا بالسعادة والسرور (استجابة غير شرطية) نتيجة اقتران هذه الابتسامة بالمعلمة والمدرسة (مثيران حياديان ) ، تغدو المعلمة والمدرسة مثيرين شرطيين قادرين على استجرار استجابة الشعور والسعادة ،وبذلك يصبح الطفل أكثر إقبالا عليهما . وكذا العكس يشمئز الطفل من المدرسة حين يرى معلمته عابسة . (4)
هذه النظرية قيمة ، وإن قُبلت في موارد ؛ لكن لا يمكننا أن نفسّر الإدراك والشعور ، فهي تجربة في المجال العلمي الفيسيولوجي فتعتبر ظنية ، وأما الإدراك والذهن فحقيقته لا تفسره إلا الفلسفة الميتافيزيقيا الذي ترجعه إلى حقيقة وراء هذا البدن المادي .
ومن خطر هذه النظرية : فهي تهدم كل البنى المعرفية ، وتجعلها منبها سلوكيا يشتد ويضعف حسب المأثر الخارجي ، فكيف إذن نعرف صدق هذه النظرية إذن ، ثم ما يدرينا أن بافلوف وقع تحت المنبه الثانوي في نظريته ، فيقع في التناقض ، إلا إذا اعتمد على مبدأ عقلي بديهي كالسببية ومبدأ عدم التناقض :"أضف إلى ذلك أنّ السلوكية في رأيها هذا ـ القائل بأنّ الأفكار استجابات شرطية ـ تقضي على نفسها وتنزع القدرة على الكشف عن الواقع والقيمة الموضوعية ، لا من سائر الأفكار فحسب ... وليست نتيجة للاستدلال والبرهان ، وبالتالي تصبح كلّ معرفة تعبيراً عن وجود منبّه شرطي لها لا عن وجود مضمونها في الواقع الخارجي ، والفكرة السلوكية نفسها لا تشذّ عن هذه القاعدة العامّة ، ولا تختلف عن كلّ الأفكار الأخرى في تأثّرها بالتفسير السلوكي ، وسقوط قيمتها ".
وتفسير المنبه الثانوي الذي أثار لعاب الكلب وغيره هو الإدراك لا غير ، "فخطوات الخادم باقترانها مع مجيء الطعام في تجارب متكرّرة أصبحت تدلّ على مجيئه ، وأصبح الكلب يدرك مجيء الطعام عند سماعها ، فيفرز لعابه استعداداً للموقف الذي يبشّر به المنبّه الشرطي وكذلك الطفل إذ يبدو عليه شيء من الارتياح عند تهيّؤ مرضعته لإرضاعه ، بل عند إخباره بمجيئها إذا كان يملك فهماً لغوياً ؛ فإنّ هذا الارتياح ليس مجرّد فعل فيسيولوجي منعكس عن شيء خارجي ارتبط بالمثير الطبيعي ، بل هو منبثق عن إدراك الطفل مدلول المنبّه الشرطي ، إذ يستعدّ ـ حينئذٍ ـ للارتضاع ، ويشعر بارتياح ".
جاءت مدرسة الجشطالت احتجاجا على نظرية بافلوف ( المدرسة السلوكية الآلية) ، وقامت هذه المدرسة " على يد ماكس فريتمر، كورت كوفكا وبافولف جالج كوهلر هؤلاء العلماء المؤسسون رفضوا ما جاءت به المدرسة السلوكية من أفكار حول النفس الإنسانية. فقاموا بإحلال المدرسة الجشطلتية محل المدرسة الميكانيكية الترابطية، وجعلوا من مواضيع دراستهم: سيكولوجيا التفكير و مشاكل المعرفة ". (5)
فمدرسة الجشطالت أو علم النفس الغشتالتيي و معناها صيغة أو شكل "تأسس على نظرية الغَشتَلت التي وضعتها مدرسة برلين تشكل نظرية حول العقل والدماغ تفترض أن المبدأ العملي للدماغ كلاني ... تعني ببساطة أنه من الضروري اعتبار الكل، لأن الكل له معنى مختلف عن الأجزاء المكونة له" فهي تعني تشكل المجموع من الصور لا أن يصل جزء جزء . (6)
فقدمت هذه المدرسة تجارب منها تجربة الصندوق ، فقام كوهلر بوضع أحد القردة وهو جائع في حظيرة يتدلى من سقفها موز ، لكنه لا يستطيع القرد الوصول إليها ،وفي داخل الحظيرة صناديق فارغة في إحدى زواياها بحيث يدرك الحيوان وجودها ، فبدأ القرد بمحاولات كثيرة للوصول للموز ، كلها باءت بالفشل ، وكلما فشل رجع إلى مؤخرة الحظيرة غاضبا ومستسلما . فجأة ذهب القرد إلى أحد الصناديق ثم اندفع إلى صندوق ودفعه دفعه خفيفة ، ثم ذهب إلى صندوق آخر ووضعه على الأول حتى أصبح أسفل الموز ، ثم انتهى إلى وضع الصناديق فوق البعض حتى استطاع أن يمسك بالموز ويتناولها . (7)
فبرهنوا على صحة نظريتهم من خلال : الاستبصار: بمعنى أن الإدراك يدرك الأمور بجلاء وله القدرة على حل المشكلة إذا كان واضحا . ثم التنظيم وإعادة التنظيم . والانتقال: وهو التعلم في المواقف المشابهة . فيظهر الفرد التعلم من ذاته بما يسمى بالتعزيز أو الدافعية الأصلية . (8)
ومن التطبيقات التربوية لنظرية الجشطلت التعلم الذاتي أو العصف الذهني كــ " - التأكيد على المعنى والفهم، فيجب ربط الأجزاء دائما بالكل فتكتسب المغزى، فمثلا تكتسب الأسماء والأحداث التاريخية أكبر مغزى لها عند ربطها بالأحداث الجارية أو بشيء أو بشخص هام بالنسبة للطالب. ومن ذلك : – إظهار المعلم البنية الداخلية للمادة المتعلمة والجوانب الأساسية لها بحيث يحقق البروز الإدراكي لها بالمقارنة بالجوانب الهامشية فيها، مع توضيح أوجه الشبه بين المادة المتعلمة الحالية وما سبق أن تعلمه الطالب مما يساعد على إدراكها بشكل جيد.– تدريب الطلاب على عزل أنفسهم إدراكيا عن العناصر والمواد والظروف الموقفية التي تتداخل مع ما يحاولون حله من المشكلات " . (9)
وعلى أساس هذه المدرسة أثبتت بطلان المدرسة السلوكية " إذ برهنت هذه التجارب على أنّ من المستحيل أن نفسّر حقائق الإدراك على أساس سلوكي بحت ، وبوصفها مجرّد استجابات للمنبّهات المادّية التي يتلقّى الدماغ رسائلها في صورة عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة ، بل يجب ـ لكي نفسّر حقائق الإدراك تفسيراً كاملاً ـ أن نؤمن بالعقل ودوره الإيجابي الفعّال وراء الانفعالات والاستجابات العصبية التي تثيرها المنبّهات " .
فالنتيجة أن القرد مارس عمليات حتى أدت به النتيجة إلى أن يصل إلى مبتغاه ، وهذا المبتغى لم يأت إلا من خلال خبراته ، ومقارنته ، واستنتاجاته من خلال : نظام للعلاقات بين الأشياء ثم يفرزها إلى مجاميع ، ويحدّد لكلّ شيء موضعه من مجموعته الخاصّة ، ويطوّر نظرتنا إليه تبعاً للمجموعة التي ينتمي إليها ، "فالقرد تعلم من الموقف واستفاد من خبراته في المواقف الجديدة ، فوصل القرد إلى الاستبصار وهو بمعنى أن يصل الكائن الحي لنتيجة مرضية أو مشبعة وهي تعني أن الكائن عندما يتعرض لمواقف جديدة فأنه يستفيد من خبراته فيستخدم السلوك القديم مع المواقف الجديدة ومن هنا يمكن القول أن تعلم في المواقف القديمة واستفاد منها في المواقف الجديدة على عكس التعلم الصدفي وهو الذي يأتي بالصدفة والوصول للنتيجة مره واحده فقط ولا يستطيع تكرار ما فعله لان الكائن الحي لا يعي ما تعلمه ". (10)
ولو كان كما قالت المدرسة السلوكية " لما أُتيح لنا أن ندرك الأشياء بأبصارنا ككلّ منظّم ترتبط أجزاؤه ارتباطاً خاصّاً ـ حتّى إنّ إدراكنا لها يختلف إذا أبصرناها ضمن علاقات أخرى ـ لأنّ جميع ما يصل إلى الدماغ في الإدراك يتألّف من مجموعة من الرسائل ترد إلى المخّ من مختلف أعضاء الجسم مجزّأة ضمن عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة ".
وأوضح من ذلك قوله "أنّ الأشياء الخارجية قد تقذف إلى الدماغ برسائل متفرّقة ، وهي : استجاباتنا للمنبّهات الخارجية في عرف السلوكية ، وقد يحلو للسلوكية أن تقول : إنّ هذه الاستجابات والرسائل المادّية التي تمرّ في الأعصاب إلى المخّ هي وحدها المحتوى الحقيقي لإدراكنا ، ولكن ماذا تقول عن إدراكنا لنظام من العلاقات بين الأشياء يجعلنا نحسّ أوّلاً بالكلّ الموحّد وفقاً لتلك العلاقات ؟ مع أنّ نظام العلاقات هذا ليس شيئاً مادّياً ليثير انفعالاً مادّياً في جسم المفكّر واستجابة أو حالة جسمية معيّنة ، فلا يمكننا أن نفسّر إدراكنا لهذا النظام ، وبالتالي إدراكنا للأشياء ضمنه على أساس سلوكي بحت".
ولمّا نسأل الماركسية سبب التمسك بنظرية بافلوف ، لتصحيح ما تذهب إليه بأن كل شيء يتطور بفضل وببركة التناقضات فقالوا بتطور المادة ، وتبعا للك التاريخ والاقتصاد حتى وصلوا بالقول بمادية الفكر والشعور، وأفضل تفسير له هو أنه يتطوّر طبقاً للظروف الخارجية والمجتمع ،حتى جهازه العضوي لا دخل له ، .ومن ذلك اللغة التي هي أداة الفكر . ومن جملة ما استشهد بأقواله قول الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين (1878-1953م) "يقال : إنّ الأفكار تأتي في روح الإنسان قبل أن تعبّر عن نفسها في الحديث ، وإنّها تولد دون أدوات اللغة إلاّ أنّ هذا خطأ تماماً ، فمهما كانت الأفكار التي تأتي في روح الإنسان ، فلا يمكن أن تولد أو توجّه إلاّ على أساس أدوات اللغة فاللغة هي الواقع المباشر للفكر".
فلا نقبل تفسير الماركسية في القول : بأن الإدراك آلي و فعل منعكس شرطي ، وأيضا لا نقر لهم بأن التطور كالظروف الخارجية أو المجتمع هو نتيجة للإدراك .
ومن الأمثلة التي يضربها السيد لعملية التذكر والحفظ ، من دون أن يوجد منبه خارجي فعندما "يلتقي زيد وعمرو يوم السبت ، فيأخذان بالحديث مدّة ، ثمّ يحاولان الافتراق ، فيقول زيد لعمرو : انتظرني في صباح الجمعة الآتية في بيتك ويفترقان بعد ذلك وينصرف كلّ منهما إلى حياته الاعتيادية ، وتمرّ الأيام حتّى يحين الموعد المحدّد للزيارة ، فيستذكر كلّ من الشخصين موعده ، ويدرك موقفه بصورة مختلفة عن إدراك الآخر ، فيبقى عمرو في بيته ينتظر ، ويخرج زيد من بيته متوجّهاً إلى زيارته . فما هو المنبّه الشرطي الخارجي الذي أثار فيهما الإدراكين المختلفين بعد مرور عدّة أيام على الميعاد السابق ، وفي هذه الساعة بالذات ؟! وإذا كان الكلام السابق كافياً للتنبيه الآن ، فلماذا لا يتذكّران الآن جميع أحاديثهما التي تبادلاها ؟! ولماذا لا تقوم تلك الأحاديث بدور التنبيه والاستثارة ؟!".
فيرى السيد : أن " الفكر نشاط إيجابي فعّال للنفس ، وليس رهن ردود الفعل الفيسيولوجيا ، كما أنّه ليس هو الواقع المباشر للّغة ، كما زعمت الماركسية ، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار ، وليست هي المكوّنة لتلك الأفكار ، ولذا قد نفكّر في شيء ، ونفتّش طويلاً عن اللفظ المناسب له ؛ للتعبير به عنه ، وقد نفكّر في موضوع ، في نفس الوقت الذي نتكلّم فيه عن موضوع آخر فالحياة الاجتماعية والظروف المادّية ـ إذن ـ لا تحدّد أفكار الناس ومشاعرهم- بصورة آلية- عن طريق المنبّهات الخارجية . نعم ، إنّ الإنسان قد يكيّف أفكاره تكييفاً اختيارياً بالبيئة والمحيط ، كما نادت بذلك المدرسة الوظيفية في علم النفس تأثّراً بنظرية التطوّر عند لامارك – عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست بيير أنطوان دو مونيه شوفالييه دو لامارك (1744-1829م)، والمعروفة بنظرية لامارك.
وهي نظرية في البيولوجيا ثم طوّرها تشارلز داروين ، يقول لامارك أن التغير التدريجي مستمر خلال فترات متباعدة زمنيا لا فترات قصيرة ، والمعتمدة على قانوني الاستعمال والإهمال ، كالزرافة كانت رقبتها قصيرة لكنها أحبت أن تمدها لتأكل ورق الأشجار فمع مرور الزمن ازداد طولها نتيجة الاستعمال ، فورثتها للأجيال المتعاقبة ، فكما أنّ الكائن الحيّ يتكيّف عضوياً تبعاً لمحيطه ، كذلك الأمر في حياته الفكرية فقد أكّد على موضوعين رئيسيّين في عمله البيولوجي، لا يتعلّق أي منهما بالميراث الليّن – أي وراثة الخصائص المكتسبة- . الأوّل هو أن البيئة تؤدّي إلى تغييرات في الحيوانات. وذكر أمثلة كوجود الأسنان في الثديّات وغياب الأسنان في الطيور كدليل على هذا المبدأ. المبدأ الثاني هو أن الحياة كانت منظّمة بطريقة ما وأن العديد من أجزاء مختلفة من جميع الهيئات تجعل الحركات العضويّة للحيوانات ممكنة. (11)
وقد استنتج لامارك من دراسته للنبات أن المزروعات والحيوانات تغيّر أشكالها لتتلاءم مع بيئتها، وأن هذه التغيّرات تنتقل إلى نسلها. وقد ساعدت دراساته لحياة النبات والحيوان عالم الطبيعة تشارلز داروين كثيرا في أبحاثه حول نظرية النشوء والارتقاء . (12)
لكن نظرية لامارك يوجه لها نقد من أهمها أن توارث الصفات المكتسبة لا يؤيده واقع ؛لأن الصفات التي تورث هي من خلايا جنسية لا جسدية ، ولا سند علمي كتجربة العالم أوغست وايزمان (1834-1914م) والتي " كانت مساهمته الرئيسية هي نظرية البلازما الجرثومية، والتي تعرف أيضاً باسم الوايزمانية والتي تنص على أنه (في كائن متعدد الخلايا) لا يحدث التوارث إلا عن طريق الخلايا الجنسية — الخلايا الجنسية أو الأمشاج مثل البويضة والحيوانات المنوية. لا تعمل الخلايا الأخرى في الجسد — الخلايا الجسدية— كعوامل وراثية. (13) فالحداد الذي تنمو عضلات يديه من استعمال المطرقة نراه ينجب أطفال عاديين . (14)
خلاصة الأمر أن هناك فرق بين التكيف في الأفكار العملية بمقتضيات البيئة في الخارج ، والأفكار التأملية الذهنية كالرياضيات والمنطق . فيوجد في الأول لا الثاني ، ولو قلنا بالتكيف في الثاني "لكان مصير ذلك إلى الشكّ الفلسفي المطلق في كلّ حقيقة ؛ إذ لو كانت الأفكار التأمّلية جميعاً تتكيّف بعوامل المحيط ، وتتغيّر تبعاً لها ، لم يؤمن على أيّ فكرة أو حقيقة من التغيّر والتبدّل ". ثم أن التكيف الأول إنما هو اختياري إرادي منسجمًا مع محيطه وبيئته لا آلي .
وبذلك يتحقق الانسجام كما يرى السيد بين مدرستين من مدارس علم النفس وهما الوظيفية والغرضية ، والتي رفضت الآلية .
فالأولى : مؤسسها الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس(1842-1910م) والمتأثر بداروين التي ترى أن " نوع الكائن الحي و استمرارية حياته تأتي عن طريق عملية الاختيار عبر الزمن، وحاول جيمس أن يطبق نظرية داروين على الانسان حيث لاحظ أن الوعي أو الشعور هو من أهم الصفات التي تميز الانسان وهكذا استنتج أن موضوع علم النفس هو دراسة وظيفة الشعور وليس تركيبته" فاهتمت بالأفراد كيف يكيّفون سلوكياتهم في حياتهم ، ولذا من اهتماماتها : نمو الطفل ، والاختبارات العقلية . (15)
الثانية : ومؤسسها الأسكتلندي وليم مكدوجل (1871- 1938م) وترى أن " الغايات والأغراض تقوم بدور هام في تعيين السلوك وتوجيهه ، فكل سلوك يصدر من الكائن الحي يهدف إلي غاية ويتجه لتحقيق هدف حتي أن لم يكن شاعراً بهذا الهدف " . (16)وقد أثبت نظريته بتجربة قام بها بــــ" وضع فأر في صندوق فيه فتحتين احدهم مضيئة والاخرى مظلمة ، وقد سلط الضوء على الفتحة المضيئة وقاس عدد المحاولات التي اخطأ فيها الفار من الفتحة المضيئة فوجد أنها ( 165 ) محاولة ثم أعاد التجربة على الاجيال اللاحقة حتى قلّ عدد الأخطاء الى ( 15 خطأ ) في الجيل الثالث والعشرين ، وبهذه النتيجة اعتبر مكدوجل ان السلوك المكتسب يمكن ان يورث " . ومن خصائص تلك المدرسة أن كل غرض يقوم به أي كائن يكون عن قصد حتى وإن كان العمل تافهًا . (17)
في الختام : نجد أن كل المحاولات لتفسير الإدراك على القيمة العلمية ، ومن دون الاستهانة بأصحابها ، فإنهم خلطوا بين المباحث العلمية (الطبيعيات – الفيسيولوجيا ) وبين مباحث الفلسفة ، ومن هنا وقعوا في حيرة من أمرهم ،وإن شاء الله نوفّق في مقالة لاحقة في عرض الفلسفة الإسلامية في تفسير الإدراك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
(1) فلسفتنا ،تأليف الإمام السيد محمد باقر الصدر ، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر ، ص336-344
(2) https://ar.wikipedia.org/wiki
(3) http://edu4techs.com/archives/2112
(4) http://edu4techs.com/archives/2112
(5) https://ar.wikipedia.org/wiki
(6)https://ar.wikipedia.org/wiki
(7) https://www.youtube.com/watch?v=2XJd3iTq2UU
(8) https://www.new-educ.com/les-theories-dapprentissage-gestalt-theorie
(9) https://www.new-educ.com/les-theories-dapprentissage-gestalt-theorie (10)http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/lecture.aspx?fid=13&lcid=67173
(11)https://ar.wikipedia.org/wiki/جان_باتيست_لامارك
(12)https://www.marefa.org/جان-باتيست_لامارك
(13) https://ar.wikipedia.org/wiki/أوغست_وايزمان
(14). https://www.youtube.com/watch?v=0se6KTldH28 (15)https://www.marefa.org/%D8%B9%D9%84%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D9%8A
(16)https://zedony.com/7380 (17)http://www.uobabylon.edu.iq/uobColeges/lecture.aspx?fid=10&depid=1&lcid=8
جديد الموقع
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 أمانة الاحساء: تطوير ميدان سلوى وزراعة 45000 ( شتلة زهور صيفية)
- 2024-05-21 سماحة الشيخ عبد الله اليوسف: صديق الكتاب وحليف القلم والقرطاس.
- 2024-05-21 سمو محافظ الأحساء يكرّم فريق كرة اليد بنادي العيون بمناسبة الصعود للدرجة الأولى
- 2024-05-21 عرس تكريم الفائزين والفائزات بجائزة الصالح للتفوق العلمي الدورة "18" رعته صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة بنت فيصل
- 2024-05-21 تعليم الشرقية يشارك بركن توعوي تزامناً مع اليوم العالمي للامتناع عن التدخين 2024
- 2024-05-21 نائب أمير الشرقية يرعى حفل تخريج 61 طالبا وطالبة من أكاديمية "زادك"
- 2024-05-21 المملكة تستعرض جهود منظومة المياه لتطوير القطاع أمام الدول المشاركة في معرض المنتدى العالمي للمياه بإندونيسيا
- 2024-05-21 في اليوم الأول من مهرجان الكتاب الثاني تجارب في الكتابة وقصائد شعرية و١٦ منصة توقيع للكتاب المشاركين بأدبي الشرقية