2020/03/09 | 0 | 3938
السينما ضرورة كما فهمها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز( 1925-1995)
لا يخفى على الكل أن ما تقوم به السينما والقدرة الفائقة في ن تغزو العالم بمنتجيها وممثليها ، أصبح حلم الكثير من الرواد في أن يتحقق عندما نظروا إليها نظرة عميقة موغلة ، والبحث عن غورها ومكامن أسرارها ، باعتبارها أنها جزء لا يتجزأ من العلوم فضلا عن الفنون .
وحديث الفلاسفة وإن كان غريبا نوعا ما ، وغير مألوف في دراستهم ، والذي كان قديما هو المعني بتصنيف العلوم والفنون ، قسموا الفلسفة إلى نظرية وعملية ، وظهرت مجموعة من الفنون التي تظهر على شكل إبداع تارة ، وتارة على أسليب استخدموها للنقض والجدل .
و الفلسفة تعنى بالوجود وأحكامه ، وهي من القضايا العقلية أو كما يقال المعقولات الثانوية ، وهي قائمة على الكشف والتحليل والفهم ، تمنى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ( 1844-1900) أمنية أراد تحقيقها حينما قال " فيلسوف المستقبل هو تحديدا الفيلسوف الفنان" . (1)
ولم يحقق تلك المحاولة والتي حاولها الكثير قبله من بيان عظمة الفن عموما والسينما بشكل خاص ،إلا على يد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ففي محاضرة مسجلة باليوتيوب عن العمل الإبداعي بهذا السؤال : ماذا يعني أن يكون لديك فكرة (idea ) في السينما ؟ فالفكرة سواء في العلوم أو الفلسفة أو الفنون أو الرسم أو السينما ، فالفلسفة تعني التفكير في كل شيء وهذا مجالهم، وكذا السينمائيون القدرة في التفكير ، فلكل واحد منهم مجاله ، وكل منهم إبداعه .وهو بتعريف يقرب لنا كيف أن السينما حالها حال غيرها من الإبداع يقول " كتل حركات –مدة زمنية" فنجد : الفلسفة تسرد حكايات مفاهيم ، والرسام كتل من خطوط الألوان ، والموسيقى والعلوم أيضا . فلا يوجد تعارض فالكل يبتكر فالعالم والفنان كلاهما مبتكران . والمشترك بين الابتكارات هو المكان والزمان ، ومنهما تتواصل العلوم والفنون .(2)
لقد ناضل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز لتحقيق هذه الأمنية ، وهو يعد من فلاسفة الاختلاف والتكرار أو فلاسفة المعاودة ، وهو الذي يعني "وضع صورة جديدة للفكر متحررة من مسلمات التمثيل " أو " الإضفاء على المعاودة معنى الإبداع وربطه بالتجديد " (3)، وكان " البحث عن وسائل جديدة للتعبير الفلسفي كان قد دشّن من قبل نيتشه وينبغي اليوم أن تتمّ متابعته في صلة بالتجديد الذي شهدته بعض الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما" (الفرق والمعاودة، ص4) ".(4)
ولكن على درجة عالية من اليقين بإدخال هذا الكائن –إن صحت تسميته- في مجال الطفرة التكنولوجيا ،والتي أحدثت ردة فعل قوية على مستوى العالم حتى أُعطي لقب (الفن السابع) وهي : نحت/عمارة -رسم/زخرفة -تلوين تمثيلي/تلوين صرف - موسيقى تعبيريّة أو وصفيّة/موسيقى - إيماء/رقص - أدب وشعر/بيان وعروض صرف - سينما/إضاءة .
" بعد ولادة السينما وتطوّرها لتصبح ناطقة ثم ملوّنة تحوّلت إلى بوتقة لجمع الفنون سواء في الأفلام التمثيلية أو في أفلام الرسوم المتحركة والدمى المتحرّكة .(5)
فأعطى دولوز للسينما زخما أعلى حين صارت " الصورة السينمائية، باعتبارها أوتوماتيكية، تنشئ الحركة ذاتياً. في حين أن الصور التشكيلية ثابتة ". (6)
فأوجد في السينما حدثًا معرفيا كبيرا وملموسا يراه الكل ، وتدعمه المنظمات والدول ، وهو الآن يتصدر المشهد كله ويحتويه ، بعد أن كان كما صورته نظرية الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهمان (1911-1980) بالوسيلة الساخنة ، وهي " الوسائل الجاهزة ومحددة الأبعاد نهائيا ،وهي لا تحتاج من المشاهد أو المستمع إلى أي جهد يبذله للمشاركة أو المعايشة . أمثال : الطباعة والسينما ". (7)
فيذكر دولوز قوله أنه :" لا يظهر جوهر أي شيء في البداية ،ولكن في منتصف الطريق أثناء تطوره حينما تتأكد قوته ".(8)
فلم تصبح بفضل السينما الفن السابع (أب الفنون) إلا بعد أن أدرك الجميع ما لها من الأهمية الكبرى ، وفي رأيي هي نتاج تلك النظريات المبثوثة على أروقة الفلاسفة ، وإن أصبح الأمر غير مستساغ للبعض "فإذا كانت الفلسفة خطابًا سمته التحليل و الإفهام والكشف عن مقاصد ورؤى و مواقف محددة وتبرير أطروحات معينة ،فإن السينما بما هي مجال إبداعي تقني يقوم على بناء صورة متحركة ، تبدو أمرًا بعيدا كل البعد عن الفلسفة وتكون بذلك العلاقة بينهما أمرًا غريبًا أو على الأقل أنها ليست بديهية " .(9)
ولذا تصبح السينما ( جنس لا فلسفي ، والفلسفة تحتاج إلى لا فلسفي ، المؤلفان اللذان خلّفهما دولوز في السينما هي مؤلفات فلسفية ، فتكون السينما تفكير مجسّد حسيا وانفعاليا ) .
فالنتيجة التي وصل إليها جيل دولوز في المؤلفين السينمائيين أنْ جعلهم في مصاف المفكرين ، يقول :" لقد بدا لنا من الممكن مقارنة المؤلفين السينمائيين الكبار ليس فقط مع الرسامين والمهندسين والمعماريين والموسيقيين ،وإنما مع المفكرين أيضًا " . (10)
بمعنى أنه لا يمكن الفصل بين الإبداع الفني والتفكير الفلسفي ، وذلك من خلال إبداع هؤلاء بــ المجال السينمائي فألف كتابيه ( سينما الصورة - الحركة . سينما الصورة - الزمن ) .
فأصبح السينمائيون بفضل دولوز من أصحاب الفلسفة ومن المفكرين . بل وأكثر فــ " لكأن عمل الفيلسوف من منظور دولوز منشد إلى أبعد الحدود إلى عمل السينمائي ،ولكأن الفلسفة ضمن هذا الاعتبار تتحول برمتها إلى إبداع سينمائي خاصة ... فالمشروع الفلسفي لم يعد منفصلا بأي شكل عن الإبداع السينمائي ، إذ الصورة هي الجهاز الذي يمثل منطلقا للتصور أي بمعنى أدق للتفكير ، ففي عصر الشاشة ما لا يقبل الرؤية لا يتمتع بأي وجود فقد تبخرت الكائنات اللفظية" .(11)
يعرف دولوز السينما بأنها " المنظومة التي تعيد تأليف الحركة من خلال ردها إلى أية لحظة من اللحظات " . (12)
وهذا التعريف تجد مثيل له في الفلسفة ، فأوجد التشابه بينهما فالصورة - الحركة " يتم تصنيف الصور والعلامات على مهمة تشخيصية أركيولوجية(13) ينفذ الفيلسوف إلى عمق مفهوم الصورة فيكشف عن عمقه وتجذره الفلسفي كانت خاصة بها " . (14)
ولذا صدّر في كتابه الأول : فلسفة الصورة /الحركة (movement)فيقول عن الفيلسوف الذي وجده قد تحدث عن السينما وهو الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ( 1859-1941) وكتابه مادة وذاكرة أنه قال " برغسون : لم يعد بالإمكان النظر إلى الصورة كحقيقة فيزيائية داخل العالم الخارجي ، والنظر إلى الصورة كحقيقة نفسية داخل الشعور ، إن الاكتشاف البرغسوني لصورة – حركة وبصورة أعمق لصورة – زمن ، ما يزال يحتفظ حتى اليوم بنضارته وثرائه " . (15)
ويهتم بترتيب الصور والعلامات كما تظهر في السينما ، وأول نمط للصورة الحركة بتغييراتها الأساسية أي الصورة المدركة والصورة الانفعالية والصورة الفعل . ينشغل الفيلسوف كذلك بمسألة التركيب . ويستحضر الفيلسوف المخرج والسينمائي .
فالتركيب ماهية الفيلم فهو الفكرة المؤسسة هذا التركيب رغم كونها عملية تندرج ضمن الإبداع السينمائي التقني ،فإنها ليست شيئا آخر غير التفكير أي أنها تتأسس على المفاهيم الفلسفية .
والحركة على وجهين :
"ما يحدث بين الموضوعات أو بين الأجزاء . ما يعبر عن الديمومة أو عن الكل .
وما يحدث هو أن الديمومة فيما هي تغير من طبيعتها تتجزأ داخل الموضوعات ، و أن الموضوعات فيما هي تتعمق ،وبالتالي هي تفقد حدودها، تتجمع داخل الديمومة " . (16)
وعن الفرق بين كتابه هذا وكتاب (فلسفة الصورة– الزمن ) أن الأول : يشكل الزمن على نحو تجريبي . بينما الثانية ليست تجريبية تبعية الحركة للزمن . (17)
فقد تناول في هذا الكتاب مثلا المونتاج وهو التأليف والتركيب أو كما يراه "من خلال عمليات مطابقة عنصري الصورة والصوت ،والقص والتشذيب ،ولقطات الترابط " (18) وهذا الذي يربط الفلم من أوله إلى آخره ، وأنت لا تحس بهذه الديمومة من الزمن الذي قطعه .
وهذا المونتاج هو الذي يولّد للفلم الحياة ويعطيها التواصل الذي ينشده المنتِج لجمهوره فهو " يمثل ولادة جديدة للسينما ضمن الواقعية ، وتتضمن حقيقة وظيفية محددة وفقًا لمتطلبات الوضعية أي ما تفترضه عملية المونتاج ، لكن مع الواقعية الجديدة تتخذ الأشياء والوسائط حقيقة مادية مستقلة . أي "الصورة –الحدث" كما يؤكد الناقد السينمائي أندريه بازان (1918- 1958) ضرورة التمسك بالمعايير الجمالية الشكلية ". أي الواقع يكون مستهدفا لا كما ومنسوخا ،واقع لكي يحل رمزه ويكشفه . "يؤكد دولوز أنه بهذه الكيفية أي على مستوى الواقع لا يضمن أن نكون فعلا واقعيين ،إذ ليس من المؤكد أن الذهن أو الفكر لم يتدخل ضمن هذه العملية . إن الصور والادراكات والانفعالات أفعال سترزح تحت هذا التغيُّر الذي يحدثه الفكر وإن الصور تحمل إلى دلالات جديدة تتجاوز الحركة ". (19)
وأما الكتاب الثاني فقد أراد فــ " المعنى المعاصر للصورة يبرز أنها تعبيرية تبيّن عن نمط جديد للوجود في العالم ... الصورة كحركة هي في واقع الأمر جسد يخاطب جسدا آخر ،لا بفعل آلية اللغة وإنما ضمن لغة تحويها الصورة كحركة ،فالأصوات لم تعد هي أداة التواصل ،وإنما الصورة هي التي تحوي زخما لغويا تواصليا " وهذا ما تجد عظمة الصورة والمرئيات قبل الصوت . (20)
خلاصة :
ما تقدم ليس الأمر إعجاب بما قدّمه هذا الفيلسوف بقدر ما ,صلته فطنته من تنبهه بضرورة البحث عن كل ما يخدم القضية الإنسانية ، وأن لا تهمل حتى وإن همّشها الماضون . و الأمر الآخر الذي شدّني فيه أنه ينبغي أن تقدم العلوم بما فيها النظري ، أنها إذا أرادت أن تحيا بين الشعوب هو أن تبتعد عن الفرادة والتوحد ، والدرس بين أروقة الجامعات والمدارس .
الهوامش :
1- نوفمبر 5, 2017د. كمال الزغباني https://hekmah.org/%d8%af%d9%88%d9%84%d9%88%d8%b2/
2- جيل دولوز إبداه المفاهيم (فيديو) https://www.youtube.com/watch?v=AhY_wRcm5DA
3- المفهوم الفلسفي عند جيل دولوز ، زهير قوتال ، المركز العربي للأبحاث والدراسات إسهامات ،تحت فصل (قلب الأفلاطونية)
4- الفلسفة والسينما في فكر جيل دولوز
https://www.alawan.org/2013/12/08/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%88%D8%B2/
5- ويكبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9
6- د. كمال الزغباني . نوفمبر 2017 https://hekmah.org/%d8%af%d9%88%d9%84%d9%88%d8%b2/
7- نظرية مارشال ماكلوهان
https://hhelwa.wordpress.com/2017/02/11/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B4%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%A7%D9%83%D9%84%D9%88%D9%87%D8%A7%D9%86/
8- ما هي السينما من منظرو أندريه بازان ، دادلي أندرو ، ترجمة زياد إبراهيم ، مؤسسة هنداوي 2017ص13
9- جيل دولوز ، سياسات الرغبة ، تحرير أحمد عبد العليم عطية ، دار الفارابي 2011، ص 245
10- الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة ، جيل دولوز ، ترجمة حسن عودة ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1997م ، ص4
11- جيل دولوز سياسات الرغبة ص251
12- الصورة - الحركة ص12
13- (فرع علم الإنسان الأنثروبولوجي وهو يركز على المجتمعات والثقافات البشرية الماضيى وليس الحاضرة ويكبيديا)
14- جيل دولوز سياسات الرغبة ص256
15- الصورة – الحركة ص3
16- الصورة – الحركة ص19
17- جيل دولوز سياسات الرغبة ص261
18- الصورة الحركة ص45
19- جيل دولوز سياسات الرغبة ص264-265
20- جيل سياسات الرغبة ص268-269
جديد الموقع
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 أمانة الاحساء: تطوير ميدان سلوى وزراعة 45000 ( شتلة زهور صيفية)
- 2024-05-21 سماحة الشيخ عبد الله اليوسف: صديق الكتاب وحليف القلم والقرطاس.
- 2024-05-21 سمو محافظ الأحساء يكرّم فريق كرة اليد بنادي العيون بمناسبة الصعود للدرجة الأولى
- 2024-05-21 عرس تكريم الفائزين والفائزات بجائزة الصالح للتفوق العلمي الدورة "18" رعته صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة بنت فيصل
- 2024-05-21 تعليم الشرقية يشارك بركن توعوي تزامناً مع اليوم العالمي للامتناع عن التدخين 2024
- 2024-05-21 نائب أمير الشرقية يرعى حفل تخريج 61 طالبا وطالبة من أكاديمية "زادك"
- 2024-05-21 المملكة تستعرض جهود منظومة المياه لتطوير القطاع أمام الدول المشاركة في معرض المنتدى العالمي للمياه بإندونيسيا
- 2024-05-21 في اليوم الأول من مهرجان الكتاب الثاني تجارب في الكتابة وقصائد شعرية و١٦ منصة توقيع للكتاب المشاركين بأدبي الشرقية