2021/09/03 | 0 | 3797
الفرزدق وميميته المشهورة في الإمام زين العابدين
بمناسبة وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام (38هــ-94أو95هــ) نضع بين يدي القارئ الكريم ما سجله الفرزدق (همام بن غالب بن صعصعة 20هــ - 110هــ ) موقفا مشرفا في مديحه للإمام، تلك القصيدة التي فاقت شهرتها الزمان والمكان والتي توارثتها الأجيال الإسلامية جيل بعد جيل، فأحببنا أن نضع بعض ملاحظاتنا النقدية حولها فهي قصيدة حملت اسم شاعر كبير لا يضاهيه أحد وقد وضعه ابن سلام الجمحي في الطبقة الأولى من فحول الإسلام(1)، فالشاعر يطول بنا المقام في تعداد مآثره وتكونه الشعري، لكن على مستوى هذه المقالة لنا فيها مجموعة من المحاور:
المحور الأول: معالم تكون شخصيته
المحور الثاني: المبدأ الذي يتمسك به الفرزدق
المحور الثالث: في تشيع الفرزدق
المحور الرابع: في قصيدته والنقود
المحور الخامس: دلالات هذه القصيدة
أما المحور الأول فقد تكون من قبيلة تميم التي يطول المقام في تعداد مآثرها التاريخي واللغوي، فقد كان جد الفرزدق (صعصعة) وريث الموقف البطولي الذي لازمه طيلة حياته في الجاهلية إلى الإسلام بلقب محي الموؤودات في أيام الجاهلية ففدى نحو300 أو 400 فتاة من الموت المحتوم من آبائهم خوفَ الفقر والفاقة، يقول الفرزدق مفتخرا بهذا الصنيع: (على حين لا تحيا البنات وإذ هُمُ عكوف على الأصنام حول المدوّرِ)(2)، وسمة الكرم التي اشتهر بها أبوه غالب عندما جاء وهو ذو الإبل الكثيرة إلى الإمام علي عليه السلام يوم الجمل فقال له الإمام(ما فعلت إبلك قالَ ذعذعتها الحُقُوق وأذهبتها الحمالات والنوائب قالَ ذاك أحْمد سَبِيلهما)(3)، جاء بالفرزدق أيضا وهو في عمر 16 سنة إلى الإمام عليه السلام فقال له (إن هذا ابني من شعراء مضر فاسمع منه، قال علي: علّمه القرآن) فآلى على نفسه الفرزدق أن يحفظ القرآن فقيّد نفسه ولم يحله إلا بعد أن حفظه(4)، فكانت تلك النباهة منذ صغره جامعة بين الشعر والفقه في المسجد الجامع بالبصرة فقد مدح قومه بني تميم حين رآهم والمصاحف في حجورهم (إيه ، فدى لكم أبي وأمي، كذا والله كان آباؤكم)(5)، فمنذ نعومة أظفاره تأثر بالقرآن الكريم وترددت في شعره الألفاظ الإسلامية واستعان بالقصص القرآنية ويستمد منها ويستشهد بها)(6)، فاقترن اسم الفرزدق في جامع البصرة بالحسن البصري يقول الجاحظ (وقال شيخ من أهل المسجد: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدث عن الحسن، وينشد للفرزدق)(7)، فأبدع شاعرنا لقول الشعر من دون منازع طيلة (74سنة)(8)، وفي النقائض مع جرير طيلة 47سنة فراجع، فنالت قبيلته تميم الحظ الأكبر من الشعر والفصاحة فكان (شعر الجاهلية في ربيعة، ثم تحول إلى قيس ثم استقر في تميم)(9)، وقالوا (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس)(10).
أما المحور الثاني: أي شاعر تمت دراسته في أدبنا يجد الكثير من المتناقضات، وهذا بطبيعة الحال تحكمه عوامل الزمن كالسياسة والمجتمع وتقاليد القبيلة المتبع، وصناعة الشعر وفنه بين الشعراء أنفسهم، فلا غرابة أن تجد شاعر يتصف بأنه شيعي مثلا يمدح خليفة أموي ويرثي الحسين في آنٍ واحد، وهذا يحتاج إلى دراسة وافية عن الشاعر والظروف المحيطة به، لكن بالنسبة للفرزدق فنجده يتمتع بمبدأين واضحين حسب اطلاعنا، الأول: أنه صاحب مبدأ، ورثه من آبائه وقبيلته، فهو لا يساير الخلفاء ولا يعتد بمكانتهم ما دامت المنزلة التي بينه وبينهم هي رئاسة لا غير، ومن هنا (لا ينشد بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدا (حتى أنه) أراد سليمان بن عبد الملك أن يقيمه فثارت طائفة من تميم، فأذن له بالجلوس(11)، يقول:(ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا) (12)، ومن أنفته كما ورد عن الإمام الحسين (كان الفرزدق مهابا تخافه الشعراء)(13)، وقد رد على رجل اسمه جذيع وآل المهلب من عشيرة المهلب الذي اتهم الفرزدق بأنه يمدح لأجل المال(14)، وكثيرة هي المواقف التي سعت بالفرزدق أن يتردد بين حنق البعض وبين السجون والنفي، كموقفه مع عبد الله بن الزبير خليفة مكة على الأول عندما قال للفرزدق (هل أنت وقومك إلا جالية العرب(أي الذين أبعدتهم العرب عن مكة) فأنشد أبياته أمام الناس جعلت ابن الزبير يتخوف منه(15)،وتمت مطاردته من قبل زياد بن أبيه في عدة مواقف كموقف الفرزدق مع معاوية عندما استرجع الفرزدق أموال عمه و رد على معاوية واتهمه بنهب مال عمه الحتّات الموالي لمعاوية والمحارب لعلي، والذي (وفد على معاوية مع الأحنث بن قيس وجارية بن قدامة السعدي، ففضلهما على الحتات في الجائزة، ولم يعلم بذلك الحتات؛ فلما خرجوا علم به فرجع إليه ... فخرج الحتات، فمات في الطريق، فبعث معاوية فأخذ المال.فوفد الفرزدق على معاوية فقال أبياتا)(16)، فظن زياد أن هذا سوء الأدب فخاف الفرزدق منه وهرب إلى الحجاز، ولم يرجع إلى العراق إلا بعد وفاة زياد الذي قال عنه في رده على من رثى زياد:(بكيت امرءًا من آل ميسان كافرا ككسرى على عِدانِه أو كقيصرا).(17)
ومن أشد مواقفه خوفه على المال العام، عندما رأى إنفاق خالد القسري والي العراق الذي شق نهرا وسماه المبارك أو نهر أمير المؤمنين، والذي يهدف من ورائه إرواء بساتينه وبساتين الخلفاء، مما أدى إلى الإضرار بالمال العام يقول:
أإنفاق مال الله في غير كنهه ومنعا لحق المرملات الضرائك (الفقيرة)
وقال: وأهلكت مال الله في غير حقه على نهرك المشؤوم غير المبارك(18)
نعم لخشية الفتك والمطاردة وضغائن الشعراء نجده ينقلب ميزانه فمدح ذلك النهر، ولكي يعيش مدح يزيد بن المهلب عندما ولاه سليمان بن عبد الملك خراسان، ومدح عبيد الله بن زياد عندما غضب عليه (مروان بن الحكم ) رجاء الاستعطاف، ومدح الحجاج الثقفي والتي حذرته زوجته النوار منه ، لكن بعد هلاك الحجاج(سرعان ما أمطره بوابل هجائه)(19).
وأرى فيه أنه بالرغم من مبدأه ذلك إلا أنه غير قادر على حمل سلاح، بل كان جبانّا كما في كتاب الأغاني(20)، فقد بخل أن يخوض الغمرات مع الحسين عليه السلام، لكنه وضّح مبدأه صراحة عندما التقى بالحسين وهو خارج من مكة إلى العراق في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين: (ما وراءك؟ قال: يا بن رسول اللّه، أنفس الناس معك، و أيديهم عليك) و رواية أخرى لقى الحسين عليه السلام و أصحابه بالصّفاح، فعندما سأله عن أحوال العراق قال الفرزدق (تركت الناس قلوبهم معك، و سيوفهم عليك، و الدنيا مطلوبة، و هي في أيدي/ بني أمية، و الأمر إلى اللّه عز و جل، و القضاء ينزل من السماء بما شاء) وهذه الصفة ليست غريبة عليه كما ستأتي في قصيدته، ثم لما قتل الحسين عليه السلام بيّن مبدأ آخر عندما قال:( انظروا فإن غضبت العرب لابن سيّدها و خيرها فاعلموا أنه سيدوم عزّها، و تبقى هيبتها، و إن صبرت عليه، و لم تتغير لم يزدها اللّه إلا ذلّا إلى آخر الدهر، و أنشد في ذلك: فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم فألقوا السلاح و اغزلوا بالمغازل(21)، وبالفعل وهذا ما أرجحه عندما خفي السبب على بعضهم عندما لم يجدوا للفرزدق مع يزيد بن معاوية أي صلة ( أترى الشاعر آثر الابتعاد ، آثر من آثار اعتزازه بنفسه، فهو يأبى أن يمدح إلا اعترافا بالجميل، وشكرا على صنيعة، فعل الشعراء السادة)(22)، وكذلك في فترة عبيد الله بن زياد بالرغم كما مضى أراد أن يميل نحوه إلا أن فترة ولايته على البصرة (55هــإلى64هــ) (لا تبدو فيها صورة الشاعر جلية بينة القسمات، بل يكاد الصمت يلفها فيخفيها)(23).
فلا بد أن يكون مبدأه هو المحرض له، فإنه قد تأثر بواقعة كربلاء فاستمع للشاعر الكميت كما سيأتي في نهاية المقال وبين انزوائه بعيدا عن الناس، وقد أورد الطبري أبياتا له (إن صحت النسبة له ولم تذكر في ديوانه) في مسلم بن عقيل وهاني بن عروة عندما قتلا:
ان كنت لا تدرين ما الموت فانظري … إلى هانئ فِي السوق وابن عقيل
إلى بطل قَدْ هشم السيف وجهه … وآخر يهوي من طمار قتيل (24)
المحور الثالث: في تشيع الفرزدق بسبب هذه القصيدة اعتبره البعض من رجالات الشيعة ومن أصحاب السجاد عليه السلام (25)، وبصراحة هذا خلط بين المبدأ الذي نشأ عليه الفرزدق، وبين انتسابه للمذهب بسببه، فقد مدح من الخلفاء أمثال سليمان بن عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز ويزيد بن عبدالملك الذي قال فيه (وما وجد الإسلام بعد محمد ...وأصحابه للدين مثلك راعيا) ويقول( بخير أب واسم ينادي لروعة... سوى الله قد كادت تشيب النواصيا)(26)، ولم يرو حديث تشيع الفرزدق أحد من كتّاب الأدب والمؤرخين أحد، إلا ما نجده في أحد نسخ أمالي السيد المرتضى الحوار الذي دار بين الفرزدق وعبد الملك بن مروان – إن صحت أن القصيدة قيلت في عهد عبدالملك وهو بعيد- أنه قال له (أورافضى أيضا أنت! فقال الفرزدق: إن كان حب آل محمد رفضا فأنا هذاك، فقال عبد الملك: قل فىّ مثل ما قلته فيه، وعليّ أن أضعف عطاءك، فقال الفرزدق: وتجيئنى بأب مثل أبيه وأم بمثل أمه؛ حتى أقول فيك مثل ما قلته فيه؛ أتقول هذا ولا تستحي من الله! مر حتى تسقط اسمى من الديوان جملة، فأسقط عطاءه. فبلغ ذلك على بن الحسين، فبعث إليه، فلما أتاه قال: يا أبا فراس؛ خذ منى جميع ما أملكه، ولك الفضل بعد ذلك؛ وما كافأتك بعد! فقال: يا ابن رسول الله، ما قلته فيك لرجاء مثوبة؛ وإن ثوابي على الله، وما أؤمله فيكم عند الله أحب إلى من ملك عبد الملك؛ فقال: فكم كان عطاؤه الّذي حرمته؟ قال: ألف ومائتان في السنة، فوزن له ثمانية وأربعين ألفا، عطاء أربعين سنة، فأخذها وانصرف)(27)، فهي دعوى تقام على كل من مدح أهل البيت واتهامه بالرفض كالشافعي، في حين أن في النثر أضعاف ما في الشعر من مدح وثناء، وليست غريبة أيضا على رد الفرزدق فهي بادرة طيبة من صاحب مبادئ عُليا لا يأنف، وقلما تجد من ينطق في حضرة خلفاء عصره بهذا المنطق، ولا يتقيهم، علما أن قبيلته (تميم البصرة) كانت زبيرية الهوى (تقاتل عن ابن الزبير وتدعو له وتشد سلطانه...وكان الفرزدق لسان قبيلته)(28)، وكعادة الشعراء لوذعتهم وسبهم وهجائهم وقذفهم للمحصنات، حتى عد أحد الفسّاق حين أنكر عليه أهل المدينة ف(كان لا يتحرج ولا يتأثم يظهر فسقه ويعلنه ويتحدث بحشه في أشعاره ، ولا يستحي أن يخاطب المرأة ببذي القول)(29)، وهذه صناعة شعرية يقوم بها الشاعر حتى لو لم يفعلها ، حتى أن الإمام الحسين عليه السلام أعطاه مالا (400دينارا) حين أُخرج الفرزدق من المدينة فقال له أصحابه( إنه شاعر فاسق مشهر، فقال عليه السلام :إن خير مالك ما وقيت به عرضك).(30)، فيمتلك الفرزدق سحرا أخّاذا يعجب به الخلفاء بالرغم من افتخاره واعتزازه، كما أننا لا نجزم أن يكون عثماني الهوى حتى يقال أنه (أفرط في الثناء عليهم (أي بني أمية)وكان وهو يمدحهم يكاد يضفي عليهم صفات الأنبياء والرسل)(31)، فكانت صلة الخلفاء والولاة آنذاك نتيجة حتمية يجبر عليها الشاعر لكي يكتب عنه ويؤرخ له، بل مفخرة أن يكون كالفرزدق أن يهجونا كما فعل سلم بن قتيبة الباهلي عندما قال لأبنائه( ارووا ما هجانا به الفرزدق، ولا ترووا ما مدحنا به جرير)(32)، وأما عن موقفه مع هشام بن عبد الملك فقد ذمه لقلة عطائه له فسجنه حتى رويت هذه الأبيات في هجائه (يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد..وعينا له حولاء باد عيوبها ،فبلغ شعره هشاما، فوجّه، فأطلقه(33)، ويخطأ من يجعل هذه الأبيات بعد قصيدته للإمام زين العابدين، فعرف عن هشام ذلك حتى بين من يوالوه كالأخطل عندما مدحه فأعطاه(500درهم) فخرج واشترى بها تفاحا وفرقه على الصبيان فبلغ ذلك هشاما فقال : قبحه الله ما ضر إلا نفسه)(34)، وإني لأرجو كما رجا كثير من علماء الشيعة أن يكون هذا الرجل (الفرزدق) ممن تابع وشايع أو كما يقال هاشمي الرأي، لكنه يرى أسرة هاشم خير الأسر كما هو المعروف بين المسلمين يقول (ما أنتم في مثل أسرة هاشم.. فاذهب إليك ولا بني العوام)(35) ،فحُق لكل فرقة أن تتنازعه، ففي شيخوخته عاهد الله تعالى ألا يشتم وتاب إلى إليه مما بدر منه، حتى ظهرت بوادر التدين عليه.
وفي المحور الرابع في قصيدته والتي حازت شهرة فائقة (ميميته المشهورة) والتي بلغت (26أو27بيتا) ف(قصيدته في مدح الإمام زين العابدين التي سارت بها الركبان وشرحها جمع جم من الأعيان)(36)؛ لما لها من تسجيل موقف تاريخي بطولي، وتحدٍ للسلطة الحاكمة آنذاك، لقد تمثلت هذه الأبيات في دعامتين رئيسيتين: الأولى: مكانة الإمام عليه السلام عند الناس كافة، والثانية: شعيرة الحج. وهاتان الخصيصتان ثابتة للإمام سبقت أبيات الفرزدق؛ ولذا فالناظر للأبيات يجدها تحصيل حاصل، فهي لم تسجل أي إضافة سوى التحدي والدفاع عن الإمام، فاعتبرها البعض خير شاهد على تشيع الفرزدق، بروايات متعددة كما في الأغاني وسماها (ميميته المأثورة في علي بن الحسين) أخبرنا عبد اللّه بن علي بن الحسن الهاشمي، عن حيان بن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي قال: حج الفرزدق بعد ما كبر، و قد أتت له سبعون سنة، و كان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى عليّ بن الحسين في غمار الناس في الطواف، فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟ فقالوا: هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم، فقال الفرزدق وهي من البحر البسيط:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته...والبيت يعرفه و الحلّ و الحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم ...هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ...بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا
وليس قولك: من هذا بضائره...العرب تعرف من أنكرت و العجم
إذا رأته قريش قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء و يغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
بكفّه خيزران ريحها عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته ...ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
اللّه شرّفه قدما و عظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
أيّ الخلائق ليست في رقابهم ... لأوّليّة هذا أوله نعم؟
من يشكر اللّه يشكر أوّليّة ذا... فالدّين من بيت هذا ناله الأمم
ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت ...عنها الأكفّ و عن إدراكها القدم
من جدّه دان فضل الأنبياء له ...و فضل أمّته دانت له الأمم
مشتقّة من رسول اللّه نبعته ... طابت مغارسه و الخيم و الشّيم
ينشقّ ثوب الدجى عن نور غرّته ...كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبّهم دين، وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
مقدّم بعد ذكر اللّه ذكرهم ... في كلّ بدء ومختوم به الكلم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم... أو قيل من خير أهل الأرض قيل: هم
لا يستطيع جواد كنه جودهم... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
يستدفع الشّرّ و البلوى بحبّهم ... و يستربّ به الإحسان و النّعم(37)
ووقعت هذه الحادثة أيام الوليد بن عبد الملك، وكان عمر علي بن الحسين عليه السلام 52سنة في حين أن عمر الفرزدق وله 70 سنة، وهشام كان حدث السن، وإمام الحج كان عمر بن عبد العزيز.(38)، هذه المفارقات توضح لنا كيف أن الناس استهان بأحد ولاة الحكم، فقام الفرزدق يصدح بها، وقد تتبعنا الكثير من المصادر حول هذه القصيدة فوجدناها ملئت كتب الأدب والأخبار والسير، حتى من عرف بالتدقيق في فضائل أهل البيت كابن تيمية(39)، الذي لو أحس ولو بضآلة أن القصة مزيفة سيقويها ويدعمها، فاقترن اسمها باسم زين العابدين، وراح المسلمون يهللون ويتوسلون بها إلى الله تعالى، نعم تدوين الأبيات لهذا الشاعر وغيره أيضا دخل فيها ما ليس له كما سيأتي.
والقصيدة تختلف ترتيبها من مؤلَف لآخر، فتارة تبتدئ كما في الحماسة المغربية بــ(هَذا سليل حُسَيْن وابْن فاطمةٍ … بنت الرَّسُول الَّذِي انجابت بِهِ الظُّلم
هَذا الَّذِي تعرف البَطْحاء وطأته … والبَيْت يعرفهُ والحل والحرم(40)
وفي مسند آخر أن أهل الأدب ذكروا (أن علي بن الحسين حج، فاستجهر الناس جماله، وتشوقوا له، وجعلوا يقولون: من هذا، فقال الفرزدق: هَذا الّذي تَعْرِفُ البَطْحاءُ وطْأتَهُ … والبَيْتُ يعْرِفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ
وفي رواية الغلابي أن هشام بن بن عبد الملك حج في خلافة عبد الملك أو الوليد، وهو حديث السن فأراد أن يستلم الحجر، فلم يتمكن من ذلك لتزاحم الناس عليه، فجلس ينتظر خلوة، فأقبل علي بن الحسين، وعليه إزار ورداء، وهو أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم ريحًا، وبين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت، فإذا بلغ الحجر، تنحى عنه الناس حتى يستلمه هيبة له وإجلالًا، فغاظ ذلك هشامًا، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان لذلك حاضرًا: لكني أعرفه، وذكر الأبيات)وانتهت بحبس الفرزدق ووصل له الإمام بمال(فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك، فردها الفرزدق، وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبًا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأك عليه شيئًا، فردها إليه وأقسم عليه في قبلوها، وقال له: قد رأى الله مكانك، وعلم نيتك، وشكر لك، ونحن أهل بيت إذا أنفذنا شيئًا لم نرجع فيه، فقبلها) ويظهر من هذا النص المتفق بينهم أن الإمام لم يسع لإطلاق سراح الفرزدق، وإنما حيلة الفرزدق بهجو هشام هي التي أنجته من السجن، أرى السر واضح وجلي فعدم سعي الإمام لإطلاقه من السجن؛ لئلا يستبين للمغرضين أن هذا المدح كان اتفاق بينهما، وانتظار الحكم الأموي تقديم الإمام لتنازلات منها لي عنق الفرزدق وإخضاعه لمبادئهم.
وتوجد لهذه الأبيات قصة أخرى كما يرويها العيني أنه رأى في كتاب «أولاد السراري» للمبرد نسبة بعض هذه الأبيات أنها لأبي دهبل حيث قال: مر زين العابدين عليه السلام بمساكين جلوس في الشمس يأكلون على مسح، فسلم عليهم، فردوا عليه، وقالوا: هلم يا ابن بنت رسول الله، فنزل، وقال: إن الله لا يحب المتكبرين، فأصاب معهم، ثم قال: قد دعوتم فأجبنا، ونحن ندعوكم، فمضوا معه إلى منزله، فأطعمهم طعامه، وقسم بينهم كل ما كان عنده، وفيه يقول أبو دهبل- فيما روي- هذه الأبيات:هذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ … هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله … إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ … البيت، فقط هذه الأبيات الثلاثة (41)
فتكون القصيدة منسوبة لشاعر آخر اسمه أبو دهبل (وهب بن زمعة بن أسيد) قال الشعر في آخر خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، و مدح معاوية، و عبد اللّه بن الزّبير، و قد كان ابن الزبير ولّاه بعض أعمال اليمن.(42)
ولها أيضا مناسبة وقصة أخرى أن (علي بن الحسين يطوف بالبيت فرآه يزيد بن معاوية. فقال: من هذا؟ فقال له الحارث بن الليث: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحلّ والحرم). ولها غرض بلاغي هو اعتذار من لم يعرف.(43)
وأظن والله العالم أن القصيدة للفرزدق، فأصبحت مضرب مثل يراد تقال حين رؤية شخص زين العابدين عليه السلام كما هي اليوم.
والسؤال: هل كان الفرزدق حاجا؟ الجواب: كلا، وإنما كان من ضمن حاشية الأمويين، وهذه علة غضب هشام وحبسه؛ لأنه خرج عن البروتوكول المعد بالرغم من معرفة ما يكنه الفرزدق من منطلقات ومبادئ (وكان الفرزدق في حاشية هشام ولكن الأمويين ما كانوا يقربونه لكثرة افتخاره بكرم أبيه وإطرائه بني هاشم فغضب هشام فسجن الفرزدق بعُسفان).(44)
وقد علّق الكثير على هذه الحادثة واحتسبوا هذا الصنيع مما يثاب عليه الرجل بالجنة كما يقول ابن خلكان والدميري الذي قال(وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنة)ثم ذكر القصة(45)، وهي قطعا من الفضائل التي يعتقد بها المسلمون أن مديحهم وذكر مناقبهم لا يختلف فيها اثنان بأنها من موجبات الجنة، بدليل حسن جواب الفرزدق عندما أعطاه الإمام المال كما مضى فقال له الإمام(قد رأى الله مكانك، وعلم نيّتك، وشكر لك).
أما شأنها بلاغيا فناهيك قول ابن معصوم الحسني وهو معروف بتذوقه الأدبي، فقد قال عن القصيدة (وأما ما وقع من الانسجام في أشعار الإسلاميين، فمنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي قصيدة مشهورة لا يسقط منها بيت واحد. وأما انسجامها فغاية لا تدرك، وعقيلة لا تملك، وقد جنبها حوشي الكلام، وجاء فيها ببديع الانسجام. ومن رأى سائر شعر الفرزدق، ورأى هذه القصيدة ملك نفسه العجب، فإنه لا مناسبة بينها وبين سائر قوله، نسيبا ومدحا وهجاء، على أنه نظمها بديهة وارتجالا، ولا شك أن الله سبحانه أيده في مقالها، وسدده حال ارتجالها).(46)
وسنورد بعض العبارات وتفسيرها:
بدأت وتكرر في القصيدة اسم الإشارة (هذا) وهي تدل على (كمال العناية وتمييزه أكمل تمييز،كقول الفرزدق معرّضا بغباء هشام بن عبد الملك عند تجاهله زين العابدين (البسيط):هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحلّ والحرم. فالفرزدق يكرّر ذكر المسند إليه هذا) إشارة إلى ان المخاطب غبيّ لا تكفيه القرينة، ولا يفهم إلّا بالتصريح).(47) فتجاهل هشام المتعمد كان (لغرض في نفسه، فخاطبه الفرزدق بهذه الأبيات منزلًا إياه منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، ولا يخلو هذا الأسلوب من توبيخ وتأنيب للمخاطب وتعريض به. ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل).(48)
وقوله (إلى مكارم هذا ينتهي الكرم) معناه (أن الكريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا وقف، لأنها الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى) .
وعن معنى خيزران في كفه تشبيه بما يصنعه الملوك من حملهم للعصي وهي للعبث واللهو، ولهذا أردفها ب(ريحه عبق … من كف أروع في عرنينه شمم) (وقوله ريحه عبق، إذا فتح الباء فمخرجه مخرج المصادر، كأنه نفس الشيء، أو على حذف المضاف، والأصل ذات عبق. وإذا كسرت فهو اسم الفاعل، ومعناه اللاصق بالشيء لا يفارقه. يريد أن رائحته تبقى فهي تشم الدهر من كف أروع، وهو الجميل الوجه. والشمم: الطول. والعرنين: الأنف وما ارتفع من الأرض، وأول الشيء، وتجعل العرانين كناية عن الأشراف والسادة. وإذا قرن الشمم بالعرنين أو الأنف، فالقصد إلى الكرم).(49)
ومما انتقدت به القصيدة:
هذه المنقبة التي دعّمها الفرزدق في أبياته، لا تخلو من مطبات قديما وحديثا، لأسباب اعتبره طبيعية، فقلما تجد قصيدة وصلت إلينا من دون تقدم وتؤخر، أو تضاف ويزاد عليها، أو يحذف منها وهذه القصيدة منها، لكن بعض الانتقادات تحتاج إلى نقد آخر وخصوصا عند المحدثين.
الممدوح من هو؟!
هناك من يخالف أن الممدوح ليس زين العابدين، وأوردت أسماء كثيرة منها الإمام الحسين، ومنه محمد الباقر والقثم بن العباس وآخرون كما سترى.
وممن قال أنه الحسين الطبراني في معجمه حديث 2800( حدثنا سُلَيْمانُ بْنُ الهَيْثَمِ، قالَ: كانَ الحُسَيْنُ بْنَ عَلِيّ يطوف بالبيت، فأراد أن يستلم الحجر، فَأوْسَعَ النّاسُ لَهُ، والفَرَزْدَقُ بْنُ غالِبٍ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقالَ رَجُلٌ: يا أبا فِراسٍ، مَن هَذا؟ فَقالَ الفَرَزْدَقُ(القصيدة)(50)
ويكفينا رد ابن كثير حينما قال ( هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير، وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق).(51)
وبنفس المقياس وهو الشهرة نرد ما أورده دعبل بن علي أن( كثير بن كثير السهمي قالها في محمد بن علي بن الحسين بن علي).(52)
ويرجح ابن عبد البر رواية الفاكهى أن الفرزدق قالها في علي بن عبيد الله بن جعفر حين رآه يطوف بالكعبة في حلّةٍ وهو محرم فإن (أمه زينب بنت علىّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة بنت رسول الله) فيصح قول (هذا ابن فاطم) أو قالها في حق محمد الباقر ، والسبب هو أن على بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وهشام بن عبد الملك إنما ولى الخلافة سنة خمس ومائة).(53)، وهذا غير صحيح، فإنه لم يقل أحد أن هشاما كان خليفة، بل كان حدث السن.
لكن الخلاف الكبير هنا دائر بين دائرتي( القثم، والشاعر الحزين) فمن هما؟
أما القثم ففي الاستيعاب برقم 1266هو ابن (العَبّاس بْن عبد المطلب... استشهد قثم بسمرقند وكانَ خرج إليها مع سَعِيد بْن عُثْمان بْن عَفّان أيام مُعاوِيَة... وكان واليا لعلي بْن أبِي طالب على مكة... فلم يزل واليا عليها حَتّى قتل علي عليه السلام... وقال (ابن) الزُّبَيْر (عبدالله بن الزبير الأسدي شاعر أموي): استعمل على بْن أبِي طالب قثم بْن العَبّاس، على المدينة(ولأنه كان) يشبه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه داوُد بْن سُلَيْم:
عتقت من حلي ومن رحلتي … يا ناق إن أدنيتني من قثم أنك إن أدنيت منه غدا … حالفني اليسر ومات العدم وقال الزُّبَيْر- فِي الشعر الَّذِي أوله: هَذا الَّذِي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحل والحرم [إنه] قاله بعض شعراء المدينة فِي قثم بْن العَبّاس، وزاد الزُّبَيْر فِي الشعر بيتين أو ثلاثة منها قول داود: كم صارخٍ بك مكروب وصارخةٍ … يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم(54)
يرد الكثير على ذلك كما هو عن صاحب الاستيعاب ينقل عن كتاب له اسمه(بهجة المجالس)في (الشعر الَّذِي أوله: هَذا الَّذِي تعرف البطحاء وطأته. ولمن هُوَ، والاختلاف فِيهِ، ولا يصح أنَّهُ قثم بْن العَبّاس، وذلك شعر آخر على عروضه وقافيته، وما قاله الزُّبَيْر فغير صحيح. والله أعلم).(55)، وأرى كما سبق أن هذه الأبيات أصبحت محل استشهاد لمن يعرف مكانته ومنزلته من آل البيت، وسبب آخر لعليّ أضعفه لعدم وجود دليل أن البيت العباسي أرادها منقبة له خصوصا أن القائل هو المتهم كما في هذه الرواية لبيان منزلة علي بن عبدالله بن العباس أنه(إذا قدم مكة حاجّا أو معتمرا، عطّلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلس علي بن عبد الله في المسجد الحرام وحلقته إجلالا له وإعظاما وتبجيلا، فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا أجمعون، ولم يكن يرى لقريش مجلس في المسجد يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم.(وعن) عبد الله بن هارون بن موسى قال: حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه محمد ابن عبد الله قال: حضرت عند هشام بن عبد الملك، وفتح البابين، ووضع الغداء فدخل عليه آذنه فقال: يا أمير المؤمنين! بالباب رجل على برذون له، لا يدخل إلّا أن تأذن له. قال: ويلك ومن هو؟ ايذن له، فإذا عليّ ابن عبد الله بن عبّاس، فساعة دخل قام إليه ثم قال: يا معشر قريش قوموا إلى سيّدكم، هذا يرتفع من حيث يتّضع الناس، ثم سأله حوائجه فقضى له أربع حوائج لها قيمة عظيمة، ثم أنشأ هشام يقول: إن أبصرته قريش قال قائلهم … إلى مكارم هذا ينتهي الكرم هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحلّ والحرم يكاد يمسكه عرفان راحته … ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم هذا ابن خير عباد الله كلّهم … هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
يقول محق الكتاب وهذه الأبيات للفرزدق في مدح علي بن الحسين(56)
أما الشاعر الحزين وهو(عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك- و يكنى أبا الشعثاء- الحزين شاعر أموي من الهجائين... من شعراء الدولة الأموية حجازيّ مطبوع ليس من فحول طبقته. وكان هجّاء خبيث اللسان ساقطا، يرضيه اليسير، ويتكسّب بالشّرّ وهجاء الناس، وليس ممن خدم الخلفاء ولا انتجعهم بمدح، ولا كان يريم الحجاز حتّى مات).
فقد أوردوا أن بيت (هذا الذي تعرف البطحاء) لا تناسب إلا شأن الجبارين والمستكبرين المنزه عنها الإمام السجاد عليه السلام، فالحل إذن كما يورده صاحب الأغاني ( ليس هذان البيتان مما يمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السّلام و له من الفضل المتعالم ما ليس لأحد).(57)
وأيضا لا تصح نسبتها لداود بن سلم لقثم أو لخالد بن يزيد، لكن الأبيات ما عدا
(كم صارخ بك من راج و راجية...يرجوك يا قثم الخيرات يا قثم)، والبقية
أيّ العمائر ليست في رقابهم ...لأوّلية هذا أوله نعم
في كفّه خيزران ريحها عبق من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء و يغضى من مهابته فما يكلّم إلا حين يبتسم
هي للفرزدق الذي أدخل (هذا الذي تعرف) في مدح الإمام زين العابدين، أما أبيات:
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
كم صارخ بك من راج و راجية في الناس يا قثم الخيرات يا قثم
والصحيح عند صاحب الأغاني (أنّها للحزين في عبد اللّه بن عبد الملك أو في عبد العزيز بن مروان، لانسجامها مع أبيات أخرى).(58)
يقول الحزين الكِنانِي كما في شرح التبريزي:
هَذا الَّذِي تعرف البَطْحاء وطأته … والبَيْت يعرفهُ والحل والحرم إلى آخر الأبيات(59)
لكن هذا لا ينسجم مع ما أورده الأصفهاني في أغانية في ترجمته للفرزدق، فلم يحيد عن ذكر الميمية وسماها بالمشهورة، وما ذكره أبو تمام كما ينقل عنه ثم توالى كتّاب ديواين الشاعر فأثبتوا القصيدة لكن على نحو الخلاف في عدد الأبيات أقلهم وضع (6أبيات)إذا رأته قريش- هذا الذي تعرف- يكاد يمسكه- هذا ابن خير عباد الله- من يشكر الله – أي القبائل ليست في رقابهم) (60)، لكن في ديوان آخر أثبت القصيدة بأكملها (27بيتا)(61)، وهو الأصح لشهرتها وإطباق المتقدمين عليها، نعم لتنزيه الإمام السجاد نفينا هذه القصيدة كما هو عن التبريزي فـــ(لَيْسَ مِمّا يمدح بِهِ مثل عَليّ بن الحُسَيْن وله من الفضل الباهر ما لَيْسَ لأحد فِي وقته) كما في ديوان الحماسة، لكن البطاح في المدح مشهور عند القرشيين، فلا تدل على التسلط وحب الرئاسة، ولكن العجيب في ديوان الحماسة أن أبا تمام يضع هذه القصيدة (هذا الذي تعرف ) للحزين الليثي في مدح الإمام السجاد عليه السلام ثم يقول (ويقال أنها للفرزدق قالها حين قال الشامي لهشام بن عبد الملك) وأورد (6أبيات)(62)، لكن الإيراد حسب الاختصار فكتابه كان مختارات له.
وإني لأعجب من النقاد المحدثين، الذين طبع عليهم النقد بدون دليل، سوى التمسك ببعض القشور حينما ادعى الشريف المرتضى بأن (الفرزدق علوي المذهب)فقامت قيامتهم، بخلاف القدماء كما مر الذين يستندون إلى أدلة حية ودليل الشهرة، ومن أولئك النقاد المحدثين:
الناقد الكبير إحسان عباس: في حاشية وفيات الأعيان علّق الناقد أن القصيدة صحيحة النسبة ما عدا بعض أبياتها، لكنه يرى أن إيراد القصة (جاءت عفو الخاطر، أو كأن الفرزدق كان متوقعًا ذلك السؤال، فيه قدر من السذاجة)(63)، ومعتمد الناقد على أن الفرزدق ممن ينقح القصائد قبل أن يخرجها للناس كما يذكر ابن سلام الجمحي (64)، طبعا هذا يأتي للقصائد الطوال جدا، أما بشكل مقطوعات أو كما مر أن القصيدة تعداد فضائل فلا تحتاج إلى تكلف خصوصا عند شاعر كبير مثل الفرزدق الذي طوى صفحات كبيرة من الزمن في قول الشعر.
ناقد آخر وهو د. شوقي ضيف، واعتبره مؤرخ أدبي قبل أن يكون ناقدا بدلي كتبه التي حازت شهرة في ذلك، يرى أن القصيدة (تخالف نسجه كما تخالف نفسيته إذ كان لا يتعصب لشيء سوى قبيلته وآبائه، وقد مدح بنى أمية بأخرة، أما ولاة العراق فكان إذا خاف بطشهم مدحهم، فإذا اطمأن وسكن روعه هجاهم، وخاصة إذا أظهروا عصبية ضد تميم).(65)
لكن د. شوقي لم يظهر لنا نوع النسج المخالف؛ لعدم اطمئنانه فالقصيدة إن لم تكن للفرزدق فهي حتما لشاعر آخر كبير، ولذا التجأ إلى نفسية الفرزدق وتعصبه، وقد ذكرنا ذلك، لكن الشيء الذي لم يتداركه شوفي هو أن الفرزدق يحمل بفعل عوامل متعددة مبادئ منها عدم رضوخه لبعض الإملاءات، نعم لعله صدق فيما زعم أن القصيدة لا تدل على تشيع أو ميل الفرزدق إلى بني هاشم فكري وعقائديا، كما يرى الزيات أن (أما هوى الفرزدق السياسي فشعره يدل على أنه مع بني أمية ولكن في الواقع أنه مع القول الغالب من قريش) ثم يستدرك هذا القول بشجاعته بقوله (و لعل أدنى الآراء إلى الصواب أن نقول: إن الفرزدق يقول بالعصبية العربية و بالمضرية على القحطانية).(66)
وأيضا ما أورده الكرملي في مجلته أن محمد بهجة بأن الفرزدق علوي التشيع، حتى ننكر قصيدته وننسبها لغيره، بهذه الدعوة التي ذكرها المرتضى في أماليه، ونجدهم يعزلون الأحداث ببعضها كاستئمان الكميت عندما أنشد الفرزدق أبياته (بني هاشم رهط النبي فإنني … بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب فقال له الفرزدق والله لو جزتهم إلى سواهم لذهب قولك باطلا) ورثاء الفرزدق لمسلم بن عقيل وهانئ بن عروة حينما قتلا، بالإضافة إلى ميميته التي ذكر المؤرخون أنه (سينال بهذه المكرمة الجنة) يقول كل هذه المرويات (تحملنا على تكذيب ما ادعاه محمد بهجة 0 تشيع الفرزدق- حتى يأتي بدليله الناطق وأما رثاء الفرزدق لمسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فدليل مستقل على تأييده العلويين وتشيعه).(67)
المحور الخامس: دلالات هذه القصيدة ، فإذا كان الفرزدق يملك المؤهلات والمبادئ التي استوحى منها قصيدته الميمية المشهورة، فلماذا علي بن الحسين السجاد؟ فضائل الإمام كثيرة جدا على أهل الإسلام وخصوصا الحجازيين، فقد كان معروفا ويصعب استقصاء تلك المناقب في مجلد واحد فضلا عن مقالة ، ونكتفي بما ذكره ابن حجر وكانَ زين العابدين عَظِيم التجاوز والعَفو والصفح حَتّى إنَّه سبه رجل فتغافل عَنهُ فَقالَ لَهُ إياك أعنِي، فَقالَ وعنك أعرض .وقيل سمه الوَلِيد بن عبد الملك ودفن بِالبَقِيعِ عِنْد عَمه الحسن عَن أحد عشر ذكرا وأرْبع إناث، و ارثه مِنهُم عبادَة وعلما وزهادة. (68)
الخلاصة اعتراف الكثير بنسبة القصيدة للفرزدق قائم على شهرتها والروايات الكثيرة بالإضافة إلى مختلف المصادر القديمة بأنواعها التفسيرية والأدبية والروائية بإضافتها منقبة للإمام السجاد عليه السلام، وسواء قلنا بعلوية الفرزدق أو لا فقصيدته نمت عن عاطفة جياشة صادقة مدافعة عن حياة الأبطال كالإمام زين العابدين عليه السلام الذي ملك قلوب العالمين، رحم الله أبا فراس.
الهوامش:
(1) طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي ج2ص297
(2) الأغاني ج21ص194-195)
(3) خزانة الأدب ولباب لسان العرب، عبدالقادر البغدادي ج1ص222
(4) الأغاني ج21ص198
(5)الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد ج1ص101
(6)الفرزدق، شاكر الفحام ص61
(7)البيان والتبيين ج3ص150
(8)الأغاني ج21ص198
(9)المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي ج17ص423
(10)الأعلام ، خير الدين الزركلي ج8ص93
(11)الأعلام، ج8ص93
(12)الأغاني ج21ص215
(14) الأغاني ج21ص241
(15)الأغاني ج21ص205
(16) الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي ج10ص99
(17)الأغاني ج21ص241
(18)الأغاني ج21 ص220
(19)ظاهرة الخوف في شعر الفرزدق، أمل طاهر، مجلة دراسات مجلد34 عدد3- 2007مص606
(20)الأغاني ج21ص237
(21)الأغاني ج21ص 252-253\275
(22)الفرزدق ص134
(23)الفرزدق ص141
(24)تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير أبو جعفر الطبري، ج5ص379
(25)رجال الشيخ الطوسي (باب الفاء رقم 3ص100) ورجال الكشي 207 ج 1 ص129
(26)ديوان الفرزدق ، مؤسسة هنداوي ص78
(27)أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، علي بن الحسين الشريف المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ج1ص92
(28)الفرزدق شاكر الفحام ص159
(29)الفرزدق ص151
(30)معجم رجال الحديث، السيد الخوئي ترجمة 9334ج14ص279 (31)الفرزدق ص171-172
(32)الفرزدق ص176
(33)الأغاني ج21ص264-265
(34)الأغاني 8ص433
(35)ديوان الفرزدق ص47
(36)أبجد العلوم، صديق حسن خان ج1ص608
(37) الأغاني ج21ص264-265
(38)الفرزدق ص171
(39)منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني،ج4ص8
(40)الحماسة المغربية مختصر كتاب صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب، أبو العباس أحمد الجرّاوي التادلي (المتوفى: ٦٠٩هـ)، ج1ص169
(41) شرح أبيات مغني اللبيب،عبد القادر بن عمر البغدادي، ج5ص319
(42)الأغاني ج7ص85،
(43)محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، للراغب الأصفهاني، ج1ص367
(44)معالم مكة التأريخية والأثرية، عاتق بن غيث البلادي الحربي، ص40
(45)حياة الحيوان، الدميري ج1ص20
(46)أنوار الربيع في أنواع البديع، صدر الدين المدني علي بن أحمد بن معصوم الحسني الحسيني (ت1119هــ)ص268
(47)علوم البلاغة (البديع والبيان والمعاني)، الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب، أحوال المسند إليه ص313 (48)علم المعاني، مناهج جامعة المدينة العالمية لمرحلة البكالوريس ص84
(49)شرح ديوان الحماسة، أبو على أحمد المرزوقي الأصفهاني، ص١١٣٥
(50)المعجم الكبير، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني،ج3ص101
(51)البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير ج11ص591
(52) المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم وأنسابهم وبعض شعرهم، أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، ص222
(53)بهجة المجالس وأنس المجالس ج1ص111 (54)الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عاصم النمري القرطبي ج3
(55)راجع الاستيعاب بنفس ترجمة القثم
(56)أخبار الدولة العباسية وفيه أخبار العباس وولده، مؤلف أخبار الدولة العباسية - مجهول (المتوفى: ق ٣هـ)تحقيق: عبد العزيز الدوري، عبد الجبار المطلبي، ص140
(57)الأغاني ج15ص217
(58)الأغاني ج15ص218
(59)شرح ديوان الحماسة ديوان الحماسة مختارات أبو تمام حبيب بن أوس، أبو زكريا يحيى التبريزي،ج2ص284
(60)ديوان الفرزدق، عبد الله الصاوي،ص448-449
(61)شرح ديوان الفرزدق، إيليا الحاوي ج2 قصيدة رقم 460، ص353 (62)الحماسة، لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي، تحقيق د. عبد الله عسيلان، ج2مقطوعة 715ص286
(63) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين ابن خلكان البرمكي الإربلي، تحقيق إحسان عباس، ج6ص95-96
(64) طبقات فحول الشعراء ج2ص361
(65)تاريخ الأدب العربي، الدكتور شوقي ضيف، العصر الإسلامي ج2ص273
(66)مجلة الرسالة، أحمد حسن الزيات باشا، عدد 40، ص315
(67)مجلة لغة العرب العراقية، صاحبها أَنِسْتاس الكَرْمِلي،المدير المسؤول: كاظم الدجيلي، الناشر: وزارة الأعلام، الجمهورية العراقية، عدد7ص415، باب المشارفة والانتقاد
(68)الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، أحمد بن حجر الهيتمي ج2ص584
جديد الموقع
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 العيون الخيرية تقدم 45 جهاز كهربائي للمستفيدين بتكلفة تتجاوز الـ 75 ألف ريال
- 2024-05-21 أمانة الاحساء: تطوير ميدان سلوى وزراعة 45000 ( شتلة زهور صيفية)
- 2024-05-21 سماحة الشيخ عبد الله اليوسف: صديق الكتاب وحليف القلم والقرطاس.
- 2024-05-21 سمو محافظ الأحساء يكرّم فريق كرة اليد بنادي العيون بمناسبة الصعود للدرجة الأولى
- 2024-05-21 عرس تكريم الفائزين والفائزات بجائزة الصالح للتفوق العلمي الدورة "18" رعته صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة بنت فيصل
- 2024-05-21 تعليم الشرقية يشارك بركن توعوي تزامناً مع اليوم العالمي للامتناع عن التدخين 2024
- 2024-05-21 نائب أمير الشرقية يرعى حفل تخريج 61 طالبا وطالبة من أكاديمية "زادك"
- 2024-05-21 المملكة تستعرض جهود منظومة المياه لتطوير القطاع أمام الدول المشاركة في معرض المنتدى العالمي للمياه بإندونيسيا
- 2024-05-21 في اليوم الأول من مهرجان الكتاب الثاني تجارب في الكتابة وقصائد شعرية و١٦ منصة توقيع للكتاب المشاركين بأدبي الشرقية