2020/05/10 | 0 | 3019
موسى والخضر (2)
تكلمنا في المقالة السابقة أن النظرة المقدسة التي أخذتها شخصية الخضر حجبتنا عن النظر إلى موسى كنبي من أولي العزم ، وذكرنا سابقا كيف حازت صورة الخضر عند المسلمين حتى صارت الأسطورة عند الكل حتى العجائز .
وقد أجمع المفسرين من المسلمين بواسطة الروايات أن المقصود بموسى هو الكليم ،لا لأن الأخبار والتي هي خبر واحد الدليل ،وإنما بسبب القرينة الصارفة ، وأي قرينة أقوى من أن تصرف إلى بموسى بن عمران .وفي هذه المقالة سنجاري الروايات أولا أما القرينة فسوف نرجأها لمقالة آتية .
أما الرواية التي تذكر في مقدمة سورة الكهف كعادة وسنعرف لماذا هي عادة بين المفسرين : تروى عن محمد بن إسحاق كاتب السيرة النبوية كسبب لنزول السورة المكية . أما عند التفاسير الشيعية فأقدم المصادر هما تفسير القمي وتفسير العياشي ، مسندة ومرسلة ، ولكن لسبب ما تجاهل القمي طريق ابن إسحاق وأوردها بهذا البيان " قال علي بن إبراهيم ، فحدثني أبي عن ابن أبي عمير – وهو سند منقطع بين علي ومحمد بن عمير وهذا أحد المآخذات - عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام : كان سبب نزولها يعني سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران ، النضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط ، والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود ، فسألوهم فقالوا : سلوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ، ثم سلوه عن مسألة واحدة فإن ادّعى علمها فهو كاذب ، قالوا : وما هذه المسائل ؟ قالوا : سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا ،وغابوا وناموا ، وكم بقوا في نومهم حتى انتبهوا ؟ وكم كان عددهم ؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم ؟ وما كانت قصتهم ؟ و اسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو ؟ وكيف تبعه ؟ وما كانت قصته ؟ واسألوه عن طائف طاف من مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو ؟ وكيف كانت قصته ؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث المسائل ، وقالوا لهم : إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق ،وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه ، قالوا : فما المسألة الرابعة ؟ قال: سلوه متى تقوم الساعة ؟ فإن ادّعى علمها فهو كاذب ،فإن قيام الساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى . فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب عليه السلام فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ،ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق ،وإن لم يجبنا علمنا أنه كاذب ، فقال أبو طالب : سلوه عمّا بدا لكم ، فسألوه عن الثلاث المسائل ، فقال رسول الله : غدا أخبركم ولم يستثنِ (أي لم يقل إن شاء الله)فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما حتى اغتمّ النبي وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به ،وفرحت قريش واستهزؤوا وآذوه ،وحزن أبو طالب ، فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه بسورة الكهف . فقال رسول الله يا جبرائيل لقد أبطأت ؟ فقال : إنّا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله . (ويوجد إضافات لبعض المفسرين لا تحتاج لنقد كوجود صورة كلب وأنه هو الذي أخّر الملائكة) . وهنا حانت التفاتة لصاحب مجمع البيان عندما أوعز سبب النزول إلى محمد بن إسحاق عن (سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أخبرني أُبي بن كعب قال : خطبنا رسول الله فقال : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ) . فهو التفت للإشكال فأوعز سبب النزول لرواية ( محمد بن إسحاق بإسناده عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس : بأنهم ذهبوا لأحبار اليهود بالمدينة. وأخفض المدة التي طال غياب الوحي من (40) ليلة )إلى (15). لكن لما وصل إلى قصة موسى والفتى رجع إلى تفسير القمي .
وعلى فرض قبول الرواية نقع في ما يشابه القصة كيف أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ارتكب محظورا ؛ لأنه لم يقل إن شاء الله ، مما عوقب بحرمانه من تلقي الوحي .
ونرى أن صاحب مجمع البيان تصرف حسب عقيدته فأرجع سبب النزول إلى محمد بن إسحاق وما يحتويه السند كما سنتعرض له في الأخير . واختيار القمي كان سببه الاضطراب في الرواية فالمشركون توجهوا إلى نجران لا المدينة وهو الأولى . و هذا واحد من اضطراب الرواية .
هل يمكن أن يحتبس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى تمتلئ الكتب في تنزيه النبي وأخوته من الأنبياء لمجرد نسيانه (إن شاء الله) أو نسيانه إشكاله على الخضر ؟ السورة تجيب عن ذلك بالنفي فتحث النبي على أن لا يتعب نفسه ولا يرهقها لأجل هؤلاء " فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " وبعد أن سردت قصة أهل الكهف جاء قوله تعالى متأخرا "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت " .
وليست مخصوصة هذه الآية بأن النبي نساها فحُرم من الوحي (15-40) ليلة ، وإنما هي لغرض تأديب الأمة وهو منهم وعدم التعليق على آمالنا وطموحاتنا ، آيات عديدة وردت في ذلك "ستجدني إن شاء الله صابرا" ،"لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" وفي موضوعنا قول موسى للخضر "ستجدني إن شاء الله من الصابرين". ولا تشير إلى قصة سبب النزول فإن المشيئة جاءت بعد ذكر النعمة "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ...ثم قصة الكهف" يقول الطبطبائي فإنه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيه وإلى غيره من الناس وربما يأمره أن ينسب أفعالا إلى نفسه "فقل لي عملي ولكم عملكم " "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ". ثم إن الاستثناء الوارد هو استثناء تكويني يختص بالفعل . وآية "واذكر ربك" ذكروا أنها آية مستقلة . وأول فائدة من هذا التحليل هو إيثار منهج تفسير القرآن بالقرآن نفسه، لأن التفسير بالمأثور يلاحظ فيه ثلاثة أمور : أولا : أن الروايات المقولة لم تحض بالبحث والتأمل الكافي من الناحية السندية ، مع أنه لا يمكن الاعتماد على الروايات غير المعتبرة سندا أو غير البالغة حد التواتر . ثانيا : أنه لا يتوفر القدر المطلوب من الروايات المعتبرة في بيان جميع الآيات . وثالثا : أن الروايات لم تتناول بوضوح الآيات التي لا بد أن تطرح في غير آيات الأحكام ،ولذا لا يؤمن منهج تفسير القرآن بالروايات متطلّبات المجتمع في تفسير القرآن بصورة تامة .(1)
أما النظر في تفسيري القمي والعياشي : فأصحاب التفسيرين كلاهما من رجال الطائفة الموثوقين ، وقد ألفوا كتبا كثيرة ومن جملة ذلك هذين التفسيرين ، لكن السؤال في نسبة التفسيرين لهما في هذا العصر؟
فعلى نحو الاختصار ولعلنا نوفق في الكتابة مفصلة في مقالات أخرى أن شيوخ تفسير القمي كان عند الطائفة من الموثوقين ، ثم تدرجت القضية إلى أنه تفسير ملفق بين القمي وبين أحد تلامذته وهو راوي التفسير ولم يذكر في الكتب الرجالية بتوثيقه ، نعم ذكر في الأنساب أنه (أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم عليه السلام) ،وبين تفسير أبي الجارود زياد بن المنذر كان ثقة وتغير عندما خرج زيد (2) أو كما يرى المحقق الطهراني في كتابه الذريعة أن الكتاب وُضع لترويج الحق في طبرستان التي كانت مركز الزيدية يقول "وينقدح في النفس احتمال أن نزول العباس إليها إنما كان لترويج الحق بها ورأى من الترويج السعي في جلب الرغبات إلى هذا التفسير الكتاب الديني المروي عن أهل البيت عليهم السلام " ولهذا أكثر من تفسير أبي الجارود والتي تنسب إليه الفرقة الزيدية الجارودية (3) ، والعام الماضي ظهر أن الكتاب بأكمله ليس للقمي بل لرجل جمعه من تسعة وعشرين(29) تفسيرا ، واعتمد على تفسير القمي أكثر ، وهذا الرجل يقال له (علي بن حاتم القزويني) الذي قال عنه النجاشي : ثقة من أصحابنا في نفسه ، يروي عن الضعفاء. (4)
يقول السبحاني :"الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جدا ، خصوصا مع ما فيه من الشذوذ في المتن ".(5)
أما بخصوص تفسير العياشي (محمد بن مسعود السمرقندي) فهو أيضا ثقة وكان عامي المذهب ، يقول النجاشي (ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة ،وكان يروي عن الضعفاء كثيرا) (6) ، لكن الإشكال نفسه عندما تلاحظ مقدمة الكتاب "إني نظرتُ في التفسير الذي صنفه أبو النصر محمد بن مسعود بن محمد بن عيّاش السلمي بإسناده ،ورغبت إلى هذا وطلبت من عنده سماعا من المصنف أو غيره فلم أجد في ديارنا من كان عنده سماع أو إجازة منه ، حذفت منه الإسناد ". (7)
وهذا ما يصطلح في علم الرجال بالوجادة وهي أن يجد إنسان أحاديث بخط راويها غير معاصر كان أو معاصر ، لم يلقه أو لقيه ولكن لم يسمع منه هذا الواجد ولا له منه إجازة ولا نحوها .(8)
نعم إذا حصل الوثوق يجوز العمل بها ، وذكر آغا بزرك الطهراني في كتابه (الذريعة) عن المجلسي وهو معروف بقبوله للكثير من المرويات أنه قال "رأيت منه نسختين قديمتين لكن بعض الناسخين حذف أسانيده للاختصار . وذكر في أوله عذرا هو أشنع من جريمته" .(9)
والذي أذهب إليه أن هذه الرواية هي رواية عامية ، وقد اختلط على الكثير من أصحاب أهل البيت عليهم السلام ذلك ، وهذا كثير يحصل من غير تعمد في حديث يرويه الشيخ الطوسي (علي بن محمد القتيبي قال : قال أبو محمد الفضل بن شاذان سأل أبي رضي الله عنه محمد بن أبي عمير فقال له إنك قد لقيت مشايخ العامة فكيف لم تسمع منهم ؟ فقال : قد سمعت منهم ، غير إني كثيرا من أصحابنا قد سمعوا علم العامة وعلم الخاصة ، فاختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة فكرهت أن يختلط عليّ ، فتركت ذلك وأقبلت على هذا ").(10)
ومن أبسط القرائن ما أورده القمي في القدح بالنبوة ومنها في قوله تعالى " ولا تقولن .." أخبره إنما احتبس الوحي عنه أربعين صباحا .
ومع ذلك الكتابان يوفران مادة جيدة في القرآن ، وفيه معلومات ثريّة تفيدنا ، ونستطيع بملاحظة القرائن خصوصا منهج القرآن به أن نأخذ بالرواية وغيرها .
سؤال: على فرض لو كانت الرواية صحيحة ، فهل يمكن لأئمة أهل البيت أن يقولوا بمثل ذلك ؟ بمعنى هل يمكن أن الأئمة يسايرون الثقافة العامة عند المسلمين ولا يخالفونهم من دون تقية ؟ .
فمجالس أهل البيت عليهم السلام كانت محط أنظار العامة والخاصة ، بالخصوص عصر الصادقين عليهما السلام فهي مختلطة طوائف المسلمين أجمع بما فيهم أصحاب الشك ، وهناك مجالس تفرد بها الخاصة .
فالمجالس المختلطة يجيب الإمام عليه السلام بأجوبة ، بل ويتغير الجواب من مجلس لآخر ، معتمدا كل ذلك على الأصحاب الذين درّبوا على الأدوات التي تعينهم لمعرفة الصائب من القول . فأهل البيت سايروا الموجة ، بغية الحفاظ على وحدة الأمة كهذه الرواية ، لكن لا على حساب التشويه والتنقيص الفاحش كالروايات الإسرائيلية في الأنبياء.
والدليل على ذلك ما ذكره الفقهاء في فقه التقية ، بأنها ليست مختصة في أحوال الخوف ، بل ويمكن أن تكون لأجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية يقول أحدهم "من خلال المعايشة للروايات سوف يحدث عندنا جو عام يصوّر لنا الحركة الاجتماعية التي عولجت من جانب المسألة الشرعية ،وليس هذا يعني تحكيم سلطان الحركة الاجتماعية على مفاد الحكم الشرعي ، بل لما كانت خصوصية الظرف قائمة في هذه الجنبة جاء الحكم الشرعي عليها بيانا وتحقيقا وتسهيلا من الله سبحانه على عباده ،ولولا هذا التسهيل الوارد في موارد الاضطرار والعسر والحرج لانصرف الكثير من الناس عن الدين " (11)
ومن هنا أحسن تعريف للتقية تعريف الشيخ المفيد رحمه الله " إن التقية جائزة ...ولضروب من الاستصلاح " وفي الكافي بسند صحيح عن حمران قال :"قلت لأبي عبد الله عليه السلام أسألك أصلحك الله ؟ قال :نعم ، فقلتُ : كنت على حال وأنا اليوم على حال أخرى ، كنتُ أدخل الأرض فأدعو الرجل والاثنين والمرأة فينقذ الله من يشاء وأنا اليوم لا أدعوا أحدا ؟ فقال : وما عليك أن تخلّي بين الناس وربهم ، فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه ... (نعم لو استطعت على نحو النبذ كما في تكملة الرواية ) .(12)
ومن هنا ظهرت التقية المجاملتية أو المدارتية وذلك لأجل كسب التحبب والتودد والمداراة ،ولو لم يكن هناك خوف في البين وشرّعت لزوال المنافرة ،بل لأجل التآلف والتحابب بين المسلمين .(13)
كل ذلك من خلال روايات اعتمد عليها الفقهاء ورأوا صحتها ، وهو كلام منطقي وعقلي فأهل البيت كما يقول السيد الحكيم لم يرضوا لأتباعهم إما العزلة والعيش في الفلوات والغابات والكهوف كأصحاب الديانات البدائية ، ولا يرضوا لهم المواجهة المسلحة وفرض الرأي بالقوة .(14)
ولهذا ازدهر المذهب وتطور بسبب مشاركته للآخرين . ففرضت التقية من باب التعايش الاجتماعي بين المسلمين . وهذا مغزى قول الصادق عليه السلام :" عليكم بالتقية فإنه ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودثاره ،لتكون سجيته مع من يحذره ". (15)
فأهل البيت عليهم السلام أعطوا أصحابهم قواعد معينة لمعرفة الحق من الباطل كروايات تنزيه الأنبياء – العرض على كتاب الله – مخالفتها للضروري ... .
والروايات مثل التي ذكرناها على فرض صحتها ،هي من باب التقية المداراتية المندوبة التي تكون (لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة سواء تعلق بنفسه أو بغيره) .(16)
ومن أعظم الأمثلة هي قضية القراءات بإجماع فقهاءنا بأن الأئمة عليهم السلام جوزوا قراءات المسلمين (التي كانت في عهد الأئمة) واستشهدوا بالرواية المشهورة عنهم عليهم السلام :" اقرأوا كما يقرأ الناس ،إقرؤا كما عُلمتم " (17) ، وتطلق الروايات الناس على من هو غير الإمامي .
ولا يستغرب أن علمائنا حدّثوا عن مشايخ العامة كالرواية الواردة في علل الشرائع " حدثنا أحمد بن الحسن القطان ؛باعتبارها أطول رواية في هذا الباب (قصة موسى والخضر) (18) يقول السيد الخوئي عنه:" هو من مشايخ الصدوق، وتوهم بعضهم حسن الرجل من ترحم الصدوق عليه، وهو عجيب، كيف وقد ترحم الأئمة عليهم السلام لعموم الزائرين لقبر الحسين عليه السلام، بل أفرط بعضهم فذكر أن الصدوق وصفه بالعدل، حيث قال في المجلس الثالث والثمانين من الأمالي، الحديث 5: " وحدثنا بهذا الحديث شيخ لأهل الحديث، يقال له: أحمد ابن الحسن القطان المعروف بأبي علي بن عبد ربه (عبدون) العدل ".وهذا أعجب، فإن الصدوق لم يصفه بالعدل، وإنما ذكر أنه كان معروفا بأبي علي بن عبد ربه العدل، ومعنى هذا أن العدل كان لقبا له - وكلمة العدل، وكلمة الحافظ، والمقري ونحوها من الألقاب - وأين هذا من توصيفه بالعدالة، ولا يبعد في أن يكون الرجل من العامة، كما استظهر بعضهم ".(19)
فسبب النزول لا يوفر لنا : المعطيات المناسبة للسورة ،ولا يعطينا قوة وانسجاما ، ومن أول ملاحظة تتضح الآيات قبل الرواية . أما لماذا اخترنا ذهاب القوم إلى نجران بدلا من المدينة ؟ الجواب : واحدة من القرائن وسيأتي في مقالة أخرى أن قصة الكهف فهم عاشوا في الفترة بين النبي عيسى ومحمد عليهما السلام ، واليهود سعوا في محاربتهم .
النتيجة : في مصادرنا لا يمكن أن نوثق بأن (موسى) الوراد في القصة هو كليم الله تعالى .
أما مصادر أهل السنة فقد اعتمدت كتب التفاسير على صحيح البخاري بطرق ثلاثة تكرر فيه اسم (عمرو بن دينار) ففي الرواية قال البخاري حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب لخضر ليس هو صاحب بني إسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله ... .
هذه الرواية هي الأخرى لا تعتمد ، بنفس البيان الوارد والنقد في مرويات الشيعة ؛ لأن من نقل هذه المرويات وخصوصا هذه الرواية من أصحاب التدليس ، وسنلحظ اثنين ، والتدليس عندهم عبارة عن كذب مخلوط ،أو أبيض مع أسود ، كالشبهة في الأسماء أو حذف شيء من المتن أو زيادة . فهو إخفاء عيب في الإسناد وتحسين لظاهره ،وهو على أقسام :
تدليس التسوية (رواية الراوي عن شيخه ، ثم إسقاط راوية ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر . وهو أسوأ التدليس وأشده كراهية. وبعده يأتي : تدليس الشيوخ :وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه ، فيُسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف كي لا يعرف . وفي المرتبة الأخيرة تدليس الإسناد ، ويوجد تدليس العطف مثلا حدثنا فلان وفلان ولم يسمع من الثاني .(20)
ويعتبر الإمام البخاري من المدلسين عند الدارقطني وابن حجر العسقلاني وسبط ابن العجمي في كتابين : أسماء المدلسين لــ: سبط ابن العجمي الشافعي تحقيق يحي شفيق ط1 ، 1406هــ رقم الترجمة (61)ص48 يقول المحقق : 80رجلا من رجاله ضعاف – انتقده الحفّاظ له 110 حديثا ،وتارة يكون هو في سلسلة السند . أما كتاب طبقات المدلسين لا بن حجر العسقلاني رقم الترجمة (23) ص24 ، (21)
ولم يكمل البخاري كتابه في حياته ، بل كما يذكرون أنه بقيت صفحات بيضاء أكملها بعده على يد بعض تلامذته (محمد بن يوسف الفربري و إبراهيم بن أحمد المستملي الذي يقول "انتسختُ كتاب البخاري كما عند ابن يوسف فرأيته لم يتم بعد ،وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة ..." (22) فالتدليس مراتب ولكن هل يؤثر على روايته أم لا ؟ هناك خلاف بين علماء الحديث بعضهم قال التدليس أخو الكذب ،وبعضهم قال هو ضرْب من الإيهام ،وهناك أربعة مذاهب في قبول الرواية (رفض – قبوله كالحديث المرسل – إذا غلب التدليس وكان ثقة قبل - التفصيل من يروي بصيغة السماع أو غيره ) (23) يقول الشافعي :" ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته ،وليس تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ولا النصيحة في الصدق ... أراك تقبل شهادة من لا يقبل حديثه ؟ قال : فقلت لكبر أمر الحديث وموقعه بين المسلمين ..." (24) فحتى لا نخدش في الراوي وعصمته ، ننزهه ونقبل مروياته أيًا كانت ، ونحن نذكر أنه ليست في رواية واحدة بل مرويات متعددة .
وبالإضافة مع البخاري نجد مثلا :
في الروايات الثلاث يوجد شخص : عمرو بن دينار أبو يحي قهرمان آل الزبير بصري وكان أعور : ضعفه ابن عدي في الكامل برقم ( 1297) ضعيف الحديث – ليس بشيء ... . (25)
أخيرا راوي السيرة النبوية محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي (ت150هــ)"ممن أكثر منه خصوصا عن الضعفاء "قال ابن حجر : مشهور بالتدليس عن الضعفاء .(26)
أما عند الشيعة والسنة فقد اتهم بتشيعه ومن ثم تعرض مؤلفه للضياع حتى ظهر بشكل مختصر ومشوه وهذّبه وزاد فيها ونقّص منه ابن هشام الأنصاري (ت213 أو 218هــ) (27) وأكثر من الأخذ من رجل يقال له عروة بن الزبير بن العوام و آخرين (28)
وهم معروفون بين المسلمين بعدائهم لعلي عليه السلام وميله للأمويين ،مع ما فيه من الزلل والخطل باعتراف كبار أئمتهم .
في الختام : لا يمكننا أن نعتمد على سند الرواية والتي اعتمدها البعض وأصبحت إجماعًا على أن موسى المذكور في قصة سورة الكهف هو الكليم موسى بن عمران ، لما عرفته من بعض الأسباب .
ولكن يبقى السؤال : هل ترجح قول المسلمين بأن القرينة تصرف إلى موسى المعهود أو تذهب كما ذهب إلى ذلك أهل الكتاب أو كما في الرواية التي لعن فيها ابن عباس نوف البكالي الذي يرى رأيهم ؟ أو ترجح الاحتمالات الأخرى .
يتبع
الهوامش
(1)الهرمنوطيقا ومنطق فهم الدين ، الشيخ علي الرباني الكلبايكاني ص53-54
(2)(السبحاني كليات في عم الرجال ص313-314
(3)الذريعة ج4ص308
(4)تفسير القمي بحث حول النسخة المتداولة ، الشيخ أحمد سلمان ص 75
(5)كليات في علم الرجال ص316
(6)رجال النجاشي ترجمة رقم (944) ص350
(7)مقدمة كتاب تفسير العياشي ص14
(8) دروس في علم الدراية ، أنعم بركات ص148
(9) الذريعة ج4ص295
(10)اختيار معرفة الرجال الشيخ الطوسي ج2ص855
(11)رسالة في التقية تقرير لأبحاث آية الله الشيخ شمس الدين الواعظي تأليف مجتبى السويج ص15
(12)التقية من منظور الشيخ المفيد السيد محمد باقر الحكيم ص19
(13)رسالة في التقية ص31
(14)التقية من منظور الشيخ المفيد ص65-66
(15)رسالة في التقية ص32
(16)التقية مفهومها حدّها دليلها ، الشيخ جعفر السبحاني ص68
(17) البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي ص167
(18)علل الشرائع ج1ص77
(19)معجم رجال الحديث ، للسيد الخوئي ، ج2 ص93
(20) شبكة الألوكة الشرعية (الحديث المدلس ترعيفه وأنواعه وأمثلة عليه) شبكة تعني بالعلوم الشرية بإشراف الدكتور سعد الحميد
(21) أسماء المدلسين ، سبط ابن العجمي ،طبقات المدلسين ،ابن حجر العسقلاني (22)روايات ونسخ الجامع الصحيح للإمام البخاري ، د محمد عبد الكريم بن عبيد ص13
(23)حكم التدليس وحكم من عرف به ، ماهر الفحل مقالة ص1
(24)الرسالة الإمام الشافعي ص379-380
(25)الكامل في ضعفاء الرجال ،لابن عدي ج6 رقم 1297
(26)أسماء المدلسين ، سبط ابن العجمي ترجمة رقم (60)
(27)في حاشية أعلام الورى بأعلام الهدى (المحقق مؤسسة أهل البيت ج1ص10
(28)(سيرة ابن هشام (المقدمة)ج1 ص7)
جديد الموقع
- 2024-05-21 سماحة الشيخ عبد الله اليوسف: صديق الكتاب وحليف القلم والقرطاس.
- 2024-05-21 سمو محافظ الأحساء يكرّم فريق كرة اليد بنادي العيون بمناسبة الصعود للدرجة الأولى
- 2024-05-21 عرس تكريم الفائزين والفائزات بجائزة الصالح للتفوق العلمي الدورة "18" رعته صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة بنت فيصل
- 2024-05-21 تعليم الشرقية يشارك بركن توعوي تزامناً مع اليوم العالمي للامتناع عن التدخين 2024
- 2024-05-21 نائب أمير الشرقية يرعى حفل تخريج 61 طالبا وطالبة من أكاديمية "زادك"
- 2024-05-21 المملكة تستعرض جهود منظومة المياه لتطوير القطاع أمام الدول المشاركة في معرض المنتدى العالمي للمياه بإندونيسيا
- 2024-05-21 في اليوم الأول من مهرجان الكتاب الثاني تجارب في الكتابة وقصائد شعرية و١٦ منصة توقيع للكتاب المشاركين بأدبي الشرقية
- 2024-05-21 *15 متخصصاً يعرضون تجاربهم غداً في ملتقى "غير" السنوي بالباحة
- 2024-05-21 دائرة المواريث تدعو لتحديث بيانات الاوقاف
- 2024-05-20 البريد السعودي | سبل ومجموعة فقيه للرعاية الصحية يوقعان اتفاقية إيصال الأدوية والمستلزمات الصحية للمستفيدين في أنحاء المملكة