2019/07/24 | 0 | 1505
وظائف المسلم المعاصر تجاه مذهب أهل البيت النبويّ(ص)
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا
تمهيد
الموضوع الذي سنتحدّث عنه هو «وظائف المسلم المعاصر تجاه مذهب أهل البيت(ع)»، وهو عنوان ليس بجديد، لكنّني أهتمّ بإضافة كلمة «المعاصر»؛ لنطلّ من خلالها على بعض المستجدّات، وعلى بعض الأساليب والمضامين الضروريّة في عصرنا تجاهَ هذا المذهب الكريم الذي لا تقف إشعاعاته عند الشيعة الإماميّة، بل لها امتدادات أوسع بكثير، فلأهل البيت(ع) أتباعٌ كثيرون ومحبّون كُثُر، وربّما يتفاضل المحبّون فيما بينهم، لكنّ أكثر المسلمين يحبّون أهل البيت(ع) في قلوبهم، سواء قصّروا تجاههم في مقام العمل أم لم يقصّروا.
فيما يتعلّق بوظيفتنا تجاه مدرسة أهل البيت(ع) في هذه المرحلة التاريخيّة والمصيريّة من عمر أمّتنا، يمكن تقسيم الحديث إلى ثلاثة محاور أساسيّة، ضمن بيان ثلاث وظائف، أودّ أن اُسمّيها:
1 ـ الوظيفة البنائيّة: وفي هذا المحور سوف نتحدّث عن الوظيفة على مستوى بناء مذهب أهل البيت(ع).
2 ـ الوظيفة البيانيّة: وفي هذا المحور سوف نحاول أن نجيب: كيف نقدّم هذا المذهب للآخرين؟ وكيف نعرضه في هذا الزمن لسائر الناس؟ وكيف نقرّب الناس من هذا المذهب بدلاً من أن نُبعدهم عنه؟
3 ـ الوظيفة الدفاعيّة: ويرتبط هذا المحور بتقديم جواب عن السؤال الآتي: كيف ينبغي لنا أن ندافع عن هذا المذهب؟ وما هو الدفاع الأمثل الذي يحقّق أغراضَه ولا ينقضها؟
المحور الأول: الوظيفة البنائيّة
كيف ينبغي لنا أن نبني هذا المذهب؟ على أيّ أسس ينبغي أن نقيم هذا المذهب الذي نعتقد بأنّه يمثّل القراءة الأفضل للإسلام، والقراءة الأقرب لروح ما جاء به الرسول|؟
هذا السؤال لا أقصد منه أنّنا نقوم بصنع المذهب، فأصحاب هذا المذهب هم النبيّ وأهل بيته، بل مرادي هو: كيف نقوم نحنُ بتشييد المذهب في مقام الإثبات في أفق المعرفة الفكريّة.
بناء المذهب، بين الجدل والبرهان
لو تصفّحنا ما يحيط بنا في واقعنا المعاصر، نجد أنّ فريقاً من المؤمنين ربّما يميل أو يتعاطف أكثر ـ من حيث يشعر أو لا يشعر ـ مع بناء هذا المذهب على أساس الجدل والمماحكة، وليس على أساس العلم والبرهان، بينما الكثير من علماء الشيعة عبر التاريخ فضّلوا لأتّباع مذهب أهل البيت سلوكَ سبيل البرهان والمنطق والحجّة، سواء فيما قدّمه بعض المتكلّمين القدامى أم فيما قدّمه المتكلّمون المتأخّرون أم فيما قدّمه فلاسفة علم الكلام أو متكلّمو الفلسفة، مثل ما جاء مع فلسفة ملاصدرا الشيرازي وأنصار هذه المدرسة.
لقد قدّم هؤلاء نظريّاتهم عبر الأدلّة والبراهين، وشرّحوا هذه الأدلّة، وساقوا إثباتات متعدّدة لتأكيد صوابية هذا المسلك الذي سلكوه في الأمّة، لكن نحن اليوم بتنا نخشى أنّنا صرنا محكومين لنزعة دفاعيّة وجدليّة، فصار المعبّر عن أساسيّات هذا المذهب هو الطابع السجالي، والسؤال هنا: ما الذي يمكنه أن يشيّد نظريّات هذا المذهب: هل تلك المساجلات التي نسمعها هنا أو هناك أو الحلقات البحثيّة العلميّة التخصصيّة المنفتحة القائمة على أساس البرهان والمنطق المتعالي عن التحيّزات المسبقة؟
مع الأسف الشديد نلاحظ اليوم، أنّنا بتنا نستخدم الأساليب النفسيّة في تشييد بعض نظريّات علم الكلام أحياناً، بدلَ أن نستخدم الأدلّة والبراهين من الكتاب والسنّة ومن العقل والمنطق العقلاني، فإذا أردنا أن نبني فكرةً استخدمنا الإجماعَ، وقلنا: هذا هو ما أجمع عليه العلماء، مع أنّ الإجماع ليست له قيمة تُذكر في مثل قضايا علم الكلام كما يقول العلماء أنفسهم.
وإذا أردنا أن نبني فكرة عقديّة معيّنة وجدنا أنفسنا نستند بالدرجة الأولى إلى رواية ضعيفة السند والمصدر، ونُدرك أنّها ضعيفة السند أحياناً، لكن مع ذلك يشدّنا الشعور العاطفي المتفاعل مع مضمون هذه الرواية إلى الاعتقاد بها، وأحياناً إذا وقفنا أمام فكرةٍ ما نستطيع أن نقتنع بها على أساس أنّها متداولة مشهورة، مع أنّ شهرة فكرةٍ ـ لاسيما في القضايا العقائديّة ـ لا قيمة لها تُذكر.
لقد درسنا جميعاً في علم المنطق ـ في الجزء الثالث من كتاب المنطق للشيخ محمّد رضا المظفر ـ أنّ العالَم كلّه لو وقف ضدّك وبيدك البرهان، فلا قيمة لكلّ العالم ما دمت تملك البرهان على صواب فكرتك هذه، ولو وافقك العالم كلّه على فكرةٍ مّا وأنت لا تملك عليها برهاناً ـ بالمعنى العلمي للكلمة ـ فلا قيمة لموافقتهم هذه، فلسنا في إطار عملٍ سياسي ولا في انتخابات شعبويّة، وإنّما في إطار بحث علمي، والدوائر والمساحات مختلفة تماماً.
نحن نشعر في العقود الأخيرة أنّنا بدأنا نميل أكثر ـ في بعض الأحيان ـ لتثبيت وتشييد وإقامة بعض أساسيّات هذا المذهب على أسُسٍ أقرب إلى الأسس النفسيّة التي إنّما تعطي الإنسان طمأنينةً نفسيّة؛ لأنّ أيّ إنسان عندما تقول له: إنّ الناس كلَّهم مؤيّدون لهذه الفكرة، يشعر بالطمأنينة، لكن عندما تقول له: إنّ هذه الفكرة لا يؤيّدها أحدٌ من حولك، يشعر بالوحشة، وهذا أمر طبيعي ونفسي.
فاعتمادنا أحياناً للبرهنة على أفكارٍ مّا من خلال إجماع أو من خلال شهرة أو من خلال شيوع هذا الأمر بين الناس أو من خلال رواية ضعيفة أو من خلال رؤيا رآها شخصٌ في منامه أو من خلال إخبار أخبره رجلٌ طيّب متديّن صافي القلب والسريرة.. هذا كلّه سوف يضعضع بمرور الأيام أساسيّات أفكارنا واعتقاداتنا.
ما أعنيه هنا، وأرجو التدقيق جيداً، هو أنّ تحوّل الثقافة العامّة ـ بما فيها ثقافة النخبة ـ بشكلٍ تدريجي نحو اعتماد هذا اللون من الأدلّة لتشييد المعتقدات العامّة سوف يؤدي لاحقاً إلى تحوّل القاعدة البنائيّة للمذهب ـ ولو على صعيد بعض جوانب العقيدة المهمّة ـ إلى قاعدة هشّة، وقد تورّطت في هذا الأمر بعضُ المذاهب التي انعزلت عن المجتمعات المسلمة وانكفأت إلى أماكن جعرافيّة نائيّة أو إلى المترفعات والجبال بسبب بعض الظروف التاريخيّة، فغابت عن تشييد قواعد عقيدتها على اُسس علميّة وحلّت مكانها الأسس الاجتماعيّة وقواعد حماية الهويّة والمعايير العاطفيّة والنفسيّة.
الأمر شديد الخطورة هنا هو أنّ سيطرة المتكلّم الجدلي على بناء العقيدة، سوف يؤدّي إلى تكريس فرضيّات عقديّة بوصفها حقائق، لا لشيء سوى لأنّه اضطرّ في لحظةٍ ما لطرحها في سياق الدفاع الجدلي، إنّها قضيّة بالغة الخطورة وتعاني منها الكثير من الأديان والمذاهب عبر التاريخ.
ينبغي أن لا ننجرّ في ظلّ هذا الجوّ المتشنجّ المحيط بنا، وربّما المعادي لنا في كثير من الأحيان، أن لا ننجرّ للتشبّث بأيّ وسيلة ممكنة، كالغريق الذي يتشبّث بأيّة خشبة يراها في طريقه، بل علينا أن ندرس الوسائل والأدوات التي نستخدمها لبناء مذهب أهل البيت(ع) كي تكون علميّةً وموضوعيّة ونزيهة في الوقت نفسه، كما هي الحال في ما عرفناه من سمات أئمّة أهل البيت(ع) أنفسهم.
هذا كلّه هو ما يفسّر أنّك في بعض الأحيان تلاحظ عالماً باحثاً عملاقاً عندما يخوض مجال البحث الفقهي أو الأصولي فهو مُبْهِر رائع متين قويّ عميق دقيق، لكنّه بنفسه عندما يذهب نحو البحوث العقائديّة تجده بسيطاً يتوسّل أدلّةً لا يمكن أن يسمح لنفسه أن يعتمدها في أبسط القضايا الفقهيّة! هذه المفارقة هي ما أعنيه من أنّ الوسائل غير البرهانيّة الدقيقة من الطراز الأوّل هي التي تهيمن على البحث الكلامي أحياناً، فيما يظلّ البحث الفقهيّ محميّاً من نفوذ هذا النوع من الأدلّة والمقاربات.
إذن، واحدة من الأمور الأساسيّة اليوم في خدمة هذا المذهب، وفي خدمة هذا الطريق، وفي خدمة هذه القراءة للإسلام التي نراها من القراءات الأسلم والأقرب إلى الحقّ، أن نشيّده على أساس البرهان، لا أن نشيّده على أساس الجدل، ولا على أساس مماحكات ومخاصمات ومساجلات، فليست الحوارات التلفزيونيّة هي التي من حقّها أن تكون الحاسمة في هذا المجال فقط، بل يمكن للحلقات البحثيّة والعلميّة، وأيضاً الحلقات التخصصيّة في المحافل العلميّة، أن تقدّم نتائج أكثر ضماناً في هذا الصدد.
بناء المذهب والجرأة المعرفيّة
إلى جانب ما تقدّم، ينبغي لنا أن نملك الجرأة في بناء هذا المذهب على أسس علميّة ومتينة، وهو ما بات يسمّى في الثقافة العالميّة بعد عصر التنوير بـ«الجرأة المعرفيّة». ينبغي أن لا نكون خائفين من كسب المعرفة أو البوح بها، فإذا اعتقدنا بفكرةٍ لا نخشى الآخرين في بيانها، سواء وافق الآخرون عليها أم لا، فليس الخوف من سمات أئمّة أهل البيت(ع) حتى يصبح جزءاً من هويّتنا، ليس الخوف من صفاتهم ومن خصالهم حتى نعيشه ونؤاخيه، ليصبح أخاً لنا في ليلنا ونهارنا، ونخشى أن نبوح بما في قلوبنا؛ لأنّ الآخر الذي سنبوح أمامه ربّما يُلحق بنا الضرر، وربّما لا يكون في الحقيقة ضرراً بقدر ما يكون خسارة جزئيّة لمكانتنا الاجتماعيّة.
قد نسمع أفكاراً لا أساس لها في بعض الأحيان، دون أن يقف واحدٌ منّا ليقول: إنّ هذه الفكرة أو تلك الفكرة غير صحيحة، لا يجرأ أحدٌ ـ ولو كان من أكبر الشخصيّات ـ أن يقف أمام شخص يتكلّم بأفكارٍ غير صحيحة، إذا كان ذلك الشخص يمكن أن ينتقده أو يشنّ حملةً عليه أو يهاجمه وربّما يُسقطه في الحياة الاجتماعيّة.
نحن ـ للأسف الشديد ـ بتنا نعيش حالة الخوف هذه، وعلينا أن نحرّر أنفسنا من هذا الخوف الذي قد يوجب وقوعنا في عاقبةٍ لا تُحمد. نحن لا نطالب بالتهوّر ولا بالتصادم ولا حتى بصدم الواقع دوماً، وإنّما نريد فقط أن لا نكون ممّن يعيش عقدة الخوف، وعقدة الرهاب، يُرهبونه فيصبح في داخل نفسه يعيش الرهاب والخوف، حتى لو لم يفعل أحدٌ شيئاً لكنّه يخاف من داخله، كأنّما هناك شيء في أعماق نفسه يقول له: لا تقل الحقيقة التي تؤمن بها، أترك الباطل ينتشر، أترك الانحراف ينتشر، لا عليك، بل ربّما ينظّر لنفسه هنا وهناك عبر تخريجٍ فقهي آخر يتناسب مع خوفه هذا.
هذه نقطة مهمّة، يجب علينا في ظلّ هذا الوضع القائم الذي نجد فيه كثيراً من الأفكار تنتشر هنا أو هناك، وتُنسب لمدرسة أهل البيت^، وتُلحق بهذا المذهب ضرراً عظيماً، يجب علينا أن لا نكون خائفين، وأن نظهر الحقّ بالكلمة الحسنة والأسلوب الهادئ العقلاني، ولا نبقى صامتين، فإذا سكتنا جميعاً فلن يبقى هناك أحدٌ يستطيع أن يوضح أو يُجري الأمور في مسارها الصحيح، بل ربّما يسيطر على هذا المذهب بعض التيارات التي قد تجرّه إلى الهاوية.
إذن، علينا ـ من جهة أولى ـ أن نبني هذا المذهب على أسس علميّة ومتينة، كما فعل بعضُ المتقدّمين، بل وبعض المتأخّرين أيضاً، مثل السيد محمّد باقر الصدر والشيخ مرتضى مطهري وغيرهما من العلماء الكبار الذين شادوا هذا المذهب، وقوّوا بناءاتِه على أساس برهاني علمي منطقي. وعلينا أن لا نستخدم ـ في بناء تصوّراتنا وعقائدنا وأفكارنا ـ أساليبَ لا تمتّ إلى المنطق والعقلانيّة بصلة، وإنّما تنتسب إلى الجانب النفسي والعاطفي أكثر مما تنتسب إلى الجانب العقلي والمنطقي.
كما وعلينا ـ من جهة ثانية ـ أن نملك الجرأة المعرفيّة، لكي نصوّب الأفكار التي تنتسب هنا وهناك إلى مذهب أهل البيت(ع)، فنقول بصراحة: إنّ هذه الفكرة أو تلك الفكرة ليست من أفكار مذهب أهل البيت(ع) ولا تنتسب إليهم، ولا نخافنَّ من أحدٍ في هذا السبيل، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54).
لا يجوز للمسلم أن يسكت أمام أفكار تُنسب خطأ ـ وربّما زوراً ـ لأهل البيت(ع)، خوفاً على مكانته الاجتماعيّة أو موارده الماليّة وحياته الشخصيّة، بل يجب أن تكون لدينا جرأة عقلانيّة، فنحن لا نتكلّم عن جرأة متهوّرة، بل عن جرأة عقلانيّة نستطيع من خلالها أن نقف في وجه تشويه صورة هذا المذهب من قِبل من ينوون تشويهه عمداً أو من قِبل بعض أنصاره الطيّبين الذين ربّما يقعون في تشويه صورة هذا المذهب الإسلامي العريق من حيث لا يقصدون.
ينبغي أن يكون هناك حضور غير صدامي، تبوح به بما في قلبك ولا تبقى صامتاً فتحوم الأخطاء هذه من حولك، وأنت لا تُبدي أيّ ردّ فعلٍ تجاهها.
توظيف التطوّرات العلميّة والمعرفيّة في بناء مذهب أهل البيت(ع)
أختم هذا المحور من وظائفنا، بالتركيز على ما فعله السيد الشهيد محمّد باقر الصدر، حيث قام بتوظيف منجزات العقل الإنساني الحديث، والتطوّرات العلميّة والمعرفيّة في العالم في خدمة الدين، فقد ألّف السيد الصدر كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، ذلك الكتاب النادر بحقّ، والذي هجرناه وبدى يتيماً في أوساطنا، كَتَبه ليتوصّل في آخر صفحة منه إلى جملة واحدة، يقول فيها: إنّ المنهج الذي يثبت العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة هو نفس المنهج الذي يثبت الله سبحانه وتعالى ووجوده.
لقد استطاع السيد محمّد باقر الصدر أن يأخذ بأسباب التطوّر العلمي بما أمكنه، ليستفيد من هذا التطوّر في تجديد وعينا الديني، وفي تجديد أدلّتنا في مسائل علم الكلام، ولهذا وجدناه يطوّر من الأدلّة الكلاميّة في إثبات النبوّة العامة، والنبوة الخاصة، وفي إثبات الصفات الإلهيّة، وكذلك في إثبات الإمامة، وأيضاً في إثبات أصل وجود الله تبارك وتعالى وبعض صفاته، ذلك كلّه مستعيناً بالمنهج الاستقرائي الذي تقوم عليه العلوم الطبيعيّة اليوم، بل تقوم عليه أغلب العلوم في عصرنا.
إذن، نحن أيضاً مطالبون بأن نذهب لنرى تطوّرات العلوم، ونستفيد منها ـ طبعاً فيما نراه حقّاً منها، لا تقليداً واتّباعاً ـ لنشيّد عليها صيغاً جديدة لبراهين جديدة، ولأدلّة جديدة، تدعم قِيمَنا الدينيّة، وتدعم عقائدنا ومفاهيمنا الدينيّة، وتنقّي الدينَ من بعض أفكارنا التي قد ننسبها للدين خطأ. هذا هو السبيل الذي يمكنه أن ينهض بهذا الدين والمذهب من إطار المساجلات والمشاجرات إلى إطار عقلاني علمي حضاري، يستطيع من خلاله أن يواجه كلّ هذه التحوّلات الكبرى في العالم.
إنّ الوظيفة الأولى التي تقع على عاتقنا هي أن نحاول تشييد أركان هذا المذهب على أسس علميّة ومنطقية، وهذه الوظيفة موجّهة ـ بالدرجة الأولى ـ للمؤسّسة الدينيّة بما فيها الحوزات العلميّة، والجامعات الدينيّة والعلماء، فهم مطالبون بتشييد أساسيّات هذا المذهب دائماً وفقاً للمنطق البرهاني العلمي، آخذين بعين الاعتبار آخر التطوّرات العلميّة والمعرفيّة الموجودة اليوم في العالم، ولا يسمحون بتشييد المذهب على أساس الرؤى والمنامات والإجماعات والشهرات والعواطف والحماسة والرأي الشعبي العام وما تفرضه ضرورات الجدل و..؛ إذ ليس لهذه من قيمة في قضايا مثل علم الكلام وبناء العقل العقدي.
المحور الثاني: الوظيفة البيانيّة
لنفترض أنّنا شيّدنا وبنينا أساسيّات هذا المذهب وفقاً للمنطق العلمي والبرهاني الحرّ والجريء، ولم نسمح لمنهجٍ مغاير أن ينفذ إلى أصول مصنّفاتنا الكلاميّة، ليتحوّل إلى أساس من أساسيّات الاستدلال الداخليّ فيها.. لكن كيف نعرضها للآخر؟ كيف نقدّمها للناس؟ بأيّ طريقة نستطيع أن نخاطب الآخرين، ونعرض لهم هذا النتاج العلمي الذي توصّلنا إليه؟
أكتفي هنا بالإشارة إلى أربعة عناصر أساسيّة، تجب ـ في حدود قناعتي المتواضعة ـ مراعاتها للوصول إلى ما ربما يكون أجود طريقة لعرض مذهب أهل البيت:
أ ـ العرض العقلانيّ الحضاريّ
لعرض مذهب أهل البيت(ع) اليوم، لابدّ من استخدام منهج وأسلوب عقلاني حضاري. نحن مع الأسف الشديد ما زال بعضنا حتى الآن يعرض المذهب بطريقة لا يصل عبرها إلى نقاط بعيدة في العالم.
لكي اُوضح هذا الموضوع آخذ أنموذج «الحركة الحسينيّة»، فنحن في كثير من مجالسنا وخطاباتنا وبياناتنا في ذكرى استشهاد أبي الأحرار الإمام أبي عبد الله الحسين×، نقدّم هذه الثورة العملاقة ـ من حيث لا نشعر ـ على أنّها صراعٌ قَبَلي، ونصوّرها على أنها كانت نتيجة الاختلافات التي كانت بين عشيرة بني هاشم وعشيرة بني أميّة، حيث دخلوا في صراع قَبلي لتثبت عشيرةٌ فضلَها على أخرى، وهذا يقول: أنا ابن فلان، وذاك يقول: أنا ابن فلان، ويفتخرون فيما بينهم بآبائهم وأنسابهم، فهم غارقون في الصراع بين الأسماء.
هنا نلاحظ كيف أنّنا ـ من حيث لا نشعر ـ فرَّغنا هذه الحركة العظيمة من أبعادها الحضاريّة، حيث لا نحاول استحضار البُعد الحضاري لهذه الحركة العملاقة، فلا نرى في أوساطنا العامة اهتماماً بهذا الموضوع بقدر ما يهتمّون بالخلافات القبليّة بين بني هاشم وبني أميّة، فإذا أراد شخصٌ مسيحي أو يهودي أو بوذي في أطراف هذا العالم ـ وهم أغلبيّة العالم بالمناسبة، ونحن المسلمون نكوّن الأقليّة فيه ـ إذا أراد أحدٌ منهم أن يستمع إلى هذه الحركة من خلال خطابنا العام، فسيستنتج من أدبياتنا التي نعرضها بها أنّ العرب عندما دخلوا في الإسلام لم يخرجوا من الأزمة القبليّة، ومن ثمّ ما زالت العقليّة القبليّة بينهم، ونتيجة ذلك تصارعوا فيما بينهم، وأفرزت هذه العقليّة القبليّة هذه الحرب القبليّة التي حصلت بين الحسين بين علي ويزيد بن معاوية.
إنّ الآخر لن يأخذ أيّ تصور أعمق من هذا، في حين المطلوب منّا أن نقدّم المشهد بوصفه ثورةً للدفاع عن حريّة الرأي وعدم فرض البيعة بالقوّة على الناس، وعن المظلومين المهضومة حقوقهم، وضدّ التشويه البشع للإسلام والقيم الإلهيّة، ولمواجهة التعسّف في استخدام السلطة. لقد وقعت هذه الحركة التاريخيّة لكي يعيش الناس أحراراً، ومن أجل عبوديّة الله سبحانه وتعالى، ولكسر المنطق الطبقي والقومي الذي كرّسه بنو أميّة.
إنّ هذه المفاهيم كلّها مفاهيم حضاريّة معاصرة، وأنت بإمكانك أن تعكس هذه الثورة العظيمة للعالم بأكمله من خلال هذه المداخل والمفاتيح، لكن كثيرون منّا مع الأسف الشديد غائبون عن هذه المداخل والمفاتيح العالميّة والحضاريّة في عرض مذهبهم، ويصرّون ـ لغرض أو عن طيب قلبٍ وحُسن نيّة ـ على أن نحجّم هؤلاء الأئمّة الكبار وتجاربهم العظيمة في إطار الصراعات الضيّقة بحجمنا نحن، فليس همّ أئمّة أهل البيت ـ في تصويرهم لهم ـ إلا تصفية الحساب مع أهل السنّة واحتقار سائر علماء المسلمين، وكأنّه ليس لهم في المشروع الإنساني والعالمي ناقة ولا جمل، ولا همّ لهم إلا زعامتهم!
قيل: سُئلت النملة: كيف هو الله؟ فقالت: «له قرنا استشعار»؛ لأنّ كلّ إنسان يقيس العظماء على حجمه، وهذا غير صحيح أبداً، بل يجب أن نرتقي نحن إلى هؤلاء العظماء لكي نقرأهم، لا أن نُنزلهم إلى مستوانا، فنحجّمهم ونصغّر من حجمهم الطبيعي.
إذن، نحن بحاجة إلى عرضٍ عقلانيٍ حضاريٍ قادر على أن يخاطب أبعد مدى في هذا العالم من خلال هذه القيم العظيمة التي يتمتّع بها مذهب أهل البيت، وتراثهم الحديثي مليء بالقيم الحضاريّة التي نستطيع من خلالها عرض مذهبهم للعالم كلّه.
على سبيل المثال، كتاب نهج البلاغة خاصّة في القسم الأخير منه، وهو كلمات القصار، يتضمّن مجموعة هائلة من الحِكم الرائعة، وهي حكم أمميّة، وليست داخل إسلاميّة أو داخل مذهبيّة، لكن نحن لم نستطع أن نوظّف هذه المجموعة من كلماته القصار، لنحوّلها إلى أساسيات في خطابنا على مستوى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ومع الأسف أردنا أن نحجّم تلك الكلمات في إطار ضيّق.
وعليه، فالنقطة الأولى في عرضنا لهذا المذهب في هذه اللحظات التاريخيّة والمصيريّة التي نعيش، هي أن نعرضه بطريقة تعطيه حجمَه الطبيعي، لا أن نقزّمه أو نصغّره بمقاساتنا الشخصيّة أو الفئويّة، ونصوّر قضاياهم(ع) على أنّها مسائل جزئيّة ومحدودة.
ب ـ عرض المذهب ووعي الزمان والمكان والمخاطب
العنصر الثاني من عناصر وظيفتنا البيانيّة تجاه مذهب أهل البيت(ع)، هو الاهتمام بتطوير أساليبنا في البيان؛ نظراً لتغيّر الزمان والمكان والمخاطب، الأمر الذي يتطلّب منّا أن ندرس المخاطب وتداعيات ما نقول وما لا نقول، قبل أن نبدأ بالكلام.
لقد لاحظنا في الفترة الأخيرة، أنّ سياسة عرض مذهب أهل البيت(ع)، ابتليت في بعض المجالات بعدم الاهتمام بمعرفة المخاطب وظروفه المتغيّرة، فبعضُهم يتكلّم على بعض الفضائيّات وكأنّه يخاطب مجتمعاً داخليّاً، ولا يراعي وجود فئات مختلفة في المجتمع، كما لا يراعي حجم ابتعاد الآخرين واقترابهم منه، إنّه لا يراعي ما يمكن أن يقال وما لا يمكن، ففي كثيرٍ من الأحيان بتنا نجد أنّ المتكلّم ـ سواء على المنبر أم على شاشة التلفاز ـ لا يراعي من يخاطبه، ولا يحدّد هويّتَه، وأنّه هل يستطيع أن يفهم كلامه أو لا؟ هل كلامه موجب لتشويه المفهوم عنده أو لاندفاعه نحوه؟
بعضنا يظلم أحياناً مذهب أهل البيت من خلال أسلوبه الجافّ غير المرن، والذي لا يراعي أدوات الزمان والمكان، ولا يفهم المخاطبَ الذي يوجّه إليه خطابه، فيصطدم بنتائج عكسيّة.
في بعض الأحيان قد نكون ـ والعياذ بالله ـ مصداقاً للصدّ عن سبيل الله؛ لأنّ الذي يصدّ عن سبيل الله ليس فقط الشخص الذي يقف أمام المسجد، ويمنع الناس من دخوله، بل ربّما يكون ذاك الذي يصلّي في المسجد نفسه، لكنّه يفعل ـ وربما قاصداً القربة إلى الله ـ ما ينفّر الناس من العبادة والصلاة.
يجب أن ننتبه إلى أنّنا في بعض الأحيان قد نكون من الصاديّن عن سبيل الله بأساليبنا الفجّة التي لا تراعي، ولا تقرأ المخاطَب المعاصر. نحن اليوم لم نعد نتحدّث في جلسات صغيرة في مسجد أو حسينيّة، وإنّما نتحدّث أمام مئات الملايين من الناس. يجب أن نفكّر في أساليبنا مليّاً، لنعرف ما هو الأسلوب الصحيح في عرض مذهب أهل البيت.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابدّ لنا من تطوير أسلوبنا في البيان نفسه، حتى لا يكون ـ كما هو أحياناً مع الأسف ـ أسلوباً متخلّفاً. لقد تطوّرت اليوم أساليب البيان والعرض والجذب، وقد كُتبت دراسات عديدة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال نحن نستخدم عادةً الأسلوب المباشر، فعندما نريد أن نقنع الآخر بفكرةٍ ما، نتكلّم مباشرةً عن تلك الفكرة نفسها، في حين يمكننا أن نتحدّث عن مجموعة عن الأفكار المحيطة بهذه الفكرة بما يدفع المخاطب إلى الاقتناع بتلك الفكرة بسهولة، على طريقة منطق الإعلام المستخدَم اليوم في العالم، حيث يجذب المخاطب نحوَ ثقافة بطريقة غير مباشرة، ليكرّس في وعيه تلك الثقافة دون أن يشعر بذلك عادةً، فنجدهم ينفقون المليارات من الأموال ليُخرجوا فيلماً يعالج في ظاهره قصّةً دراميّة معيّنة، لكنّه في الحقيقة يكرّس في المخاطَب فكرةَ أو ثقافةً سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة محدّدة.
هذا هو ما يلزمنا اليوم أن نهتمّ به، ونحاول استكشاف الأساليب الجديدة لبيان وعرض مذهب أهل البيت(ع)، فإنّ العالَم لم يعد عالَم الحبر والقلم أو عالم المنبر والمستمِع فقط، فهذه الأساليب مع جودتها لا تكفي اليوم لمواجهة الأدوات الإعلاميّة العملاقة
جديد الموقع
- 2024-04-29 ريم أول حكم سعودية لرياضة رفع الأثقال حازت على الشارة الدولية
- 2024-04-29 بيئة الأحساء تدشّن أسبوع البيئة 2024 تحت شعار "تعرف بيئتك"
- 2024-04-29 منتدى البريكس الدولي يكرم الفنان السعودي الضامن في غروزني الشيشان ..
- 2024-04-29 حققوا المركز الأول على مستوى المملكة كأعلى تسجيل للطلاب طلاب "تعليم الرياض" يفوزون بـ13 ميدالية في أولمبياد "أذكى"
- 2024-04-29 جمعية العمران الخيرية بالاحساء للخدمات الاجتماعية تحظى بتكريم مرموق من مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري .
- 2024-04-29 مبادرة خطوة قبل الشكوى تبدأ فعالياتها بتأهيل اناث الدمام
- 2024-04-29 افراح الشبيب والعبدالسلام في قاعة الفارس بالاحساء
- 2024-04-28 الحاج معتوق الهدلق.. سيرة عاطرة
- 2024-04-28 بين لججِ الشك وفِخاخِ الغواية في ديوان (قبل التيه برقصة)
- 2024-04-27 أفراح سادة المكي بالمبرز تهانينا