2016/03/09 | 2 | 3776
عندما يصبح الإنسان حراً
في مقال سابق بعنوان ( كي نرى عطارد علينا ان نكون أكثر مرونة) , تناولنا فكرة الإطار الفكري ومقارنته بالإطار العلمي الذي جعل من الإحداثيات أكثر مرونة وقدرة على قراءة الأحداث وتفسيرها.
في هذا المقال, ستكون المقارنة بين سلوك الإلكترون الساكن بالذرة و سلوك الإنسان في بيئته في محاولة لتفسير سلوك كل منهما وتأثير البيئة عليهما .
ينشا الإلكترون في بيئة تعرف باسم (الذرة atom ) , هذه البيئة الصغيرة في أبعادها, المعجزة في تركيبها كان لها التأثير على سلوك ذلك الإلكترون ؛ ولذلك لطالما كانت محل اهتمام الباحثين منذ قديم الزمان وإلى هذه اللحظة.
ففي عام 430 ق.م وضع الفيلسوف اليونانى (ديموقريطس)[1] تصوره عن المادة وأنها مكونة من ذرات غير قابلة للإنقسام. ومنذ ذلك التاريخ والأبحاث لم تتوقف في هذا المجال وصولا الى عام 1911 م الذي شكل نقطة فارقة في فهمهم للذرة , حيث قام العالم البريطاني راذرفورد مع مساعدية بوضع نموذج اسموه النموذج النووي Nuclear model , والذي بين من خلاله أن الذرة مكونة من نواة صغيرة تحتل المركز وتتوزع الإلكترونات حولها بنفس الطريقة التي تتوزع بها الأجرام السماوية حول الشمس[2]. هذا النموذج لم يصمد طويلاً ؛ فمع دخول نظرية الكم على الخط على يد مجموعة من العلماء ومنهم العالم الدينماركي نيلز بور في عام 1913م تم وضع نموذج أحدث للذرة, تصور من خلاله أن الإلكترونات التي تدور حول النواة لم تكن تدور في مدارات بالمعنى التقليدي الذي وضعه رذر فورد , وإنما في مدارات (مكماة) أي محددة بطاقة معينة . وبالتالي فإن الإلكترونات مقيدة بتلك الطاقة .[3]
هذه المدارات ( المستويات) المختلفة في طاقتها أثارت فضولي للتعرف على سلوك تلك الإلكترونات تحت تأثير ذلك القيد من الطاقة , ولكي أرضي فضولي قررت الدخول لعمق تلك الذرة لأجد ذلك التركيب المتناهي الدقة الذي يدعوك للذهول والدهشة .
عند صعودي للدور الأول وجدت قيداً كبيراً نسبيا من الطاقة يقدر بحوالي 13.6 eV , هذه الطاقة الكبيرة كانت مقيدة بشكل كبير لكل الإلكترونات الساكنة بذلك المدار , ولعل هذا القيد فرض عليها سلوك العزله عن المحيط الخارجي, فهي لا تجيد التنقل بين مستويات الذرة ولا تقبل بأي تغيير وإن اضطرت إلى الخروج من مدارها أصدرت طاقة كبيرة جداً في محاولة للتعبير عن رفضها لذلك التغير الطارئ عليها .
عند صعودي إلى مستويات أعلى لاحظت تناقص ذلك القيد ( الطاقة ) , ما جعل الإلكترونات أكثر حرية . تابعت المسير عبر ذلك السلم صعوداً لأجد إلكترونات تبدي سلوكاً مغايراً عن الإلكترونات التي تسكن في المستويات القريبة من النواة .
كانت الإلكترونات في حالة نشاط منقطع النظير تفتش عن كل ماهو جديد , تساهم في نقل الكهرباء والحرارة والضوء , تتنقل بحرية عبر مدارات الذرة لتمتص وتبعث الطاقة , بل إنها تجاوزت حدود ذرتها لتساهم مع الذرات المجاورة في تكوين العلاقات التساهمية والأيونية . كانت تطلق على نفسها الإلكترونات الحرة ( free electrons) , سميت بهذا الأسم لأن قيد الطاقة المفروض عليها أقل ولذلك كانت أكثر نشاطاً من أقرانها ما جعلها مميزة , متقبله للآخر , تتعامل معها بأريحية ومن دون تكلف . هذا التفاوت بين تلك الإلكترونات كان السبب الرئيس من ورائه قيد الطاقة المفروض عليها .
عندما نُسقط هذه المعلومات العلمية على الإنسان الذي ينشأ في بيئة مقيدة بأعرافها وعاداتها وتقاليدها نَلحظ ذلك التأثير على سلوكه ,حيث يخضع في حياته لتنويم يشبه التنويم المغناطيسي أو ما نسميه (التنويم الاجتماعي) إن صحت التسمية. فالمجتمع يُسلط على الإنسان منذ طفولته إيحاءات متكررة في مختلف شؤون حياته , ما يجعل من سلوكه ونمط تفكيره مقيداً بقالب يصعب الخروج منه . هذا القالب المقيد يمر عبر سلم تصاعدي يعرف بسلم الحرية يبدأ فيه بالصعود من أسفل إلى أعلى ويمر الصاعد خلاله بمراحل مختلفة متتالية بدءاً بالتحرر من القيود الضيقة العائلية مروراً بالتحرر من القيود الأوسع :الاجتماعية والفيسيولوجية, وصولاً إلى القيود الفكرية المرتبطة بالمعتقدات المكتسبة من الموروثات الفكرية والتي تمثل أعلى نقطة عمودية في هذا السلم.
- السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ماهو مفهوم الحرية وهل هي مطلقة أم مقيدة ؟!!
قد لا تجد تعريفا واضحا لمعنى الحرية فهي مفهوم واسع الدلالة , تعرف بحسب السياق الذي توضع فيه ، فالبعض يعرفها بأنها القدرة على الفعل والاختيار , وآخرون قالوا بأنها الانطلاق وعدم التقييد في الرأي والاعتقاد في القول و العمل ، والقدرة على الاتصال بالآخرين .
ويرى أبو القاسم القشيري أن تعريف الحرية هي (أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكونات)[4], ويعرفها الصوفية كما ورد في كتاب التعريفات للجرجاني بأنها (الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار) , كما يرى الفيلسوف الانجليزي جون لوك بأن الحرية هي ( القدرة والطاقة اللتان يوظفهما الإنسان لأجل القيام بعمل معين أو تركه) [5].
ويعرفها جون استيوارت ميل فيقول: (إن الحرية عبارة عن قدرة الإنسان على السعي وراء مصلحته التي يراها، بحسب منظوره، شريطة أن لا تكون مفضية إلى الإضرار بالآخرين).[6] ويعرفها آية الله الشيخ جوادي آملي فيقول: (الحرية، من المنظور الإسلامي , عبارة عن التفلت والتحرر من عبودية وطاعة غير الله تعالى).[7]
على الرغم من اختلاف تلك التعاريف لمفهوم الحرية إلا أنها تُجمع على أن الحرية ليست مطلقة وأنما محدودة بنطاق معين .
وترتبط سعة الحرية وضيقها بتعدد الخيارات المتاحة فكلما تعددت الخيارات اتسع نطاق الحرية، وكلما ضاقت الخيارات ضاق نطاقها, وتفقد الحرية عند انتفاء الخيارات المتاحة، وهكذا يزداد تحقق الأهداف إذا ازداد تعدد الخيارات.
ويقول هيدجر [8]: إن الإنسان عليه أن يختار, وما القدرة على الاختيار إلا تعريف للحرية. بينما يعرفها ديكارت [9] فيقول: الحرية الحقيقية ليست قدرة التردد بين اختيار شيء ونقيضه، بل هي الإرادة التي استعانت بالمعرفة واختارت الحق أي أنها الإرادة التي تتحكم فيها البواعث والحوافز الخيرة.
إن سلم الحرية مهما بلغ في صعوده محطما للقيود التي فرضها مجتمعه عليه يجب ان لا يكون مطلقاً .فالحرية المطلقة تعني فقدان القانون وبالتالي الفوضى والانفلات والهمجية، وهذا أمر لا يرتضيه أي عاقل.
الحرية المطلقة أثبتت فشلها على مر العصور, فهي تبدأ بالانحلال والانحطاط وإهدار العقل البشري ثم الفوضى التي يليها الموت الروحي , فتكون حالة الانتحار هي البديل للهروب من تلك المتاهة وهذا ما عاناه دعاة الحرية المتطرفون على مر العصور كما وصف بول جونسون أحوال بعضهم في كتابه الشهير المثقفون.
الحرية التي نتحدث عنها هي في نطاق الخروج من صنمية الأفكار والتقديس الأعمى لها , النطاق الذي يسمح لك بتعدد الخيارات فتخرج من دائرة العزلة لتتقبل الاخر .
الحرية تأتي من خلال المعرفة واستقصاء الحقيقة والسعي المستمر للوصول لها ,هذا الشعور هو المحرك المستمر لعدم الجمود والاختباء خلف الافكار التي أورثها المجتمع فأصبحت قالبا غير قابل للكسر , فحاجز العرف , حتى وإن كان خاطئا , يشكل خطورة كبيرة في المجتمعات التي لم تعتد على الانفتاح الفكري وتقبل الاخر .
هذا الانفتاح يمثل بداية وضع وبناء منظومة القيم التي تمثل منطقة التوازن بين الإنسان والعالم من حوله , فنرى من يمتلكون تلك الصفات لهم قدرة عالية على التعايش مع الآخر ويساهمون بشكل كبير لنهضة الإنسان والمحافظة على قيمه .
جديد الموقع
- 2024-05-05 قصيدة (مطية الغياب)
- 2024-05-05 افراح الغزال و الدخيل في رويال الملكية بالاحساء
- 2024-05-05 شَبَه الكتابة بالرسم
- 2024-05-05 ما بعد الوظيفة (1).
- 2024-05-05 ابن الأحساء الحبيبة الفلاح الفصيح
- 2024-05-04 بيت الشعر في الفجيرة ينعى الأمير بدر بن عبد المحسن
- 2024-05-04 الأمير سلطان بن سلمان : الأمير بدر بن عبدالمحسن ترك ارثاً لا يمكن أن يحمى مهما طال الزمن
- 2024-05-04 افراح الدويل و الغزال في احلى مساء بالاحساء
- 2024-05-04 عميدة اسرة العليو بالاحساء في ذمة الله تعالى
- 2024-05-04 فريق طبي في مدينة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) الطبية يجري عملية تثبيت وتعديل الفقرات القطنية لمريض بعمر (56) عام
تعليقات
عصام البقشي
2016-03-09مقال جميل و رائع و ربط موفق. احيك استاذنا الجميل ابو اسراء على هذا المقال تحياتي.
ياسر السليمان
2016-03-21مقال رائع وربط الالكترون بالأسرة جميل