2022/07/12 | 0 | 1677
دور النشر تسرقنا!
السرقة، أول اتهامٍ قد يطرحه المؤلف على الناشر، المؤلف الذي يسعى لطباعة نتاجه الفكري من خلال إرسال طلبه إلى الدور المعنية بالنشر والتوزيع للكتب المطبوعة والرقمية، فجهده الكبير الذي استنزف منه الكثير من التفكير والتحليل بالإضافة للبناء وفق آليةٍ فكريةٍ وأدبية؛ يتطلب التقدير من الآخرين وخصوصاً أولئك المعنيين بالنشر، المعنيين الذين يتغنّون بالتعاون لإثراء الساحة الفكرية بكل ما يفيد المؤلف والقارئ، ونشر الثقافة الموسوعية الداعمة لفكر المجتمع من خلال القراءة والاطلاع على نتاج العقول وتجارب وخبرات السنين.
تلك الجهود التي يطرحها المؤلفون من باحثين وكتّاب تتطلب –حسب رأيهم- العناية الكاملة من الجهة التي ستقوم بنشر نتاجاتهم وتوزيعها والتكسب منها لتبقى في حركةٍ مستدامةٍ بين تأليفٍ ونشرٍ وتوزيعٍ في عمليةٍ تكامليةٍ بين المؤلف والناشر، الناشر الذي بدأ في طلب الأرقام الكبيرة اليوم لنشر كتابٍ لا يتجاوز المائتي صفحةٍ أو أقلّ، وهذا ما بدأ ببناء العديد من الأفكار حول كون الناشر سارقاً يبتز الكتّاب بعرض تسعيرةٍ عاليةٍ مقابل نشر نتاجهم، الأمر الذي يجب أن يتم شرحه تفصيلاً كي تزاح أي غشاوةٍ قد تغطي أنظارنا ككتّاب وقراء وناشرين كذلك.
وهنا يقفز تساؤل حول ارتفاع تسعيرة النشر، بل لماذا يطلب الناشر مقابلاً مادياً لنشر الكتب في حين أن النشر في أوروبا وأمريكا مثلا لا يتطلب مالاً بل يُعطى للكاتب عوضاً مادياً كي يقبل بنشر كتابه بلغته أو بلغات أخرى يحدد قيمتها ومدة صلاحية عقودها، على العكس تماماً بخصوص ما يحصل في البلاد العربية من فرض رسوم نشرٍ على الكاتب أو طباعة نتاجه دون مقابلٍ لكن بشرط حصوله على النسبة الأدنى من المبيعات؟ الجواب على مثل هذه التساؤلات الشائعة يتطلب العديد من التفصيلات التي يمكن تلخيصها فيما يلي..
أولاً: الناشر الغربي والناشر العربي:
نقرأ كثيراً عن دور النشر الأوروبية والأمريكية التي تدفع المبالغ الكبيرة للمؤلفين كي تحصل إحداها على حقوق ملكيةٍ فكريةٍ للطباعة بلغة الكاتب أو ترجمة أعماله للغات أخرى لتوزع الآلاف بل الملايين من النسخ عالمياً، وهذا ما يولّد لدينا فكرة أن دور النشر تلك مدعومة من قبل الدول التي تتواجد بها وذلك لنشر ثقافتها والإسهام في دعم المؤلفين المحللين لديها لتوصلهم للعالمية، هذه الفكرة ليست إلا أضغاث أحلام نتداولها نحن بينما يمكن للكاتب الغربي تفنيدها، ففي القرن الماضي كان الكاتب الغربي يدفع للناشر بالإضافة لمكتب البريد الذي يوصل أوراق عمله لذلك الناشر، الأمر الذي قد نذكره في قصة إرسال غابرييل غارسيا لمخطوط رواية "مائة عام من العزلة" لدار بيونس آيرس، حين توقف المؤلف وامرأته ميرثيديس أمام شباك البريد غير قادرَين على دفع الثمانين بيزوسا المقررة كتكلفة للشحن ليجعلهما يرسلان نصف الأوراق فقط، ذلك العمل الذي تحول لأحد أفضل الأعمال الروائية في أمريكا اللاتينية والعالم بعدها، تلك العالمية التي أتت بعد فقرٍ مدقعٍ وضيق ذات يدٍ تعرض له الكاتب الغربي ليوصِل عملَه إلى العالم، عمل "هاري بوتر" مثلاً والذي عانت خلاله الكاتبة "جوان رولينغ" حتى تم قبول نشره بعد رحلةٍ من رفض دور النشر لطلب طباعة ذلك العمل الذي تحول لواحد من أفضل الأعمال الدرامية عالميا، هذان المثالان وغيرهما من الأمثلة التي تشرح معاناة الكاتب الغربي خلال القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي حين يرغب في نشر عملٍ فكري أو أدبي من خلال التعاقد المباشر مع دور النشر المحلية لديه، تلك الدور التي تعاملها الجهات ذات العلاقة كما يتم معاملة دور النشر المحلية لدينا وفق قوانين خاصة بالنشر والتوزيع تتباين بحسب متطلبات وقوانين كل دولةٍ تتواجد بها.
ثانياً: متطلبات النشر والتوزيع المفروضة على دور النشر:
لقد ترسخت في أذهان كثيرين منا أن الناشر يقوم بطباعة النتاج بثمنٍ بخسٍ لا يمثّل النسبة الأدنى من المبلغ الذي يتحصل عليه من الكاتب، ثم يبيعه بدَوره بأرقام فلكيةٍ ليتربع على عرشٍ من عروش الثراء، وهذه الفكرة أيضاً لا تبتعد عن الفكرة السابقة في فحواها، فالناشر يقف أمام عدة جدُرٍ عاليةٍ يكافح ليتسلّقها كي يستطيع إبراز تلك النتاجات التي تحمل شعاره وإيصالها ليد القارئ الذي قد يستكثر قيمة أوراقها بل ويمتعض من بعضها لسخافة فكرته وعدم وصولها للمستوى الفكري الكبير الذي يطمح لقراءته والاستفادة مما بين دفتيه، فبغض النظر عن متطلبات وجود الناشر على أرض الواقع كاستخراج تصاريح النشر وإعداد مقرٍ دائمٍ ودفع رسوم سنويةٍ لتجديد تصاريحه واشتراكاته مع منظمات النشر، يواجه أيضاً بعض العراقيل تتلخص في طلب الفسوحات وأذونات الطباعة من وزارات الإعلام والتي يقف مقص الرقيب مبتهجاً ليقتطع من تلك النتاجات ما لا يريده ويسمح لمن يشاء مروره بالعبور إلى ضفة النجاة، تلي ذلك متطلبات التدقيق والترقيم والتصميم الداخلي والظاهري التي ما إن تنتهي حتى يقف الناشر أمام عقبة المطابع التي تشترط دفع مبالغ كبيرةٍ لإتمام عملية الطباعة والتغليف والشحن والتخزين، تلك الأعمال التي تتأثر سلباً وإيجاباً بحركة الشحن وأسعار المواد الأساسية من أوراق وأحبار ومواد لاصقة، والتي ترتبط كغيرها من السلع بأسعار عالمية تحكمها حركة النقل بين الدول المنتِجة والمصدّرة لها، تلك الدول التي تتأثر بسعر النفط وأحداث الخلافات السياسية التي تؤثر على الاتفاقيات العالمية للتصدير، ناهيك عن ارتباطها بالحرب والسلام في عدة أقطار عالمية، مشكلةٌ كهذه يعاني منها الناشر الذي قد يتعاقد مع المؤلف حول سعرٍ ما لطباعة نتاجه بينما يُصدَم بسعر طباعةٍ يجعله خاسراً في تلك العقود التي أبرمها، خسارةٌ يتجرعها الناشر في أولى خطوات النشر والتي تسبق عملية التوزيع بكل تفاصيلها وعراقيلها هي الأخرى..
فبعد استلام النتاج المطبوع؛ يعكف الناشر على حركة التوزيع من خلال التعاقد مع المكتبات الكبرى والمتاجر الالكترونية المعروفة بالإضافة لسعيه للمشاركة في معارض الكتاب المحلية والدولية، وهنا تبدأ رحلةٌ متعبةٌ من التفاوض حول النسب التي تحصل عليها المكتبات مقابل عرض ذلك النتاج على أرففها، فبعض المكتبات الكبرى تطلب ما يتجاوز الخمسين في المائة من قيمة البيع، كما تحدد مدةً زمنيةً لتسويق ذلك النتاج والتي تكون ملزمةً للناشر باستلام ما يتبقى منه بعد مضيها وشحنه على حسابه، كذلك حال بعض المتاجر الالكترونية التي تشترط نسبةً مماثلةً أو مقاربةً بالإضافة للتنازل الكامل عن بقية النسخ غير المباعة خلال فترةٍ زمنية يتم الاتفاق عليها في عقود التوزيع، وهذا قد يعرض الناشر لخسارةٍ مضاعفةٍ لجهده وماله الذي صرفه في عملية الشحن والإعلان المدفوع بالإضافة لأعصابه التي يجب أن يضبطها قبل طلب مشاركته في معارض الكتاب، المعارض التي تمثل العقبة الثالثة أمام الناشر.
ثالثاً: معارض الكتاب المحلية والدولية:
حين يودّ الناشر أن يشارك في معارض الكتاب المحلية أو الدولية فإن عليه أن ينشئ حساباً للتسجيل، ثم يقوم بعد الموافقة على ذلك برفع كافة النتاجات التي تحمل شعاره لتسافر مرةً أخرى في رحلة الرقابة وطلب الموافقة للاعتماد قبل أن تحدد المساحة المطلوبة لعرض كتبه ودفع رسوم إيجار الأرضية المتاحة لمشاركته في تلك المعارض، كما تضاف إلى تلك الرسوم بعض المطالبات حول التوكيلات ورسوم إضافية للديكور متطلبات العرض وإيجار مساحات التخزين والنقل التي تسبق عملية الشحن الدولي في حال المشاركة في معرضٍ خارج حدود دولة الناشر، تلك العملية التي تتطلب منه دفع رسوم تخليص جمركية وطلب أذونات فسح جديدة قد تطلبها وزارات الإعلام في تلك الدول ليعود الناشر للخطوة الأولى مرةً أخرى، كل ذلك في مغامرةٍ منه لتحقيق فكرة نشر النتاج داخل وخارج حدود بلد المؤلف الذي يحضر كالملك رافعاً رأسه ليقول بأن كتابي يتواجد في جناح ذلك الناشر الذي عبر الأجواء ليقبع على أرض معرض الكتاب بائعاً كتابي بالمبلغ الفلاني، والذي ربما تنتهي أيام العرض ولم يشترِ القارئ منه نسخةً واحدة.
رابعاً: القارئ النخبوي
هذا القارئ الذي يبحث بانتقائيةٍ هو أحد العراقيل التي تواجه الناشر أيضا، فبالإضافة لرحلته الطويلة في عملية الإخراج والشحن والتخزين والترحال بالكتاب إلى المكتبات والمعارض؛ نجد القارئ الذي لن يعجبه ذلك النتاج ربما، فهو غير ملزَم بشرائه لكنه يطلب من الناشر أن يتواجد في كل موضع قدمٍ يتواجد به ليطّلع على آخر إصداراته من النتاجات الفكرية التي قد يختار منها واحداً أو اثنين على الأكثر، ويطلب من الناشر أن يخصم له من قيمتها كونه خرج من منزله ليزور جناح الناشر ويشتري منه هذا الكتاب أو ذاك، فبدون القارئ لن يكون للكلمة حياةٌ حسب تعبير أغلب القراء، بل إن العميل الأساس لدى أي ناشرٍ هو القارئ الذي يسعى الأول بكل السبل لإرضاء ذائقته، تلك الذائقة التي تُجبر بعض الناشرين على طباعة أعمال قد لا تصل للمستوى الفكري العالي الذي تطمح إليه النخب من قراء المجتمع ووزارات الثقافة في أغلب بلداننا العربية، لكنها تعود على الناشر ببعض الأموال التي يغطي بها جملةً من خسائره التي كابدها في النتاجات الأخرى الراقية بعضها والتي تطلب طبقة النخبة من القراء الحصول عليها كإهداء موقّع من المؤلف ولا تريد شراءها من الناشر الطامع في فتات أموال تلك الطبقة المخملية.
الطبقة المخملية التي يقف الكاتب كناشرٍ أصغر من سابقه كونه يتحدث عن نتاج واحد أو أكثر مقابل العشرات من النتاجات الأخرى التي يكابد مشاكلها الناشر الكبير، يقف الناشر الصغير أمام تلك الطبقة النخبوية التي تستكثر عليه قيمة أوراق نتاجه الذي صرف لأجله وقته وجهده وماله ليخرج بصورةٍ يطمح أن تكون مقبولةً لدى قرائه الذين يسعى بعضهم للحصول على ذلك الكتاب مجاناً وموقعاً بإهداء الكاتب التعيس الذي يبقى منتظراً ردود الأفعال حول نتاجه المعرّض للتنظير والتحليل والنقد من عدة طبقات تقرأه، ثم يعود بعد عامٍ أو أقل ليطالب الناشر بمستحقاته المالية بعد بيع أوراق نتاجه الذي يعتبره الأقرب لقلبه والأكثر فصاحةً وتأثيراً في القارئ بلغته، سلسلةٌ لا منتهيةٌ من الخيبات التي قد تصطدم برأس الناشر الكبير والناشر الصغير (المؤلف) بعد رحلةٍ مرهِقةٍ لنشر ذلك النتاج والنتاجات المصاحبة له خلال موسم معارض الكتاب ورحلة المكتبات..
وهنا أتساءل قبل أن أختم، هل أمسى المؤلف المحلي ثرياً بعد طباعة وتوزيع نتاجه؟ وهل سيرضى القارئ النخبوي عن ذلك النتاج بعد الحصول عليه أم أنه سيجد أنه إن دفع قيمته فإنه أضاع أوراقه النقدية فيما لا يفيد؟ والسؤال الأهم هنا؛ هل صحيحٌ أن دور النشر تسرقنا؟
جديد الموقع
- 2024-05-02 تزامناً مع اليوم العالمي للصحافة و باستضافة نادي كيو بارك .المعلق الرياضي جعفر الصليح .16 عام أمام المايك في 6 قنوات و المعلق العربي و الأجنبي اضافة لمتعة الكرة السعودية
- 2024-05-02 أفراح العايش والفرحان تهانينا
- 2024-05-01 النقد الأدبي بين الفاعلية والمجاملات الرقمية والإعلامية.
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس المجلس المحلي للمحافظة
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس اجتماع اللجنة العليا لإنشاء المستشفى الجامعي التعليمي
- 2024-04-29 وعي القلم والأمل نص مستخلص من مجموعة (كلام العرافة) للدكتور حسن الشيخ
- 2024-04-29 ريم أول حكم سعودية لرياضة رفع الأثقال حازت على الشارة الدولية
- 2024-04-29 بيئة الأحساء تدشّن أسبوع البيئة 2024 تحت شعار "تعرف بيئتك"
- 2024-04-29 منتدى البريكس الدولي يكرم الفنان السعودي الضامن في غروزني الشيشان ..
- 2024-04-29 حققوا المركز الأول على مستوى المملكة كأعلى تسجيل للطلاب طلاب "تعليم الرياض" يفوزون بـ13 ميدالية في أولمبياد "أذكى"