2020/04/25 | 0 | 3201
حديث على ضفاف التأله في ربيعه
كنت أن أفكر في أن أؤجل الكتابة بعد ما تقدم لي من مقالات إلى ما بعد الشهر المبارك، ولكن طرأ لي أخيرا أن أضمن مباركتي للأحبة القراء إقبال شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، بحديث على ضفاف ما اشتمل عليه العنوان، حول موضوع تجاوزت به وفرة المصطلح، الذي هو سمة له سواء في التوجه الحكمي له أو العرفاني أو الصوفي، من خلال تجاوز كل ذلك بطرح شيء من أبسط ما يمكن أن يتفق عليه منه:
حدث عدة من المؤرخين ومنهم ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أن النبي (صلى الله عليه وآله) سار وهو في طريقه إلى مكة للعمرة قبيل صلح الحديبية حتى دنا منها ـ وهي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة ـ فوقعت يدا راحلته على ثنية، فبركت فقال المسلمون حل حل يزجرونها، فأبت أن تنبعث فقالوا خلات القصواء، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنها ما خلات ولكن حبسها حابس الفيل، أما والله لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمد من أثماد الحديبية، ... وجاءته رسل قريش تعكس استعلاءها بمثل خطاب بديل بن ورقاء الذي جاء النبي ومعه ركب من خزاعة، فقال له: "جئناك من عند قومك كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم معهم العوذ والمطافيل والنساء والصبيان، يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم"، والرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه)، وأصرت قريش على عودته، وبهذا بعثت عروة بن مسعود الثقفي ثم مكرز بن حفص بن الأخيف، ولم يلجئ قريش إلى الصلح إلا موقف الحليس بن علقمة وهو يومئذ سيد الأحابيش الذي أرسلته قريش بعد عروة ومكرز إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنه لما رأى الهدي عليه القلائد قد أكل أوباره من طول الحبس رجع ولم يصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إعظاما لما رأى، فقال لقريش: "والله لتخلن بينه وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش"، قالوا: فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به، .....، وقد وصف ابن سعد وغيره ممن أرخ للحادثة الحليس ـ وهو سيد الأحابيش، وهم جماعة من الناس شكلت حلفا عسكريا واجتماعيا تستعين به قريش في أزماتها ـ بما يمثل تعليلا لموقفه المشار إليه، فقد وصفوه بأنه كان يتأله.
أردت بهذه المقدمة أن أسوق أحد الأمثلة الكثيرة في التاريخ التي كان فيها التأله سبيلا إلى السلام، وإذا كان المعنى الذي طرحه اللغويون للتأله يتلخص في التنسك والتعبد، فإن التفصيل فيه كمصطلح مما تعمدت النأي عنه كما أشرت في المقدمة، الأمر الذي سأشير من أجله لمعنى التأله من خلال الإشارة لبعض شخوصه ضمن سياقات الحادثة المتقدمة، فقد وجدنا عنوان "تأله" بلحاظ ذلك يأتي في التأريخ العربي السابق للإسلام عادة عند التطرق لشخصيات ذات توجه روحي، يجمعها مثل التفكر في الله والسلوك إليه والتخلق بما ينسجم مع ذلك كالنفع للناس والترفع عن الدنايا، ومن أبرز تلك الشخصيات التي ربما مررنا بها خلال مقاربة السيرة النبوية مثلا: شيبة الحمد عبد المطلب ونظائره من أسلاف النبي (صلى الله عليه وآله)، رئاب العبدي الشني، لبيد بن ربيعة القائل: ألا كل شيء ما خلال الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل، أبو ذر الغفاري، سلمان الفارسي، الأشج العبدي زعيم وفد عبد القيس إلى النبي (صلى الله عليه وآله)...
التأله الذي هو سبيل الروح، الروح التي استحق بها الإنسان الكون قبلة لسجود الملائكة، الروح التي تستحق العناية كونها مشعل الإنسان ومحركه الذي يتوق إلى السمو في مقابل الإخلاد إلى الأرض على مستوى التفكير والمشاعر والسلوك، وشؤون الروح بقدر ما هي غيب من أمر الله تعالى متفهمة لا تحتاج الإضاءة عليها ضمن ما نتناوله كثير عناء، فهي كما قال إقبال:
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
ومعدنه ترابي ولكن جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني حديثا كان علوي النداء
فحلق في ربى الأفلاك حتى أهاج العالم الأعلى بكائي
والعروج المتقن بالروح في وصل المحبوب من خلال منصة التفكر في كتبه الميسَّرة؛ كتاب النفس، كتاب الكون، القرآن الكريم، دليل للمتأله إلى شؤون وشؤون، منها:
أ) طمأنينة، يكفلها وصل الحق، وهو من قال تعالى لعباده: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾، وقد حدثنا التاريخ عنها في محيا ذلك الصريع الوتر (صلوات الله عليه) من خلال مقولة لأحد أولئك الطغاة اللذين تطلعوا لقتله، في ذلك المشهد المروع المهيب، حيث هوى إلى الأرض جريحا، تطؤه الخيول بحوافرها، وتعلوه الطغاة ببواترها، فقد جاء فيها: "فو الله لقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله"، وما أجمل التعبير عن حالة التأله العصماء تلك بالقول:
تركت الخلق طرا في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلى سواكا
ب) ميزان عدل ينظم الكون من الذرة إلى الجرة ـ كما في تعبير القدماء ـ يخرج عليه الإنسان ـ الذي جعله الله مختارا ـ إذ طغى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿﴾ الرَّحْمَٰنُ ﴿﴾ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴿﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴿﴾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴿﴾ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴿﴾ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴿﴾ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿﴾ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿﴾ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾.
ج) معايير سداد التأله الحق، ومنها نفع الناس، وإفشاء السلام والرحمة فيهم، ومعالجة ما يصيبهم في عنت المسير من ألوان عدوان الإنسان على أخيه الإنسان، فهي في التأله محراب ونتائج مفترضة له، وما أروع تجلي هذا المعيار في أحد أئمة التأله الحق (عليهم السلام)، حيث قال فيه الفرزدق ما من شأنه جعل حياة شاعر على المحك:
يَا سَـائِلِي أَيْنَ حَـلَّ الجُـودُ وَالكَـرَمُ عِنْـدِي بَـيَـانٌ إذَا طُـلاَّبُـهُ قَـدِمُـوا
هَذَا الذي تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَهِ كُلِّهِمُ هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
هَذَا الذي أحْمَدُ المُخْتَارُ وَالِدُهُ صَلَّى عَلَیهِ إلَهِي مَا جَرَي القَلَمُ
لَوْ يَعْلَمُ الرُّكْنُ مَنْ قَدْ جَاءَ يَلْثِمُهُ لَخَرَّ يَلْثِمُ مِنْهُ مَا وَطَي القَدَمُ
هَذَا علي رَسُولُ اللَهِ وَالِدُهُ أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الاُمَمُ
إذَا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا إلَی مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ راحته رُكْنُ الحَطِيمِ إذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
وَلَيْسَ قُولُكَ: مَنْ هَذَا؟ بِضَائِرِهِ العُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أنْكَرْتَ وَالعَجَمُ
يُنْمَي إلَی ذَرْوَةِ العِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلاَمِ وَالعَجَمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَي مِنْ مَهَابَتِهِ فَمَا يُكَلَّمُ إلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ
يَنْجَابُ نُورُ الدُّجَي عَنْ نُورِ غُرِّتِهِ كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إشْرَاقِهَا الظُّلَمُ
مَا قَالَ: لاَ قَطُّ، إلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ لَوْلاَ التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاَؤهُ نَعَمُ
حَمَّالُ أثْقَالِ أَقْوَامٍ إذَا فُدِحُوا حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
إنْ قَالَ قَالَ بمِا يَهْوَي جَمِيعُهُمُ وَإنْ تَكَلَّمَ يَوْماً زَانَهُ الكَلِمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ بِجَدِّهِ أنبِيَاءُ اللَهِ قَدْ خُتِمُوا
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا يُسْتَوْكَفَانِ وَلاَ يَعْرُوهُمَا عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ لاَ تُخْشَي بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ خَصْلَتَانِ: الحِلْمُ وَالكَرَمُ
لاَ يُخْلِفُ الوَعْدَ مَيْمُوناً نَقِيبَتُهُ رَحْبُ الفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يُعْتَرَمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ كُفْرٌ وَقُرْبُهُمُ مَنْجيً وَمُعْتَصَمُ
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالبَلْوَي بِحُبِّهِمُ وَيُسْتَزَادُ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَهِ ذِكْرُهُمْ فِي كُلِّ فَرْضٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الكَلِمُ
إنْ عُدَّ أهْلُ التُّقَي كَانُوا أئمَّتَهُمْ أوْ قِيلَ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الارْضِ قِيلَ: هُمُ
لاَ يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَأيَتِهِمْ وَلاَ يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإنْ كَرُمُوا
ومما لا يطول الجدال فيه أن لبيئة تألق ورياضة الروح أزمنة وبقاع وذوات، وشهر رمضان المبارك أحد أهم تلك الأزمنة، ونحن بحمد الله مدعوون جميعا إلى موائد فضل الله تعالى فيه، فلنلق عن أرواحنا ما استطعنا إليه سبيلا من أغلال الأرض وأدرانها، لتخف نحو طهر السماء باحثة عن الله، لتأمن وتنعم بحبه، وتطمئن في رحلة العروج نحو الحق الصمد، ففي حقيقة الإنسان ما يجعله دائم الحاجة لرفد ذلك المدد، فكيف وقد مرت على البشرية تجارب كانت مؤشرات تيهه من البؤس أن كان منها علاج معني بالثقافة لمرض ثقافي نفسي بذات ما يسبب نظائره ضمن توجه مختلف آخر مؤملا، لتصبح ردة الفعل ثقافة، ومنها صيرورة مثل قول ذلك الحبر الحسيني المقيم في حراء جوار عليٍّ (عليه السلام) لآخر عن آخر (هم أنفسكم) استثناء، لا يكاد يجد له إلى تعقل كثير سبيلا، في الوقت الذي يتوفر لحالات التنابذ والتراشق والتأزيم وتضييع المقدرات بين فئة وفئة أخرى، بل بين فئة وأختها في الفئة الواحدة، مساحات "تفهم" و "تعقل"، ومنها ومنها ما يطول استعراضه...، وفي محاولة تأله في هدي الثقلين في رحاب شهر الله رجاء.
جديد الموقع
- 2024-04-20 افراح المبارك والموسى تهانينا
- 2024-04-20 مركز بر حي الملك فهد يقيم احتفالا للمتطوعين بعيد الفطر ١٤٤٥
- 2024-04-19 البدر توقع كتابها سُمُّكِ ترياقي
- 2024-04-19 مكتبات من بشر
- 2024-04-19 المدة والملكية والترجمة وسائل لاستغلال مؤلفي الكتب
- 2024-04-19 أفراح البخيتان بالمطيرفي تهانينا
- 2024-04-18 مكتبات ليست للقراءة فقط
- 2024-04-18 الخميس: رغبتنا صعود لدوري الكبار
- 2024-04-18 "ختام ملتقى موعود مع انطلوجيا القصة القصيرة السعودية"
- 2024-04-18 بر الفيصلية يقيم حفل معايدة لمنسوبيه .