2013/06/10 | 0 | 4093
المستشرقون وحجيّة السنة النبوية الشريفة مطالعة تحليلية نقديّة
ويقصد بالاستشراق اصطلاحاً التخصّص الذي يمارسه الغربيّ في مجال دراسة الشرق على مستوى لغاته وتاريخه ودياناته وثقافته وحضارته، انطلاقاً من زوايا علمية متعدّدة.
وانطلاقاً من ذلك نجد:
أ ـ إنّ الاستشراق لا يختصّ بدراسة الغربي للعالم العربي أو الإسلامي، بل يمتدّ ليشمل الحضارة الهندية والصينية واليابانية وغيرها من الحضارات الشرقيّة أيضاً.
نعم، نتيجة غلبة الاهتمام بالبلاد الإسلامية صار هنا ما يشبه الانصراف إلى هذه المساحة الجغرافية من بلاد الشرق، ونحن نعرف أنّ بعض المستشرقين كانوا يتخصّصون ببعض البلدان أو بعض الحضارات، ولهذا أطلق على بعضهم المستعربين، وكان الاستعراب فرعاً من فروع الاستشراق؛ لأنه دراسة في الشرق العربي خاصّة.
ب ـ قد يطلق الاستشراق على ممارسة باحث شرقي لدراسة حول الشرق، فقد يسمّون الياباني الباحث في قضايا الإسلام مستشرقاً، وهذا إطلاق تسامحي يبرّره انطلاقه من خارج المناخ الإسلامي مستخدماً مناهج الدراسات الغربية.
ج ـ لا يختصّ الاستشراق بدراسة الظاهرة الدينية، بل يستوعب دراسة التاريخ والأدب والعادات والتقاليد والحياة السياسية والاجتماعية وغير ذلك. من هنا فتصوّر الاستشراق اختصاصاً منحصراً بالإسلام أو الدين غير صحيح إطلاقاً.
د ـ ليس نقد الشرق جزءاً من هويّة المستشرق، بل دراسة الشرق هي مقوّم الهوية، ومجرّد أن عدداً كبيراً من المستشرقين كان ناقداً للشرق وتاريخه وحضارته لا يجعل النقد عنصراً مقوّماً للعمل الاستشراقي؛ فهناك العديد من المستشرقين لم يكونوا ناقدين، بل بعضهم كان معجباً بالشرق ومدافعاً عن قضاياه.
2 ـ الاستشراق، مطالعة تاريخية
تختلف الدراسات في تحديد البدايات التي نشأ فيها الاستشراق، وفي هذا الإطار ظهرت عدة نظريات أو آراء، أهمّها:
1 ـ العود ببدايات الاستشراق إلى القرن الميلادي الأوّل، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بالعثور على كتاب لمؤلّف غربي مجهول الهوية تحت عنوان (الطواف حول البحر الاريتيري)، وقد ذهب هؤلاء إلى تأكيد أنّ هذا الكتاب يعود إلى القرن الميلادي الأول، معتمدين على رأي الباحث الدكتور جواد علي.
ويبدو أنّ الأخذ بهذا الرأي يواجه مشاكل من ناحية الإثبات التاريخي تارةً، وتجنّب النقض تارة أخرى، فالمؤرّخ اليوناني هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وأرّخ للحروب اليونانية ـ الفارسية.. قام برحلات كثيرة طالت مصر جنوباً وبابل شرقاً والبحر الأسود شمالاً، وقد كتب ما شاهده في تلك البلدان حتى عُدّ كتابه المؤلّف من تسعة أجزاء موسوعةً كبيرة في تاريخ الحضارات الشرقية، وهذا معناه أنّ الاستشراق لابدّ أن يكون قبل الميلاد أيضاً، وفقاً لطريقة الاستدلال التاريخي التي اعتمدها هذا الرأي.
2 ـ إنّ بدايات الاستشراق تعود إلى أواخر القرن السابع الميلادي، ويرى هؤلاء أنّ مساهمات بعض العرب المسيحيين في دراسة الإسلام تشكّل بدايات الاستشراق، ويمثلون لذلك بيوحنا الدمشقي (749م) الذي ترك الكثير من المصنّفات التي يحمل بعضها طابعاً نقديّاً ضدّ الإسلام، كان من أشهرها كتابه (منهل المعرفة)، وكان الدمشقي من آباء الكنيسة الشرقية.
بل إنّ مساهمات النصارى في العصر العباسي في ترجمة الفكر اليوناني يمكن أن تدخل ضمن هذا السياق أيضاً.
لكن يبدو أنّ هذا الرأي غير دقيق؛ لأنه تصوّر أن نقد الإسلام من جهة ومسيحية الباحث من جهة أخرى عناوين مقوّمة للاستشراق، مع أننا قلنا بأنّ النقد ليس العنصر المقوّم للاستشراق، والمسيحية ليست ظاهرة محض غربية حتى نحسب كلّ مساهمة مسيحية في دراسة الإسلام استشراقاً.
3 ـ تعود بدايات الاستشراق إلى الفترة التي قام فيها المسيحيون بنقل الفكر اليوناني والغربي إلى بلاد الغرب من الحواضر العلمية الإسلامية، أي إلى تلك الفترة التي أعاد فيها الغرب اطّلاعه على حضارته عبر المسلمين الذين كانوا قد ترجموا هذه الحضارة واستوعبوها وعمّقوها.
وقد كانت مقدّمة ذلك أن تعلّم الكثير من مسيحي الغرب اللغة العربية وعاشوا في بلاد المسلمين أو زاروها، كي يتمكّنوا من التعرّف على حضارة المسلمين، وعبر ذلك إعادة نتاجهم الفكري ـ المطوّر هذه المرة ـ إلى بلادهم، ويبدو أنه قبل القرن العاشر الميلادي كانت هناك بعض الجهود البسيطة في هذا المجال، لكنّها لم تكن لتشكّل تياراً أو ظاهرة يمكن الحديث عنها.
4 ـ يعود الاستشراق إلى القرن العاشر الميلادي مع انطلاقة مشروع الراهب المسيحي الفرنسي جربير سلفستر الثاني (1003م) الذي أطلق عملية دراسة الشرق، حيث كان قد تعلّم العربية في قرطبة، ثم رجع إلى بلاده ليصبح (البابا سلفستر الثاني)، ويطلق مشروع البحث في الشرق بحكم موقعه ومنصبه.
5 ـ تعود البدايات الحقيقية للاستشراق إلى فترة الحروب الصليبية، ففي هذه الفترة وقع صدام الحضارات بين الشرق والغرب، وكان من الطبيعي أن يولّد هذا الصدام اطّلاعاً متبادلاً على الطرف الآخر؛ لأنه يزيد في العادة من الاحتكاك الحضاري، لاسيّما وأنّ الحروب الصليبية كانت طويلة المدّة، حيث استطالت لقرابة القرنين من الزمان.
ويمكن التكهّن بهذا الرأي من خلال تحليل ما يسمّى في الدراسات التاريخية ببرهان طبيعة الأشياء، وهناك ما يشهد عليه، حيث ظهر ما يعدّ عند بعضهم أول نتاج استشراقي في القرن الثاني عشر الميلادي من خلال ظهور أوّل ترجمة للقرآن الكريم، وأول قاموس عربي ـ لاتيني.
6 ـ إنّ الاستشراق يرجع تحديداً إلى حملة نابليون بونابرت (1821م) التي طالت مصر عام 1798 ـ 1799م، فقد شكّلت هذه الحملة انطلاقة تواصل ثقافي وفكري بين الغرب والشرق، حيث رافق نابليون في حملته على مصر عددٌ من العلماء والباحثين الغربيين، كما أخذ معه مطبعة لطباعة الكتب.
من خلال هذه الآراء الستة يتبيّن أن الباحثين في تاريخ الاستشراق أرادوا أن يرجعوا بالمعطيات التاريخية المتوفرة إلى أقدم تجربة غربية للتعرّف على الشرق، وإذا تأمّلنا قليلاً سنجد أن تعرّف الغرب على الشرق فيما نسمّيه بالاستشراق، وتعرّف الشرق على الغرب فيما نسمّيه بالاستغراب ظاهرة قديمة على المستوى الفردي والمحدود، تعود إلى الرحلات المتبادلة والعلاقات السياسية بين الامبراطوريات القديمة من خلال السفراء وغيرهم، إلا أننا عندما نريد أن نتحدّث عن الاستشراق بوصفه ظاهرة أو مشروعاً فمن الطبيعي أن نتأخّر زمنياً إلى الحروب الصليبية بوصفها مرحلة أولى، وإلى القرن الثامن عشر بوصفه مرحلة ثانية.
3 ـ مدارس الاستشراق
يطول الحديث عن مدارس الاستشراق كثيراً؛ لأنّ تقسيم الاستشراق إلى مدارس واتجاهات كانت له عند الباحثين أشكاله وأساليبه.
وأبرز التقسيمات التي اتبعت كانت كالتالي:
1 ـ 3 ـ المنهج الموضوعي في تقسيم مدارس الاستشراق
نقصد بهذا المنهج فرز المستشرقين وجهودهم من حيث نوعية الموضوعات التي اشتغلوا عليها، وقد استخدم العديد من دارسي الاستشراق هذا النوع من تقسيم المستشرقين، ومن باب المثال نذكر بعض التقسيمات التي طرحت وفقاً لهذا الأساس.
أ ـ تقسيم الدكتور نجيب العقيقي ـ وهو باحث متخصّص في الاستشراق وشخصيّاته ـ حيث قسّم الاستشراق إلى مدرستين كبيرتين هما:
1 ًـ المدرسة السياسية، وهي ـ عنده ـ المدرسة التي ركّزت جهودها على الأدب بشكل عام، بما للأدب من مفهوم واسع يطال الفكر الإنساني والإنسانيات، وفي هذه المدرسة تندرج دراسات المستشرقين حول الدين والتاريخ واللغة والأعراف و..
2 ًـ المدرسة الأثرية، وهي المدرسة التي عنت بالآثار.
وكما نرى، فإنّ تقسيم العقيقي واسع سعةً كبيرة، ولا يعطينا الكثير من الإضاءات على خصائص كلّ مدرسة؛ لأن العنصر الجامع لكلّ من المدرستين ليس عنصراً رئيسياً في تكوين هذه المدرسة أو تلك، وإنما هو أشبه بالوصف العرضي الذي يطال ذوات متباينة.
ب ـ تقسيم الدكتور حسين الهراوي، الذي قسّم الاستشراق إلى مدارس ثلاث هي:
1 ًـ مدرسة القرآن الكريم: وهي المدرسة المختصّة بدراسة القرآن الكريم وتاريخه وجمعه وما يتصل بقضايا الوحي ونحو ذلك.
2 ًـ مدرسة التاريخ النبوي: وهي المدرسة المختصّة بحياة النبي محمد $ وما جرى معه في سيرته، وأعماله، وحروبه وسياسته و...
3 ًـ مدرسة التاريخ العربي: وهي المدرسة التي تعنى بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وباللغة العربية، وبتاريخ الإسلام في عصر الصحابة، والعصر الأموي والعباسي إلى يومنا هذا.
هذا التقسيم يعاني من مشكلة رئيسة، وهي أنه يضع الاستشراق في مواجهة حصرية مع الإسلام وقضاياه، مع أنّ الاستشراق لا يختصّ بالإسلام وإنما يستوعب ـ كما أشرنا سابقاً ـ الشرق على امتداده الحضاري بما فيه من حضارة هندية ويابانية وفارسية ومصرية قديمة وفينيقية وسومرية وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك أننا لا نجد هذا التقسيم واقعيّاً، فمثلاً لا نلاحظ اتجاهاً متخصّصاً بالسيرة النبوية لا يعنيه البحث القرآني، كما نجد الكثير من المستشرقين درسوا أكثر من موضوع، فجولدتسيهر (1921م) درس التاريخ النبوي والقرآن وتاريخ العرب بعد الإسلام، وثيودور نولدكه (1930م) درس القرآن في كتابه (تاريخ القرآن)، كما درس السيرة في كتابه (حياة محمد)، ودرس التاريخ العام فيما كتبه تحت عنوان (تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين). وكثير من المستشرقين درسوا القرآن ودرسوا اللغة العربية وتاريخ العرب معاً؛ لأنّ هناك ترابطاً عضوياً وثيقاً بين هذه الأمور.
2 ـ 3 ـ المنهج الجغرافي في تقسيم مدارس الاستشراق (مشروع العقيقي أنموذجاً)
وهو التقسيم الذي يعتمد على بلد المستشرق، فيقسّم الاستشراق وفق الجغرافيا، وهذا ما فعله الدكتور نجيب العقيقي عملياً في كتابه المشهور حول المستشرقين، حيث قسّم الاستشراق إلى انجليزي وفرنسي وإيطالي ومجري وألماني وأسباني و...
وكأنّ العقيقي نسي تقسيمه المتقدّم، واستبدله ميدانياً بالتقسيم الجغرافي، وربما يكون السبب في ذلك سهولة اعتماد المعيار الجغرافي في الفرز والقسمة، إضافة إلى تجنيب هذا التقسيم الباحث مهلكة التداخل في العادة.
ومن الطبيعي أن نلاحظ على هذا التقسيم أنه غير وافٍ بتكوين مدرسة، فأهميّة تقسيم المدارس تكمن في الجانب الموضوعي الدقيق تارةً، وفي الجانب المنهجي تارةً أخرى، فنحن قادرون على أن نقول: هناك مدرسة فقهية في الفكر الإسلامي، ومدرسة فلسفية، ومدرسة قرآنية، وفقاً لفرز موضوعي، أو هناك مدرسة إخبارية ومدرسة أصولية وفقاً لفرز منهجي. أما المدرسة الجغرافية فتحتاج إلى الكثير من العناصر الحافّة حتى تكون مدرسةً لها استقلالها وامتيازها عن غيرها.
3 ـ 3 ـ المنهج الغائي في تقسيم مدارس الاستشراق
وهو التقسيم الذي يعتمد غايات المستشرقين أساساً، وفي هذا السياق يمكن تقسيم مدارس الاستشراق وتياراته إلى ما يلي:
أ ـ الاستشراق الديني الأيديولوجي: وهو الاستشراق الذي كانت دوافعه دينيةً، وهو ذاك الاستشراق الذي قادته المؤسّسات الدينية المسيحية خلال الحروب الصليبية وما تلاها، وقد كانت أهداف الكنيسة في تلك الفترة الدفاع عن العقائد المسيحية ومواجهة التوسّع الثقافي الذي كان يقوم به العالم الإسلامي نحو الغرب، لاسيما بعد سقوط الأندلس في يد المسلمين، أو الهجوم على الثقافة الإسلامية من جهة ثانية وممارسة عمليات التنصير والتبشير.
ب ـ الاستشراق الاستعماري: وهو الاستشراق الذي كان ينطلق بدافع سياسي ـ عسكري ـ توسّعي، وقد كان الهدف منه التعرّف على ثقافة بلدان الشرق وأحوالها وأوضاعها وعاداتها وتقاليدها وحضارتها بهدف التمكّن من وضع الخطط الكفيلة بتحقيق الغزو العسكري والثقافي والإبقاء على القوات العسكرية الأجنبية في بلاد الشرق فترةً أطول.
وفيما كان الدعم الكنسي هو المرجع المموّل للاستشراق بمدرسته الدينية ـ الأيديولوجية، كانت وزارات المستعمرات في الدول المستعمرة كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها تقوم بتمويل الحركة الاستشراقية، ولهذا كان الكثير من المستشرقين حتى النصف الأول من القرن العشرين موظّفين أو تابعين لوزارة المستعمرات أو وزارة الخارجية في حكومات بلدانهم.
ج ـ الاستشراق العلمي: وهو الاستشراق الذي لم يرَ في دراسة الشرق سوى مادّة علمية، وقد بدأ شيوع هذا النوع من الاستشراق وهذا الجيل من المستشرقين بالأخصّ بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار كلّ من الاستعمار الأجنبي المباشر وسلطة الكنيسة المطلقة.
والذي يلاحظ في هذا النوع من الاستشراق أنه صار مدعوماً من الجامعات ووزارات العلوم والأبحاث في البلدان الغربية أكثر من كونه تابعاً لوزارة الدفاع أو الخارجية، ولهذا ظهر جيل من المستشرقين يختلف من حيث أسلوبه وعمقه وأدب حديثه حول الشرق عن الأجيال السابقة.
4 ـ مجالات العمل الاستشراقي
تنوّعت وتعدّدت الجهود والأعمال التي قام بها المستشرقون في دراساتهم للإسلام، كما كثر عددهم حتى ألّفت حولهم كتب تحصيهم مثل كتاب (طبقات المستشرقين) للدكتور عبد الحميد صالح حمدان، وكتاب (المستشرقون) لنجيب العقيقي، وألّفت أيضاً أعمال تحصي نتاجاتهم وكتبهم ومقالاتهم مثل كتاب (كتابشناسي خاورشناسان) الذي دوّنته مجموعة من الباحثين والمترجمين، وصدر عن (انتشارات بين المللي الهدى) في طهران عام 1993م. بل لقد ألّفت العديد من المعاجم والموسوعات المعنية بدراسة المستشرقين وحالهم وأعمالهم مثل (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي.
ونظراً لكثرة عدد المستشرقين وأعمالهم، نجد أنّه لم يخلُ مجال في التراث والفكر الإسلاميَّين إلا وطرقه المستشرقون إلى يومنا هذا، حتى كان لهم فضل كبير في إخراج أمهات الكتب الإسلامية من رفوف المكتبات المخطوطة إلى عالم التصحيح والإخراج والتعليق والطباعة الجديدة.
إلى جانب ذلك، كانت للمستشرقين دراسات هامة في مجال الأدب واللغة العربيّين، وحول الشعر الجاهلي، وقد استخدموا في ذلك مناهج البحث التاريخي والألسنيات وعلوم اللغة الجديدة، كما درسوا التاريخ العربي والإيراني والتركي، والإسلامي، وعالجوا الكثير من الأحداث التاريخية على طريقتهم، كالثورات والحياة السياسية والسيرة النبوية وعلاقات المسلمين بغيرهم لاسيما باليهود، ودرسوا القرآن لاسيما على مستوى تحليل ظاهرة الوحي وما يتصل بتاريخ القرآن وجمعه وتدوينه وتطور كتابته والقراءات القرآنية، كما ترجموه ترجمات عديدة، وكتبوا في علم المعاجم والفهارس القرآنية.
وتناول المستشرقون الفتح الإسلامي، ودرسوا الشعوب والبلدان التي طالتها الفتوحات الإسلامية، وتحدّثوا عن أحوالها قبل الفتح وبعده، ودرسوا السلالات التي حكمت مختلف أقطار العالم الإسلامي، من العباسيين والأمويين والعثمانيين والحمدانيين والفاطميين و...
كما درسوا الفرق الإسلامية وتطوّرها وعلاقاتها، لاسيما المعتزلة والإسماعيلية والزيدية والقرامطة و... ودرسوا الفقه الإسلامي وتطوّره وعلم الكلام، ورصدوا علاقات المسلمين بالحضارات الأخرى وغير ذلك الكثير، حتى أبدعوا في دراسة الفنّ المعماري الإسلامي.
5 ـ عناصر النجاح ونقاط الضعف في أعمال المستشرقين
أ ـ عناصر القوّة والنجاح
ثمّة عناصر ساعدت على نجاح الدراسات الاستشراقية، أهمّها باختصار:
1ًـ دراستهم باهتمام اللغات والحضارات القديمة كالآرية والكلدانية والآشورية والعبرية والسريانية والعربية والفارسية والتركية، وقد صنّفوا فيها الكثير. فالمستشرق بيتز مثلاً أحسن 51 لغة ولهجة، والمستشرق فرموند أتقن 30 لغة، والمستشرق روكرت تحدّث 30 لغة.
2ًـ اتّباع مناهج متطوّرة في العلوم الجديدة وأخذهم بالمناهج الجديدة للمعرفة البشرية.
3ًـ التخصّص في مجال محدّد، من لغة أو دين أو..، لهذا نجد أنّ أعمالهم مركّزة جدّاً.
4ًـ الجدّية العالية في إنجازهم لأعمالهم، وصبرهم الكبير أثناء القيام بمشاريعهم الكبرى التي تستغرق أعماراً بأكملها.، فالمستشرق كاستل ظلّ 18 سنة في وضع معجمه في اللغات السامية.
5ً ـ الدعم المالي الذي كانت توفره لهم في كثير من الأحيان الدول والمؤسسات الدينية والمدنية.
ب ـ عناصر الضعف والإخفاق
ثمّة عناصر ضعف ابتلي بها المستشرقون في غالب دراستهم، أهمها بإيجاز:
1ًـ النزعة العدائية عند بعضهم، والتي أعمتهم في كثير من الأحيان عن رؤية الواقع بأمانة ودقّة.
2ًـ عدم معايشة ثقافة الشعوب الأخرى بشكل حقيقي، ولهذا كانت عندهم مشاكل لغوية.
3ًـ استخدام التفسير المادي السلبي دائماً للظواهر والأحداث والابتعاد عن القيم السامية في تفسير الظواهر لصالح الفهم المصلحي للحدث التاريخي.
4ً ـ عدم إقامة أدلّة على عدد لا بأس به من نظرياتهم، واكتفائهم بجمالية عرضها وتناسقها الداخلي.
5ً ـ اعتماد مصادر ضعيفة وغير أصليّة، لاسيما في دراساتهم حول الشيعة الإمامية.
6ً ـ إسقاط نظريات مسبقة أحياناً (جولدتسيهر أنموذجاً).
7ً ـ اعتماد مبدأ التشابه بين الديانات والحضارات لتفريغ الإسلام من كل جديد.
6 ـ منهج التعامل مع الاستشراق
انطلاقاً من هذا التنوّع الموجود في حركة الاستشراق يتبادر إلى ذهننا سؤال هام: كيف يفترض فهم الظاهرة الاستشراقية؟ كيف نتعامل مع هذه الظاهرة بشكل يكون فهمنا لها صحيحاً؟ كيف نتجنّب بعض المفاهيم والتصوّرات التي تعيق فهمنا الصحيح لها؟ ثم كيف نخوض معها حواراً علمياً؟ وما هو المنهج العلمي المفترض الذي نتمكّن من خلاله من تسجيل ملاحظات علمية على هذا المستشرق أو ذاك؟
في هذا السياق تجدر الإشارة السريعة للنقاط التالية:
1 ـ لا تتّحد صيغة التعاطي الفكري مع المستشرقين، وإنما تختلف تبعاً لانتماءات المستشرق الفكرية والمنهجية.
ولتوضيح هذه النقطة الهامة نمثل بالاستشراقين: الديني، والعلمي / العلماني، فالمستشرقون الذين كانوا ينطلقون من منطلقات دينية، وبعضهم رجال دين مسيحيون أو يهود، يمكن الإيراد عليهم بما في النصوص الدينية لدياناتهم؛ فإذا أشكلوا مثلاً بأنّ الحديث النبوي غير ثابت، وأنّ هناك فترة معتمة لم يدوّن فيها حديث النبي|، ومن ثَمّ فنحن غير قادرين على الوثوق بهذه الأحاديث، أمكن ممارسة جواب نقضي عليهم بأنّ نصوص (السنّة) في الديانتين اليهودية والنصرانية دوّنت بعد عقود من وفاة عيسى× وقرون من وفاة موسى×، لكن إذا جاء مستشرق علماني وقال هذا الكلام بعينه، فلا يمكن الجواب عنه بذلك؛ لأنه سوف يقول تلقائياً بأنه يقبل بذلك وبأنّ إشكاله يسري على المسيحية واليهودية كما على الإسلام. هذا كلّه يعني أنّ الانتماء الفكري للاستشراق ضرورة لمعرفة كيفية خوض الحوار الفكري معه.
وفي هذا السياق لا يصحّ اتّباع منهج واحد على مستوى الأسلوب مع جميع التيارات الاستشراقية، فبعضها له أغراض استعمارية، وبعضها ليس كذلك، فلا يصحّ الخلط بين الأوراق في هذا المجال.
2 ـ لا ينبغي الخلط بين دوافع المستشرق وقيمة بحثه العلمي، فلكي يكون حوارنا الفكري مع الاستشراق وزيناً وأكاديمياً علينا النظر في الدراسة التي يقدّمها هذا المستشرق أو ذاك، بصرف النظر عن دوافعه، فحُسن نواياه أو سوئها لا يبطل فكرةً قالها ولا يصحّح مقولةً أطلقها، وواحدة من أشهر أخطاء الدارسين المسلمين لقضايا الاستشراق هي:
إما حُسن الظن بالمستشرقين بحيث يعمي عن رؤية أخطائهم حتى تكوّنت تيارات فكرية في عالمنا الإسلامي لم تكن سوى ترجمة حرفية أمينة لأعمال المستشرقين، ولهذا نجد الكثيرين ممّن ينزعجون من نقد الاستشراق وأن هذا النقد تعبير ـ بالضرورة ـ عن تخلّفنا العلمي.
أو سوء الظن بهم وتطبيق منطق المؤامرة على أعمالهم بأجمعها، إلى حدّ أن هذا أفقدنا العديد من الأفكار الصحيحة التي اكتشفها المستشرقون، والتي كان من شأنها أن تطوّر معارفنا الفكرية والدينية.
لقد بلغ سوء الظن حدّاً أن حمل مفكّر كبير مثل مالك بن نبي، حمل مدح المستشرقين للحضارة الإسلامية على أنه حقنة اعتزاز كان الهدف منها ذرّ الرماد في العيون وتخدير المسلمين بماضيهم وتعمية أبصارهم عن الخطط الاستعمارية.
من هنا، فالمطلوب في الحوار الفكري مع الاستشراق وأعماله أن ننظر إلى النتاج الاستشراقي لتفكيكه وتحليله وتقييمه بصرف النظر عن الدوافع والنوايا.
للاطلاع وقراءة التحقيق كاملا اضغط هنـــــــــــــــــــــــا
جديد الموقع
- 2024-04-28 الحاج معتوق الهدلق.. سيرة عاطرة
- 2024-04-28 بين لججِ الشك وفِخاخِ الغواية في ديوان (قبل التيه برقصة)
- 2024-04-27 أفراح سادة المكي بالمبرز تهانينا
- 2024-04-27 نادي أطياف يحتفي ب"قبل التيه برقصة"
- 2024-04-27 صدور الكتاب الرابع عشر لـ عدنان أحمد الحاجي
- 2024-04-26 الوائلي.. في أوج العلم والثقافة والأخلاق
- 2024-04-26 القراءة خارج الدائرة
- 2024-04-26 الشيخ الصفار يدعو لمواجهة تحديات الحياة بالثقة والأمل والنشاط
- 2024-04-26 مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يكرم بر حي الملك فهد
- 2024-04-26 فرع مركز الملك عبدالعزيز بالشرقية للتواصل الحضاري يكرم مركز بر الفيصلية .