2020/05/17 | 0 | 3329
الشيخ امجد الاحمد : الإمام علي (ع) و تحمّل المسؤولية
محاضرة الشيخ أمجد الأحمد ليلة ١٩ رمضان ١٤٤١ الكاتب: الأستاذ قاسم الحسن
في كل عام ، وفي الليلة التاسعة عشر من الشهر الفضيل ، يتسابق المؤمنون على الاحتشاد وتكثيف السواد في المجالس والحسينيات ، لإحياء ذكرى استشهاد أمير المؤمنين (ع).
لكن في هذا العام ، وفي ظل الجائحة التي جثت على صدر العالم والعالمين ، احتشد المؤمنون بقلوبهم الولهى خلف شاشات العالم الافتراضي، تحملهم على ذلك (المسؤولية) التي يشعرون بها تجاه إحياء هذه الذكرى وتخليدها حتى في أحلك الظروف ، كما يحملهم أيضا الشعور بالمسؤولية في الحفاظ على صحة الفرد والمجتمع.
هنا اقتنص سماحة الشيخ أمجد الأحمد الفرصة ، ليسلط الضوء على كنزٍ مكنون في شخصية أمير المؤمنين (ع)، حيث جاءت محاضرة هذه الليلة تحت عنوان : ( الإمام علي (ع) وتحمّل المسؤولية ).
فبعد أن هيّأ الأجواء الافتراضية والقلوب المتعطشة من خلفها بأبيات الرثاء وكلمات العزاء، افتتح المحاضرة بقبسٍ من كلام الإمام علي (ع) في الخطبة التي تسمى بـ(القاصعة) : " أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا "
فحينما نلتقي بأمير المؤمنين (ع) في ذكرى شهادته أو ذكرى ولادته فإننا نلتقي بالمثل الأعلى الذي نقتبس من هَدْيه ما ينير لنا دروب الحياة، كما نقتبس تلك الدروس البالغة والبليغة من سيرته (ع)،ومنها درس ( تحمّل المسؤولية ) وكيف أن الإمام (ع) تحمّلها وهو في سنٍّ مبكرة على الرغم من ثقلها وعظمتها، كما قال (ع) عن نفسه : " أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ..".
فالإمام علي (ع) وُلِدَ قبل بعثة النبي (ص) بِعشْر سنين ، وكان النبي (ص) يَكْبُر الإمام (ع) بثلاثين سنة، وعندما أُمر النبي (ص) بتبليغ الرسالة كان عُمْر الإمام (ع) عشر سنوات وهو أول من أسلم، حيث كان (ع) قبل مجيء الإسلام موحدا ولم يكن مشركا ، كما نقرأ في زيارة الإمام علي (ع) : " أشهد أنك كنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا..."
والإمام علي (ع) عندما هاجر إلى المدينة كان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وعندما التحق النبي (ص) بالرفيق الأعلى ورحل عن هذه الدنيا كان عمر الإمام علي (ع) ثلاثا وثلاثين سنة.
فبعد أن أوجز سماحة الشيخ هذه المراحل الرسالية من عمر أمير المؤمنين (ع)، رجع ليؤكد مدى تحمّله (ع) للمسؤولية الرسالية والقيام بها على أفضل صورة في سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن رسوله منذ نعومة أظفاره وإلى أن ضرب على رأسه في فجر مثل هذه الليلة (في مسجد الكوفة) وحتى استشهاده (ع).
فلقد كان (ع) الولد المسؤول، والشاب المسؤول، والرجل المسؤول، والقائد المسؤول، والعالم المسؤول، والمربي المسؤول....
وهذه المقدمة كانت انطلاقة لعدة محاور طرحها سماحة الشيخ بخصوص موضوع محاضرة الليلة، وقد جاءت المحاور كالتالي :
المحور الأول : الإنسان كائن مسؤول
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مسؤولا ولم يخلقه عبثا، قال تعالى : " فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ "، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان وأكرمه بالعقل وسخّر له هذا الكون، فلكي يستفيد من هذه المقدرات والإمكانيات للقيام بمسؤوليته، مثل الخلافة الإلهية على وجه الأرض وإعمارها والاستفادة من طيباتها.
فالإنسان محاط بجملة من المسؤوليات، والذي يراقبه ويطالبه بها ويحاسبه عليها هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو السائل، والمسؤول هو أنت أيها الإنسان، والمسؤول عنه هو العمل الذي تقوم به.
فالله تبارك وتعالى جعلك أيها الإنسان مسؤول في علاقتك مع ربك، وقال تعالى : " وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ "، كما جعل عليك مسؤولية تجاه نفسك بأن تسعى لتزكيتها و تكاملها ، فقال تعالى : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا "، وجاء في كلام لأمير المؤمنين (ع) : " وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أُرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأكْبَرِ".
وكذلك أيها الإنسان جعل الله عليك مسؤولية تجاه والديك و أبنائك وزوجتك، وجعل عليك مسؤولية تجاه عملك و وظيفتك، و أيضا تجاه مجتمعك و وطنك... فالله سبحانه وتعالى يقول : " فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون "، ويقول تعالى في موضع آخر : " وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ".
وهنا لفت سماحة الشيخ الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي عندما نصف و نمدح و نقول : أن فلانا (مسؤول)، فنعني بذلك أنه عرف مسؤوليته وقام بها ، ويقابله الإنسان (اللامسؤول) الذي لا يبالي ولا يكترث للمسؤوليات الملقاة على عاتقه، فتراه لا يهتم بشؤون بيته وأسرته، ويلقي بالمسؤولية على غيره كالزوجة مثلا وهو لا يقوم بشيء.
كما لا يهمه أمر مجتمعه والمخاطر المحدقة به من فقر وبطالة و انحرافات اجتماعية و أخلاقية، بل يصل الأمر بالإنسان (اللامسؤول) أن يهمل حتى نفسه فلا يهتم بمستقبله أو وظيفته أو صحته أو تعليمه.
المحور الثاني : كيف ننمي حس المسؤولية ؟
الإنسان يولد وعنده استعداد للقيام بالمسؤولية، لكن هذا الاستعداد يحتاج إلى تعزيز و تنمية حتى لا يضعف، وبالتالي يصبح الإنسان إذا كبر شخصا يتكل على غيره. فهناك عدة عوامل تساعد على تنمية حس المسؤولية :
أولا / الأسرة
هي المهد الأول للإنسان، فإذا كان الأبوان في الأسرة يتعاملان مع الابن بطريقة تعزز فيه حس المسؤولية فإنه ينمو إنسانا مسؤولا، أما إذا تعامل الأبوان مع الابن بعكس ذلك وبطريقة تعزز عنده اللامبالاة وعدم الاكتراث فإنه ينمو إنسانا اتكاليا وقد يكون ضعيف الشخصية.
فعندما يقوم الأبوان بكل اللوازم عن الابن، كأن يكلّفوه بشيء ما ثم يقومون به بدلا عنه، فإذا أراد الطفل أن يأكل الطعام فتجد أن بعض الأمهات تقوم هي بنفسها وتلقمه خوفا على ملابسه من الاتساخ و قد يصل إلى سن الخامسة وهو لا يستطيع كيف يتعامل مع الملعقة.
أو حينما يريد الطفل أن يخرج من البيت ليلعب مع أقرانه فإنها تبالغ في الخوف عليه من أن يضربه أحد أو أن يصاب أثناء اللعب، فأمثال هذه المواقف وغيرها تجعل من الإنسان شخصية ضعيفة غير قادر على تحمّل المسؤولية وتكوين علاقات صحيحة.
وقد جاءت التوصيات الدينية لتعزز حس المسؤولية لدى الطفل منذ نعومة أظفاره كما جاء في الحديث الشريف : " لاعب ابنك سبعا ، وأدبه سبعا ، وصاحبه سبعا،..."، وصاحبه هنا أي تعلمه المسؤوليات ، كأن يذهب مع أبيه السوق و يتعلم كيف يتبضع ويشتري أو يتم تكليفه ببعض المهام في الأسرة ويتم إرشاده وتسديده بالتوصيات والنصائح.
ومن القرآن الكريم نستوحي الدور الكبير للأسرة، فعندما يحدثنا عن قصة نبي الله إبراهيم (ع) وابنه إسماعيل (ع)، فإنه لا يحدثنا أن إبراهيم (ع) تحمّل كامل المسؤولية وترك إسماعيل (ع) من دون مسؤولية ، بل يحدثنا و يقول : " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ... "، ففي هذه الآية تتضح لنا مصاحبة إبراهيم (ع) لابنه إسماعيل (ع) في السعي، وكذلك تتضح لنا استشارة الأب للابن عندما قال إبراهيم (ع) لإسماعيل (ع) : " فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ... " ليقرر المصير بنفسه و يتحمل المسؤولية.
كذلك عندما يحدثنا القرآن الكريم عن موقف آخر لإبراهيم و إسماعيل (ع) حيث يقول : " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ " فإننا نستوحي الصحبة والمعيّة و المشاركة في العمل بين الأب وابنه.
وكذلك ينقل لنا القرآن الكريم دعاء إبراهيم (ع) : " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ".
وتوقف سماحة الشيخ عند أسرة الإمام علي (ع) في طفولته وكيف كان أبوه أبوطالب (رض) و أمه فاطمة بنت أسد (رض) يتحملان المسؤولية ويربيان أبناءهما على تحمّلها ، فقد تحمّلا الدفاع عن الرسول الأعظم (ص) في الشِعْب المعروف (بشِعْب أبي طالب) لمدة ثلاث سنوات.
وقد ضحّى أبوطالب بمكانته في المجتمع المكي، بل ضحّى بثروته و بالعيش الرغيد من أجل رسول الله (ص). وعندما قالوا لأبي طالب (رض) : سلّم لنا ابن أخيك محمد، و انْعَمْ بما تريد...، فرفض أبوطالب (رض) ذلك، وقال للنبي (ص) : ( امضِ فيما أمرك الله، والله لن أتركك وحدك )، وأبياته المعروفة شاهدة على ذلك :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
وكما تحمّل أبو طالب (رض) المسؤولية الرسالية فقد ربّى على ذلك أبناءه وحثهم في أكثر من موقف على اتباع النبي (ص) وحمايته.
فعندما رأى أبوطالب (رض) النبي محمد (ص) يصلي وعن يمينه الإمام علي (ع) ، وخلفهم السيدة خديجة (رض)، أمر ابنه جعفر قائلا : ( صِلْ جناحَ ابن عمِك ).
وأما في أيام الشِعْب الذي ذكرناه سابقا فلم يكتفِ أبو طالب (رض) بتحمّل مسؤولية حماية النبي (ص) لوحده، بل أمر أولاده بذلك ليربيهم على التضحية وتحمّل المسؤولية في سبيل الرسالة، فنجده يستبدل مضجع النبي (ص) ويجعل الإمام علي (ع) يضطجع مكانه، فلما سأل الإمام (ع) أباه : لِمَ يا أبتي ؟!، أجابه أبوطالب (رض) : أخشى أن أعداء الله يأتون لقتل ابن عمك محمد، فإذا جاؤوا فلتُقْتَل أنت و لا يُقتَل هو. فقال الإمام (ع) : أبتي...إني مقتول ؟!، فقال أبوطالب :
اصبرن يا بني فالصبر أحجى كل حيٍّ مصيره لخطوب
قـــد بذلناك والـــبلاء شــــديد لفداء الحبيب و ابن الحبيب
فأجابه الإمام علي (ع) وهو ابن أحد عشر ربيعا :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد فوالله ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت أن ترى نصرتي وتعـلـم أنــي لـم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبي الهدى المبعوث طفلا ويافعا
ولذلك فإن مبيت الإمام علي (ع) على فراش النبي (ص) ليلة الهجرة لم تكن هي المرة الأولى ، فقد سبق وأن بات على فراش النبي (ص) في أيام الشِعْب أكثر من مرة.
هكذا كان أبوطالب (رض) يدفع بالإمام علي (ع) لتحمّل المسؤولية، وكذلك كانت أمّه فاطمة بنت أسد (رض) التي قدمت النبي (ص) على أبنائها وكفلته، حتى أنها لما توفيت قال النبي (ص)في حقها : " إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها" ، فالإمام علي (ع) تربى في هذه الأسرة على تحمّل المسؤولية.
ثانيا / القرين الصالح
عندما يقترن الابن منذ مقتبل عمره بأصدقاء يحملون همّ الثقافة والمعرفة والتطلع والطموح للمراتب العالية، وبأصدقاء مثابرين ومجتهدين يتحملون المسؤولية تجاه دينهم ومجتمعهم، فإن هذا الابن لاشك أنه سيتأثر بهؤلاء الأصدقاء والقرناء الصالحين.
أمّا إذا اقترن بأصدقاء و أصحاب لا يستشعرون المسؤولية، سواء على المستوى التعليمي و المعرفي أو الأخلاقي أو الاجتماعي، وليس لديهم أدنى اهتمام بهذه الجوانب، فإن الابن سيصبح في حالة عدم المبالاة ولا يستشعر المسؤولية، لأنه يعيش في أجواء هزليّة لا تعود عليه بفوائد في الدنيا والآخرة، ولأن حياته تمشي بشكل عشوائي من دون هدفٍ أو طموح.
فلو رجعنا إلى أمير المؤمنين (ع) وسألنا عن قرينه ؟! لوجدناه رسول الله (ص)، فمربيه ومعلمه و صديقه هو رسول الله (ص)، كما قال الإمام علي (ع) : " وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَلَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ".
فمن أعظم من النبي (ص) في تحمّل المسؤولية و هو القائل : " والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته"، فهذا النبي العظيم هو قرين أمير المؤمنين (ع).
ثالثا / تنمية الوازع الديني
الإنسان الذي عنده إيمان بالله وخوف منه يكون في حالة مراقبة ذاتية مستمرة، فيستشعر أمام تلك النعم التي وهبه الله إيّاها أنه مسؤول، و أنه لابد من القيام بواجباته و مسؤولياته على أتم وجه، لأن هناك ربٌّ عليم سيحاسبه، و أن هناك مَعَادٌ وهناك جنة ونار، فالله سيسأله عن وقته وشبابه و صحته و أمواله وعن طاقته العقلية ومدى تفعيلها.
المحور الثالث : علامات الإنسان المسؤول
هناك علامات بارزة نتعرف من خلالها على الإنسان الذي يقوم بمسؤولياته ويتحملها، وهي :
العلامة الأولى / رعاية من تحت يده
فالنبي (ص) يقول : " كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "، فالحاكم مسؤول عن شعبه، والمدير في العمل مسؤول عن موظفيه، والأب مسؤول عن زوجته وعياله، والإنسان الفرد مسؤول عن جوارحه وحياته وعن مجتمعه.
العلامة الثانية / الإتقان في العمل
هناك صنفان من الناس من حيث إتقان العمل، فصنف يتعامل مع العمل والوظيفة على أنها إسقاط للواجب يستلم من خلالها الراتب، فتجده يفرح إذا لم يذهب للعمل أو استطاع أن يتهرب من العمل. أما الصنف الآخر وهو الذي يُخلص في عمله ويُظهره بأبهى وأحسن صورة.
فالمعلم غير المتقن هو الذي يدخل درسه فيشرح و يخرج و لا يكترث إن كان الطلاب قد استوعبوا الدرس أم لم يستوعبوا، أما المعلم المسؤول والمتقن لعمله هو الذي يُخلص في تعليمه، ويحرص على تربية الطلاب وهدايتهم، كما يحرص على صناعة جيل صالح.
وينطبق هذا التصنيف على الأطباء أيضا، فتجد الطبيب المتقن متفانٍ في خدمة المرضى، وقد يضطر أن يأخذ ساعات إضافية في عمله، بل بلغ عند بعض الأطباء أنهم يعملون في خارج ساعات العمل رعاية بمرضاهم واطمئنانا على سلامتهم، ويعمل فوق ما يجب عليه عمله وذلك لحرصه وشعوره بالمسؤولية.
وشاهدنا هذا الشعور في هذه الأزمة التي تمر علينا (أزمة كورونا)، حيث أن بعض الأطباء ابتعد عن أهله وعياله و أقاربه واعتكف في المستشفى لخدمة ورعاية مرضى (كورونا) مع ما يتهدده من خطر الإصابة بهذا الفيروس سريع العدوى.
ولو طبقنا التصنيف السابق على العلماء والخطباء، فإن المتقن و المسؤول منهم هو الذي يسعى إلى تقديم ما يفيد ويحرص على تزكيتهم وهدايتهم، فالمهم في ذلك كله هو الإتقان في العمل وليس العمل فحسب،كما قال النبي (ص) : " إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ".
العلامة الثانية / الذي يخالف هواه
وهو الذي يخالف رغباته في سبيل القيام بالمسؤولية، ولا ينقاد أسير خلف هواه وشهواته، وهذا ما نقرأه بصورة واضحة في سيرة أمير المؤمنين (ع)، عندما استلم الحكم بعد الخليفة الثالث، حيث يقول : "وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَي وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة
فنلاحظ من خلال هذا النص كيف أن أمير المؤمنين (ع) يتعامل كحاكم وقائد مسؤول عن شعبه وعن الناس من حوله.
ولذلك عندما بلغ أمير المؤمنين (ع) خبر عثمان بن حنيف واليه على البصرة، بأنه لبّى دعوةً على مأدبة أحد الأغنياء، أرسل إليه بتلك الرسالة شديدة اللهجة، قال في افتتاحها : " أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ ".
هكذا عندما تتطلب المسؤولية أن تمشي عكس الرغبات والأهواء فلابد أن نستجيب لها، ونتحمّلها ونتغلب على تلك الرغبات.
العلامة الرابعة / الذي يضحّي بمصالحه في سبيل المصلحة العامة
فالإمام علي (ع) عندما اغتصبوا منه الخلافة الظاهرية بعد وفاة رسول الله (ص)، وكان بإمكانه أن يشهر سيفه و يدافع عن حقه، ولو فعل فربما لا يُلام على ذلك، لكن أمير المؤمنين (ع) لم يكن يتعامل بتلك الطريقة، فتضحيته بأموره الخاصة من أجل مصلحة الإسلام العامة جعله يطلق مقولته : " لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة ".
العلامة الخامسة / الذي يعي للظروف والمتغيرات
كل مرحلة تتطلب موقفا معينا، فعلى الإنسان المسؤول أن يعي لتلك المرحلة والظروف وكيف يجب أن يتعاطى معها، فهل هذه المرحلة تتطلب منه العمل أو السكون ؟ الكلام أم الصمت ؟، وهل هذه المرحلة تدفعني للسلم أو الحرب ؟.
فالإنسان المسؤول لا يتعامل مع الظروف والمتغيرات تعاملا واحدا، فمثلا ونحن نعيش هذه الأيام في ظرف خاص وهي (جائحة كورونا)، فإن الإنسان المسؤول الذي يقتدي بأمير المؤمنين (ع) هو الذي يعي مسؤوليته في هذا الظرف.
وهنا أشاد سماحة الشيخ بشعار (كلنا مسؤول) الذي أطلقته الحكومة في حملتها ضد فيروس كورونا، وأخذ يبين بعض صوره ومصاديقه من واقعنا الاجتماعي، حيث شدد سماحته بأنه لا يعقل أن نتعامل مع مرحلة كورونا مثل ما قبلها.
فالعادات التي كنا عليها سابقا لا بد من أن نتنازل عنها في سبيل محاصرة الفيروس والقضاء عليه، فإذا كنا في السابق اعتدنا على التجمع العائلي في شهر رمضان المبارك على وجبة الإفطار أو على وجبة السحور، فلا ينبغي أن نُصِرّ على هذا التجمع العائلي في هذا الظرف الحرج و الأزمة المتفاقمة و الخطر المحدق على مثل هذه التجمعات بسبب الفيروس.
وإذا كنا قد اعتدنا في السابق على أن نذهب في مثل هذه الليالي إلى الأسواق لشراء مستلزمات العيد و كمالياته، أو أننا في يوم العيد نخرج لنجتمع ونتزاور ونتبادل الفرحة والتبريكات بالعيد، فإننا في هذا العام ومع هذا الوضع الطارئ ينبغي أن نلتزم البيوت، وأن نتبادل الفرحة والتبريكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا.
فعلى الإنسان المسؤول أن يعي خطورة هذه المرحلة، وان يأخذ بأسباب الحماية والاحترازات الصحية، ويستمع لما يقوله الخبراء في مجال الصحة والسلامة.
وقد شاهدنا آثار عدم الالتزام بهذا الشعار، فهناك أسر بأكملها أصيبت بهذا الفيروس بسبب إصرارها على التجمع العائلي وعدم الأخذ بأقوال الخبراء في الالتزام بالتباعد الاجتماعي.
العلامة السادسة / الذي يبادر لتحمّل المسؤولية
الإنسان المسؤول لا ينتظر من أحد أن يطلب منه ما ينبغي القيام به فضلا عن القيام بواجباته، فالإمام علي (ع) لما بُعث النبي (ص) وبادر إلى الإيمان به، جاءه رجل من كبار المجتمع المكي وكان الإمام (ع) صغير السن، فسأل ذلك الرجل الإمام (ع) : هل استشرت والدك قبل أن تؤمن؟، أجابه الإمام (ع) : إن الله لم يستشر أبي حينما خلقني.
وفي معركة الخندق عندما كان النبي (ص) ينادي في أصحابه : مَن لِعَمْر، وأنا أضمن له على الله الجنة؟! ، فهنا بادر الإمام علي (ع) وقال : أنا يا رسول الله، فقال له الرسول (ص) : اجلس يا علي، وكرر النبي (ص) ذلك أكثر من مرّة ولم يبادر في كل مرة إلا أمير المؤمنين (ع).
فكان دَأبُ الإمام علي (ع) في كل الميادين (المبادرة) ولا يرضى إلا أن يكون في مقدمتها، حتى استحق أن يكون بطل الإسلام بعد رسول الله (ص)، وهكذا استمر الإمام (ع) إلى آخر حياته المباركة، وهنا يوجز الشاعر المسيرة الجهادية للأمير (ع) فيقول :
لم يزل طول عمره في عناءٍ و لـــحـفـظ الإســـلام كان عــــناهُ
مـبـتـداهُ مــع الـنـبي جـهـــادٌ ضـــد أعـــدائــه، وذا مــنتــهــــاهُ
كـــم لــقي من خلاف أصحا بـــه أضعاف ما من أعدائه لاقــاهُ
كـــم تمنى الــــموت المريح و ما ظنك، فهو بالموت دَرْكُ مناهُ
فالحلقة الأخيرة فجر هذه الليلة، فقد كلّلّ أمير المؤمنين (ع) كل هذا الجهاد بالشهادة، وكان (ع) ينتظرها لأنه بُشّر بها، حيث قال له النبي (ص) : يا علي كأني بأشقاها قد ضربك على قرنك، فصبغ شيبتك من دم رأسك. فقال الإمام (ع) : أفي سلامة من ديني ؟، فقال (ص) : نعم، في سلامة من دينك.
ويسأله النبي (ص) : كيف صبرك على ذلك ؟، فيقول (ع) : يا رسول الله، هذا ليس من مواطن الصبر، بل هذا من مواطن الشكر.
جديد الموقع
- 2024-03-29 تنمية مهارات التعامل مع الآخرين.
- 2024-03-29 شجنة من نور محمد السبط المجتبى (ع) (في فلك حديث عالم الأنوار)
- 2024-03-29 هموم وتطلعات المرأة السعودية - في المجموعة القصصية « 10 أيام في عين قسيس الإنجيلي » لرجاء البوعلي ..
- 2024-03-28 نادي الباحة الأدبي يناقش (كينونه) كأول تجربة عربية لمسرح الكهف.
- 2024-03-28 البيئة تطلق خدمة الحصاد المجاني للقمح لمساحات 30 هكتارًا
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تطلق مشروع الحديقة المركزية على مساحة 15 ألف متر مربع السعودية الخضراء .. مبادرة تاريخية ملهمة لتحقيق المستقبل الأخضر العالمي
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تتصدر المؤشر الوطني للتعليم الرقمي في فئة (الابتكار)
- 2024-03-28 رئيس جمعيــة المتقاعديــن بالمنطقة الشرقية يقدم الشكر والتقدير لرواد ديوانية المتقاعدين
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تعافي
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يطلع على برامج جمعية ترابط