2022/07/29 | 0 | 2008
الشعر باعتباره محاولة توصيفيه لظواهر الكون
اليمامه
في نطاق التجربة الشعرية وعند محاولتها وصف الظواهر الكونية، يتبدى لنا الفارق الكبير بين تأويل الشعر والمقولات العلمية. فالشعر شأن العلم، يصف العالم، إلا أن الاختلاف يكمن في زاوية المنظور: العلم يفسر الظواهر من خلال علاقتها مع الأشياء الأخرى «كسمولوجيا»، في حين أن العالم الشعري هو عالم «أنثروبولوجي»؛ فالأشياء ليست لها صفات إلا انطلاقاً من علاقتها بنا نحن أنفسنا، كما يعبر عن مفهوم هذا الاختلاف جان كوهين في كتابه الكلام السامي.
الشعر إذن، يدافع وفق هذا المفهوم، ليس عن شرعية حضوره في المجال الثقافي العام؛ إنما عن أحقيته في المساحة الكبيرة في نفوس البشر، والتي يحاول أن يقرض بعض أطرافها «النثر» بأجناسه الأدبية المتنوعة كالقصة والرواية؛ «وذلك باعتبار أنه لا يغير في صورة الأشياء (كالرواية مثلاً)، إنما في الكلمات، وهذا ما يمنحه صفة التأويل الآخر للحياة والكون؛ بشكل لا يدخله في جدال وتصادم مع نظريات العلم مثلما الحال في روايات الخيال العلمي».
فأفضلية الشعر أنه يصف التجربة المعيشة بألفاظ المعيش، إنه يقول التجربة في كلامها الخاص، كما يقول جان كوهين. وعند مقاربتنا لهذه الرؤية من خلال النصوص الشعرية، نجد أن من ضمن الخيارات المناسبة؛ محاولة قراءة نص «الصيف في دلهي» للشاعر الهندي البروفيسور ستشدانندن: «الصيف في دلهي مثل أم / تجري إلى الطبيب بطفلها نصف المحترق. / الأباطرة الذين يتصببون عرقاً الآن في قبورهم / ليس في وسعهم أن يرحبوا بجثث جديدة. / أغنية الوقواق / تستحيل إلى دخان القطار».
ففي صيفنا اللاهب، أنت لا تحتاج إلى مواساة من أحد للتخفيف عن معاناتك. وحتى الشعر عندما يتماس مع سمعك أو ناظريك تشيح عنه وتقول في سرك: (لن يأتِ بجديد فمسام جسدي تنوء من سياط الحر.. أنا أعرف أكثر). وقد تستغرب أيضاً أنه حتى الشاعر لن يكون بمقدوره سوى أن يجري بأقصى سرعته ساحباً معه ما يستطيعه من حروف الأبجدية ليعبر في عجل عن انزعاجه من لهيبه.
ما يطربك حقاً هو مقدار الهجاء والمبالغة في الصور الشعرية والمجاز والاستعارة عندما يوظفها جميعاً الشاعر بحنق في تناوله للموضوع.
فهذا الشاعر الهندي، البروفيسور «ستشدانندن» عندما يغادر منطقته «كيرلا» والتي تعتبر مصيفاً بارداً باتجاه دلهي الحارة، فهو لا يرى شيئاً سوى الجحيم؛ حيث تغيب جميع المناظر المثيرة التي يمكنها أن تشكل نقاط جذب للزائر الغريب أثناء سيره في المدينة الكبيرة، وتنحصر الدهشة فقط في حالة الطقس الذي يصفه بالحريق الكارثي الكبير: «الصيف في دلهي مثل أم/ تجري إلى الطبيب بطفلها نصف المحترق»! صورة شعرية كأقصى ما يمكنك أن تتخيله من معاناة نتيجة هذا الحر الخانق؛ مشبهاً طريقة تحرك البشر في وسط هذه الأجواء بأم مشفقة على صغيرها المحترق وهي تجري بسرعة للمشفى من أجل إنقاذه.
أما ملاحظته على سلوك البشر وأخلاقهم في دلهي ساعتها، فهي مثيرة أيضاً وتستدعي منا الوقوف للحظة حتى نستوضح المعنى الذي قصده الشاعر وسط سيل الشتائم الجارف للطقس والبشر: «الأباطرة الذين يتصببون عرقاً الآن في قبورهم/ ليس في وسعهم أن يرحبوا بجثث جديدة. / أغنية الوقواق/ تستحيل إلى دخان القطار».
ما يمكن فهمه من كل هذا الهذيان هو أن الشاعر صور لنا أخلاق الناس في الحر كطائر «الوقواق» المعروف بخبثه وقبل أن يفقس عن قشر بيضته! فعلماء الحيوان يقولون لنا أن أنثى الطائر وعندما يحين موعد خروج بيض فراخها لا تضعهم في عشها، بل تختار عشاً آخر لطائر فيه بيض وتخلط بيضها ببيض الطائر المسكين حتى ترعاه أنثى ذلك الطير الغريب. وعندما يفقس بيض طائر الوقواق أولاً، فهو من النذالة بحيث يرمي باقي البيض خارج العش ليستأثر وحده بالطعام!
هل أتضحت لك الصورة التي شكلها الشاعر عن الناس في الحر؟ أرجع إلى نصه الشعري وأقرأه مصحوباً بفهمك الحالي عن طائر الوقواق ليتضح لك مقدار الهجاء.
محمود درويش - الشاعر العربي - يقر شاعرنا الهندي في رؤيته عن المعاناة الصيفية لكن بأقل حدة وأخف هجاء، ومتخذاً من «القصيدة» لا «الطبيعة» فحسب موضوع استعارته، ومستبدلاً طائر الواق واق الشرس بعصفور «الدوري» المسالم:
«صيفٌ خريفيٌّ على التلال كقصيدةٍ نثرية. النسيم إيقاعٌ خفيف أحسُّ به ولا أَسمعه في تواضُع
الشجيرات. والعشب المائل إلى الاصفرار صُوَرٌ تتقشَّفُ، وتُغري البلاغة بالتشَبُّه بأَفعالها الماكرة. لا احتفاء على هذه الشِعاب إلاّ بالـمُتاح من نشاط «الدُوريّ»، نشاطٍ يراوح بين معنيً وعَبَث. والطبيعة جسدٌ يتخفَّف من البهرجة والزينة، ريثما ينضج التين والعنب والرُمَّان ونسيانُ شهواتٍ يوقظها المطر».
وهكذا هو التفاعل الشعري مع إحدى ظواهر الطبيعة في انفعاله معها، وطريقة الوصف لتلك الظواهر بإحلال الصور مكان الواقع ومحاولة القبض على جوهر الأشياء وانعكاسها على المواضيع الشعرية من خلال الطاقة التعبيرية الكبيرة للغة وزخمها الاحساسي.
جديد الموقع
- 2024-04-24 أمسية حوارية للقاص والروائي طاهر الزارعي وتوقيع مجموعته القصصية الرابعة
- 2024-04-23 كل ما تملكه ليس لك
- 2024-04-23 الملتقى الثاني للتعريف بالماعز القزم بالمطيرفي
- 2024-04-22 بعد أن تتعرض للإهانة، اكتب مشاعرك على قصاصة ورق ثم تخلص منها وهذا من شأنه أن يحد من مستوى شعورك بالغضب
- 2024-04-22 مراعاة الزمن مع الأسئلة في اختبارات أعمال السنة
- 2024-04-22 نظرية أثر الفراشة في 80 لوحة تشكيلية
- 2024-04-22 احتفالية توقيع كتاب تنتهي بتوصية استثمار جبال الأحساء
- 2024-04-22 المريحل تحتفي بعقد قران نجليها ( حسين وحسن )
- 2024-04-22 رشفة من الإبداع ونور الحياة في النورس الثقافي بالاحساء
- 2024-04-22 أمير المنطقة الشرقية يزف 7784 خريج وخريجة من جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل من الدفعة الخامسة والأربعون