2022/08/04 | 0 | 2506
الشعر المترجم وكمائن الفجوة الثقافية
اليمامة
عدا عن الرواية التي نجت من أزمة “الفجوة الثقافية” التي لا تستطيع الترجمة تجسيرها، يبقى الشعر “الأجنبي” عصياً على التعاطي المباشر والاستيعاب.
فإذا كانت القصيدة وبإرجاعها إلى أبسط أشكالها وأكثرها جذرية ليست سوى أغنية؛ فليست حديثاً أو تفسيراً، كما يقول أكتوفيو باث، لذا تبقى كل مجاراة ومسايرة لأبياتها من أجل الوصول إلى المعنى التام شبه مستحيلة. فالسياقات أو التتبع المفهومي للمعنى الثاوي في القصيدة الأجنبية يتطلب أكثر من الترجمة الحرفية وانتقاء المفردات المشابهة لها في الأبجدية العربية؛ إلى تكثيف المعنى في كلمات موازية وجمل على ألا تخرجها عن الشكل العام لجنس القصيدة الأدبي.
إذن الرواية الأجنبية يمكن قراءتها ببساطة وانسيابية عندما تُنقل إلى لغتنا لأنها في جذرها عبارة عن تقرير لحادث أو تاريخ، بينما القصيدة هي شحنات من العواطف والأفكار تتكثف في أغنية. ومثالاً عن ذلك، يمكننا انتقاء هذا الشاهد من قصيدة مترجمة عن اللغة الألمانية لشاعرها العظيم هلدرلين وبترجمة من الأديب الدكتور عبد الغفار مكاوي:
«قريب/ وعصيٌّ على الإدراك هو الإله/ لكن حيث يكون الخطر/ تلوح كذلك النجاة/ في العتمة تسكن النسور/ وبلا خوف يعبر أبناء الألب/ فوق الهاوية/ على جسور خفيفة. / لهذا تتراكم حولنا/ قمم الزمان، وأحب الأحباب/ يسكنون قريباً/ منهكين فوق جبال متباعدة، (*) / أعطنا إذاً أيها الماء البريء/ أيتها الأجنحة أعطنا/ أن نعبر إليها بحس عميق الوفاء/ثم نعود».
في هذا النص، كل ما استطاعه المترجم، وكاستدراك، أنه عمل على وضع إشارة النجمة (*) في طرف أحد مقاطع النص «منهكين فوق جبال متباعدة» حتى يحيل القارئ إلى تأويل هذا المقطع الشعري من داخل اللغة الألمانية وبرؤية الفيلسوف هايدغر وتأويله بأن قصد الشاعر لهؤلاء الأحباب الذين يسكنون فوق قمة جبلين متجاورين ومنفصلين هما: الشعر والفكر أو الأدب والفلسفة.
نحفظ للدكتور مكاوي هذا الامتنان على جهده بتقريب المعنى، لكنه بهذا الفعل كشف عن عجزنا على استقبال القصيدة المترجمة بما تعودناه في حال تعاطينا مع شعرنا العربي من تهيئة وجدانية واسترخاء تليقان بانسكاب عواطف أخرى نتمثلها ونتغنى بها.
فرجوع الدكتور مكاوي إلى هايدغر في استجلاب المعنى موفق تماماً، باعتبار أن من جعل هذا الفيلسوف الوجودي العتيد يؤمن بالشعر هو هذا الشاعر “هلدرلين” عند مقولته الشهيرة: «يجب ألا نمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد»! فوضع الفلسفة في شكل شعري يعني جعلها تقتصر على حل مسألة عقلية بينما القصيدة خاضعة جمالياً لأحكام ذوقية قد تكون متفاوتة. فإذا كانت الفلسفة تأويلاً وتفسيراً لمشاكل العالم وموقف الذات والوجدان منها، وعودة على نفس المقطع الشعري الذي قاربه هايدجر «منهكين فوق جبال متباعدة»، نجد أن لدينا معنيين متقابلين لا يلتقيان لدى الشاعر وهما الشعر والفكر وهو فهم هايدغر. لكن في هذه النقطة علينا تفعيل مقاربة أخرى نشتقها من النص الشعري كوحدة واحدة وذلك بالمقاربة الصوفية؛ فهي من لديها تفسير لسياق الجمل الشعرية وباقي المفردات مثل هذا المقطع: «في العتمة تسكن النسور».
فعندما نأخذ مفردة “العتمة” ونصلها بالرمز الصوفي المسيحي “الليلة الظلماء”، وكذلك الرمز الصوفي الإسلامي “الغراب الأسود” نجد أننا قد وصلنا إلى قمة تأزم الروح وانفعالها في تلك اللحظة الوجودية عند ترقيها في سلم العرفان وكما حدد خطواتها الفيلسوف أفلاطين بالصعود بالروح من المادة إلى الله بتتابع سلوكي وعملي؛ يبدأ بتخليص النفس من حاجات الجسد المادية علها تعثر على الضوء الذي يحررها من سلطة العقل لتصير بعدها إلى حالة أشبه ما تكون بالجنون في العشق أو حالة النشوة في السكر، ويبقى كل شيء في عماء؛ وهو ما سماه متصوفة الإسلام بحالة “الغراب الأسود” أو “الليلة الظلماء” كما في التصوف المسيحي.
فعودة إلى النص الشعري، نجد أن الشاعر هلدرلين قد وصف رحلته وعروجه الروحي بأنها محفوفة بالخطورة والمجازفة، وما يطمئنه أن “جذبته” الروحية مؤمنة بالرحمة والحب من قبل الإله: «قريب / وعصيٌّ على الإدراك هو الإله / لكن حيث يكون الخطر / تلوح كذلك النجاة». وهذه الرحلة في مآلها ستصله حقيقة بتلك “العتمة” التي تسكنها “النسور”، حيث يعبر مصحوباً بأرواح القديسين: «في العتمة تسكن النسور/ وبلا خوف يعبر أبناء الألب/ فوق الهاوية / على جسور خفيفة». وأن الطريق إلى الإله متعدد المنطلقات؛ سواء بمركب الفلسفة أم بجمل العرفان:
«أعطنا إذاً أيها الماء البريء / أيتها الأجنحة أعطنا / أن نعبر إليها بحس عميق الوفاء / ثم نعود».
المقطع الشعري الأخير من هذه القصيدة عبارة عن مناجاة وابتهال إلى الإله، وإن اتخذ من البعد الميتافيزيقي للماء رمزيته باعتباره المادة الأساس في تكون مفاعيل أحداث الحياة والكون والإنسان، وكذلك للمعنى الذي يشير إليه غاستون باشلار عندما ربط صورة الماء بالخيال الشاعري المنفتح والمتكون نتيجة تفاعلات الإنسان الشاعر مع العناصر من خلال ذاكرة الجسد.
أخيراً، ومن خلال استجلابنا لنص الشاعر الألماني، كنا في مورد الاستشهاد لا التفرغ الكامل للاشتباك مع رؤية الشاعر الوجودية ورؤاه الدينية، لذا يبقى الشعر الأجنبي معضلة بإزاء الترجمة وعصياً على التأويل من خارج ثقافته، وبالذات عندما يكون شعراً عميقاً كما هو عليه هلدرلين الذي يفسح لنا مجالاً من العذر بأن لغته صعبة في إيصال المعنى حينما يقول في نص آخر:
«أردت أن أغني الغناء الخفيف، / غير أنني لا أوفق أبداً إليه».
جديد الموقع
- 2024-03-29 تنمية مهارات التعامل مع الآخرين.
- 2024-03-29 شجنة من نور محمد السبط المجتبى (ع) (في فلك حديث عالم الأنوار)
- 2024-03-29 هموم وتطلعات المرأة السعودية - في المجموعة القصصية « 10 أيام في عين قسيس الإنجيلي » لرجاء البوعلي ..
- 2024-03-28 نادي الباحة الأدبي يناقش (كينونه) كأول تجربة عربية لمسرح الكهف.
- 2024-03-28 البيئة تطلق خدمة الحصاد المجاني للقمح لمساحات 30 هكتارًا
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تطلق مشروع الحديقة المركزية على مساحة 15 ألف متر مربع السعودية الخضراء .. مبادرة تاريخية ملهمة لتحقيق المستقبل الأخضر العالمي
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تتصدر المؤشر الوطني للتعليم الرقمي في فئة (الابتكار)
- 2024-03-28 رئيس جمعيــة المتقاعديــن بالمنطقة الشرقية يقدم الشكر والتقدير لرواد ديوانية المتقاعدين
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تعافي
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يطلع على برامج جمعية ترابط