أقلام وكتابات
2020/10/29 | 0 | 3171
التي اسمها معصومة هي أمي
( محمد الحرز )
كي ترى جمال الشجرة ونضارتها وظلالها عليك النزول من فوقها , عليك الحذر حين النزول أن تهدم أعشاش عصافيرها أو تطلق صفيرا ترعب أطفالها , أو تدهس بقدميك ثمارها الوارفة , ثم عليك الابتعاد قليلا حتى تكون في مرمى ناظريك بالكامل, عندها عليك أن تجز الأعشاب الضارة من نظراتك, وأن تفتح صنبور الماء عن آخره حتى تتهيأ حدائق جسدك لاستقبال كل التفاصيل الدقيقة من هذا الجمال .
ولأن الأشجار هي النظرة الواحدة للأفق , النظرة الواحدة من السطح إلى السطح , من الحبل الممدود من ضفة إلى ضفة أخرى والأقدام تمشي فوقه ولا تقع في البحر .
لكنها لا تتشابه في حنينها إلى الجذور , رغم انتفاء المسافات الطويلة فيما بينها ، غير أنها تدرك في عمق أنساقها أنها ابنة الأرض , وما يخرج منها هو الصراخ الذي نسميه الحياة .
وحينما يخبو بطيئا بفعل الموت تقذفين أنت أنفاسك فيها لتعود الصرخة من جديد ملئ بأشياء العالم.
هكذا هي أمي, هكذا هي أمهات العالم , لم أحضن شجرة بكامل خضرتها وأغصانها وثمارها في الحياة سوى أمي .
لم ألتفت يوما ما للكتابة عن أمي ! رغم أن كل الكلمات التي تربت في بيتي ونامت فوق سريري وأكلت من طعامي وسمعت حكاياتي وحفظتها عن ظهر قلب , تعرف أن أنفاسها في الحياة هي أنفاس أمي , وأن ذاكرتها هي يد أمي الحانية عليها كلما قتلتها الوحدةُ وأتعبها الحزن حين أهملها ولا أستدعيها للكتابة .
هل لذلك علاقة بعدم معرفة أمي للكتابة والقراءة ؟!
أم أن الأمر لا يعدو كوني من فرط التصاقي بالشجرة لم أشعر بوجودها في حياتي ؟!
وهل الكتابة بهذا الاعتبار هي المعادل الوجودي للذين نحبهم , إذا لم نكتبهم يعني أننا لا نحبهم ؟!
" معصومة" اسم أمي . من مواليد 1946م سماها جدي بهذا الاسم نسبة إلى السيدة معصومة أخت الإمام الرضا الإمام الثامن للشيعة المدفون في مدينة قم بإيران , كما درجت عليه العادة في تسمية الأولاد للتبرك بالأولياء الصالحين .
وهي البكر لوالدها من مجموع اثني عشر ابنا بين إناث وذكور . حيث عاشت وتربت مع والدها متنقلة بين الكويت والبحرين واستقرت أخيرا مع والدي بعد زواجها منه في مدينة الأحساء.
بسبب هذا التنقل والترحال لم يتسن لها التعلم والدراسة حتى فيما كان يسمى بالكتاتيب التي كانت توجد في أغلب الحارات قديما .
لقد تفرغت تماما للأعمال المنزلية والإنجاب كما هي عادت الأمهات في ذلك الزمن .
تربيت وأخوتي في حضنها , ودرجنا على سماع صوت كلمة " أمي " وهي تتردد صداها في أرجاء البيت , حتى والدي إذا ما أراد أن ينادي عليها يقول : " أم نجيب .. يا أم نجيب " – أخي الأكبر اسمه نجيب – والنساء من أهل الحي والقريبات من العائلة كنّ ينادينا عليها بـ " أم نجيب" . وكأن الاسم سقط فجأة من الألسن على الأرض, حين تبينوا أن المسمى امرأة , هكذا هي الأعراف كما تربينا عليها .
أين أختفى اسم أمي ؟! هل يعقل كل هذه السنين ولم نتفطن إلى هذا الغياب إلا في الأوراق الرسمية بين حين وآخر ؟!
لم نتفطن ولم نجرب أن نصعد بكلمات اسمها إلى أعلى السطح ونطيره في الهواء مثل طائرة ورقية تحلق عاليا , وكلما خفنا عليه من الضياع شددنا الخيط إلى الوراء حتى يعود الاسم ثانية إلى شفاهنا سالما .
قد يبدو لهذا الغياب صلة بعدم الالتفات للكتابة جهة أمي , وقد عمق هذا الغياب أيضا اختباء الاسم وراء ستارة قاتمة الألوان , يعلوها الغبار والنسيان دائما ؛ لأن أمي لم تمسك القلم والممحاة كي تزيل الغبار وتزيح بيدها تلك الستارة عن ملامح اسمها الكتوم .
على مقاعد الدراسة وداخل أسوار المدرسة دائما ما يحدث صراع بين الأولاد وكان تسريب اسم الأم إلى الطلبة هو بمثابة عقاب لأحدهم حين يتمادى في الاعتداء على بعض الطلبة , بحيث حين يذكر اسم أمه أمام بقية الطلاب , يصاب بالخجل ويطأطأ رأسه وكأن عيبا قد لحقه أو عارا أصابه في مقتل .
نحن لا نذكر أسماء أمهاتنا لبعضنا البعض الأقرباء منهم أو الأخوة , ناهيك عن الغرباء ! وكلما كبرنا في الحياة وأخذنا العمر في طرقه المتعرجة ابتعدنا عن أسماء أمهاتنا حتى لا تستطيع الذاكرة التقاطه من فرط صغره وتلاشيه , وكأن حبات الرمل وقد تبعثرت في صحراء شاسعة الأطراف لا تكاد تبين .
يصادف أحيانا آخذ أمي في موعد إلى المستشفى , وبعد تقديم بطاقة الموعد للموظف المناوب على الكونتر , يطلب مني كتابة اسم أمي الرباعي في الاستمارة التي أمامي لترتيب الدخول على العيادة .
هنا أصاب بالارتباك , أفتش في زوايا ذاكرتني عن أجدادي أين اختبأوا ؟ وفي أي واد سلكوا , وعلى أي ضفاف وضعوا خيامهم ؟ أزيح الكثير من الوجوه النائمة في حجرات ذاكرتي , أحاول النظر في تلك العيون والشفاه, لعلي أعثر على تلك الكلمات التي نطقت يوما ما أسماءهم . لكن كل محاولاتي تذهب أدراج الرياح .
فجأة يناديني صوت من عمق ذاكرتي يقول لي : أنت بالكاد تنطق اسم أمك وتتعود عليه , فكيف في هذه اللحظة تريد أن تأتي أسماء أجدادك إلى لسانك بسهولة ؟!.
في مثل هذه الحالات دائما ما يكون الحل , هو الرجوع إلى بطاقة الأحوال المدنية , حيث يتم الأمر في أقل من ثانية . لكنها لحظة تضرب بعمق مثل زلزال في روحي , وكأن صدى هذا الزلزال يقول لي : جرب أن تمرن ذاكرتك على الجري في سباق الأسماء , وإذا ما أصابها التعب قم واسكب ماء العائلة على جسدها , ثم أطلقها في المضمار مرة أخرى .
يظل الصدى يتكرر مع كل موقف أصادفه مع أمي يشبه حادثة المستشفى , اللحظة ذاتها تعود بثقلها , والصدى ذاته يعود وكأنه قدر يلازم حياتنا حين تكون لأمهاتنا أسماء معطلة عن الحياة , وتكون معلقة هكذا , لا هي تتعرف على مسماها الدال عليها منذ الولادة , ولا الألسن باستطاعتها أن تشق لها طريقا إلى الحياة كي تعيش.
ماذا نصنع في هذه الحالة , هل نلوم أنفسنا , أم نلوم المجتمع أو العائلة ؟
هل نرمي تبعات الغياب على التربية والموروث بعاداته وتقاليده ؟
أم لا هذا ولا ذاك , بل أنك يا محمد لم ترفع رأسك وتنظر إلى الضفة الأخرى , تلك البعيدة عن ناظريك في علاقتك وأخوتك بأمك " معصومة" .
هناك حيث الطفولة نائمة في حضن أيامنا , ولا تستيقظ إلا إذا استدرجنا جاذبية الأرض إلى مخدعها , يمكن عندها أن تفتح عينا واحدة لتقول لنا كلمة واحدة :
انظروا إلى أمكم ها هي هنا لا زالت تسقي أحلامي من نهرها الخالد , ولولاها لأصبحت عجوزا لا حياة لي في الذاكرة , ولا كانت لكم طفولة نضرة كما هي الآن تلمع مثل الذهب أيها الأبناء .
هل أمعن النظر إلى البعيد الآن إلى حيث تلك الطفولة , حتى أجيب عن سؤال الغياب , وأبرر من خلاله فكرة التأنيب التي تلازمني مثل ظلي كلما اعترضني حديث عن أمي ؟
أتذكر أن أمي كانت هادئة الطباع , لا يسمع لها صوت , وإذا ما تحدثت فإن حديثها عادة ما يكون خافتا , حتى وهي تأمرنا بجلب حاجيات البيت من السوق , وإذا ما أغضبها أحد أخوتي فإن غضبها يحفر في داخلها حفرة عميقة . لكنها سرعان ما تردمها بلمسة حانية من يديها أو قبلة تتبعها ضمة إلى الصدر . لينها معنا مهما ارتكبنا من أخطاء لا تغضب سوى والدي الذي كنا نرتعب لمجرد اقترابه من البيت حتى دخوله .
صفة كتلك في أمي , جعلت من شخصيتها تنطوي على الهدوء , بعيدة عن تلك القصص والحكايات التي يلتقطها الأطفال حين تجري أحداث مزعجة في العائلة كالشجار والأصوات العالية والمشاكل الكبيرة بين الأبوين .
هذا الهدوء انعكس على تربيتي أنا بالذات دون أخوتي , وتشربته شخصيتي وذهب في العمق من تفكيري وروحي. لذلك أظن أن من أسباب عدم كتابتي عنها هو هذا تحديدا , فأنت إذا ما حضنت بكلتا يديك شجرة وطوقتها بجسمك كاملا , فكيف يتسنى لك أن تتأملها من الخارج ؟!
وكيف لشخص مثلي أن ينفك عن تلك الشجرة دون أن تصيبه الوحدة في مقتل ؟!
مقطع من نص طويل عن العائلة .
جديد الموقع
- 2024-03-29 تنمية مهارات التعامل مع الآخرين.
- 2024-03-29 شجنة من نور محمد السبط المجتبى (ع) (في فلك حديث عالم الأنوار)
- 2024-03-29 هموم وتطلعات المرأة السعودية - في المجموعة القصصية « 10 أيام في عين قسيس الإنجيلي » لرجاء البوعلي ..
- 2024-03-28 نادي الباحة الأدبي يناقش (كينونه) كأول تجربة عربية لمسرح الكهف.
- 2024-03-28 البيئة تطلق خدمة الحصاد المجاني للقمح لمساحات 30 هكتارًا
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تطلق مشروع الحديقة المركزية على مساحة 15 ألف متر مربع السعودية الخضراء .. مبادرة تاريخية ملهمة لتحقيق المستقبل الأخضر العالمي
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تتصدر المؤشر الوطني للتعليم الرقمي في فئة (الابتكار)
- 2024-03-28 رئيس جمعيــة المتقاعديــن بالمنطقة الشرقية يقدم الشكر والتقدير لرواد ديوانية المتقاعدين
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تعافي
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يطلع على برامج جمعية ترابط