2025/12/19 | 0 | 402
وا... لغتاه
ليست اللغةُ وسيلة تواصلٍ بين البشر، ولا كلماتٍ كالكلمات، أو جُمَلا أو حروفا تُقال عند مجموعةٍ أو أُمّةٍ من البشر. وليست كما عرفَّها ابنُ جِنّي (ت ٢٩٢هـ) بأنّها: «أصواتٌ يُعبر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم». وليست كما عبّر عنها ابنُ سنان الخفاجي (ت ٤٦٦هـ) بقوله: «عبارةٌ عمّا يتواضع القومُ عليه من الكلام». بل هي أكبر مما عبّر عنها الفيلسوفُ الألماني مارتن هايدغر (ت١٩٧٦) بقوله: "إنّ لغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقرّي، وهي حدودُ عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها، ومن خلال عيونها أنظرُ إلى بقية أرجاء الكون الواسع". بل هي هُوية وولاء وانتماء وحضارة وكيان ووجود.
حين انتشر الإسلامُ في القرن الهجري الأول، اكتسحت العربيةُ لغاتِ البلدان المفتوحة كالفارسية والأوردو، والتركية والأفغانية وغيرها، فاستبدلوا حروفهم بالحروف العربية. وحين فتح العربُ الأندلس، أصبحت العربيةُ لغةَ عالمية، فتدافع الأندلسيون زرافات ووحدانا لتعلمها، وضرب لها الأوروبيون أكبادَ الإبل لتعلمها في عُقر دارهم الأندلس.
كان العربُ قبل الإسلام يُرسلون أبناءهم إلى البادية؛ لينهلوا اللغة من معينها الصافي، مثلما نهلها نبينا (ص) في بادية بني سعد.
تقوى اللغاتُ بقوّة أقوامها، فالدولُ القوية تعتز بلغاتها- كم عز أقوام بعز لغات- وتبذل الغالي والنفيس في نشرها، بل تخوض حروبًا من أجلها. ففرنسا احتلّت الجزائر١٣٢ سنة وفرضت لغتها عليها، واحتلت ما يُسمّى ببريطانيا العظمى- الدولة التي لا تغيب عنها الشمس- كما يزعمون معظمَ عالمنا العربي، ونشرت لغتها بخبثٍ ودهاء. واحتلّت إيطاليا الفاشية ليبيا، وفرضت لغتها عليها، وسيطرت تركيا العثمانية على بعض البلدان العربية، وفرضت لغتها عليها بما سُمّي بسياسة تتريك العرب، وكلهم باؤوا بالفشل بفضل تمسك العرب بلغتهم.
لم تُحارَب العربيةُ ممّا سُمّي بالاستعمار بآلته العسكرية وسيطرته الأمنية والاقتصادية فحسب، بل حُوربت من عدّة جبهات بالقوّة الناعمة منها جبهةُ المستشرقين الذين درسوا العربيةَ دراسةً دؤوبة أكثر ممّا درسها أهلها، وأشاعوا أفكارًا أغلبها دسُّ للسّم في العسل، وغرسوا شكوكهم في عقول من تتلمذوا على أيديهم من بني جلدتنا، مثل: أنّها جامدة لا تواكب العصر، ولا تقبل المخترعات والاكتشافات والمصطلحات الأجنبية الجديدة، ولا يوجد بديلٌ لها في العربية. بل تجاسر بعضُ من ينتسبون إليها شكلًا لا مضمونًا بدعوتهم لاستبدال الفصحى بالعامية قراءةً وكتابةً، واستبدال حروفها بالحروف اللاتينية في الكتابة، كما فعل الأتراك الذين يتقدّمون حضاريًا بخطوتهم الجريئة هذه كما يزعمون، فانبرى لهم حافظ إبراهيم بقصيدته: «اللغة العربية تنعى حظّها بين أهلها» قائلًا:
رجعتُ لنفسي فاتهمتُ حصاتي
وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عانقت لغتنا الثريّا، بتألّق نخبةٍ من عمالقتها أمثال: طه حسين، والعقّاد، ومصطفى صادق الرافعي، وكذلك بصعود نجم القومية العربية، وأنّها عاملٌ من عوامل الوحدة بين العرب.
لقد كنّا قبل أربعة عقودٍ تقريبًا نتحسّر على ما آلت إليه لغتنا، بشيوع العامية شيوعًا بارزًا بين ظهرانينا في جميع المجالات، وسيطرتها على قطاع التعليم خاصة الذي يفرض على من "قف له وفه التبجيلا" الحديثُ بالفصحى!
في عصر شبكة المعلومات العالمية، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكثرة التطبيقات، وانتشار المدارس والجامعات، تراجعت لغتنا القهقرى، لصالح انتشار اللغات الأجنبية واللهجات العامية، ونحن نرى ونستمع إلى من نَعُدهم قدوةً لنا من ذوي عمائم: بيضٍ وخُضرٍ وغرابيب سود، ومن أصحاب دال ومراجع علمية ودينية، وعلماء تُثنى أمامهم الركب، معظم أحاديثهم ومحاضراتهم بالعامية، إلّا من رحم ربّي!
إنّني أضحك بدموعٍ غزار من المتفائلين بأنّ لغتنا بخير، وأن هناك فرقا بين حالها اليوم وحالها قبل مئة سنة! إضافة إلى اعتراف الأمم المتحدة بها لغةً عالمية في الثامن عشر من ديسمبر عام ١٩٧٣م، وأنّنا نحتفل بهذا اليوم في كلّ عام.
إن حال لغتنا في الآونة الأخيرة "للخلف دُر" ما لم نتداركها بتطبيق ما شرَّعناه من قوانين المحافظة عليها قبل سنواتٍ طويلة. إنني أندبها وأرثي لحالها إذا لم نستشعر ونعي دورها بأنها لغةٌ تحمل قداسةً من القرآن الكريم، وأن الصلاة لا تكون إلّا بها. ويعتَريني شيءٌ من التفاؤل أنها ليست كاللغات الأخرى، محفوظة ما دام فينا قرآنٌ يُتلى آناءَ الليل وأطرافَ النهار.
يا بني قومي، خذوا لغتنا بقوّة، وعضوا عليها بالنواجذ قبل أن يحمى الوَطيس بين الكوفيين والبصريين مرّةً أخرى، ويضرب زيدٌ عمرًا، وحينها لن تنعى لغتنا حظها، بل سترثي حالها قائلة: «أكلوني البراغيث».
جديد الموقع
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي
- 2025-12-27 العالم الرقمي و خصوصيتنا
- 2025-12-27 المهندس "المطر" يدشّن حملة التبرع بالدم في مركز صحي الفضول والختام اليوم السبت
- 2025-12-27 د.نسيبة أحمد أخصائية الجلدية بمستشفيات الحمادي: ضرورة شرب الماء الكافي وتناول الأطعمة الصحية واستخدام أجهزة الترطيب في الشتاء