2017/02/04 | 0 | 1805
لغة الأرقام
عندما كنتُ صغيرا، كنتُ ضعيف البنية كثيرا مقارنة بأترابي فلم أكن أحظى باللعب معهم في الكرة والهول والخشة (الصيدة) أو العرجاء أو العنبر أو احترق، وكل تلك الألعاب التي تتطلب جهدا جسديا إذ لم أكن أستطيع الركض أو العراك أصلا؛ وهذا اضطرني أن العب مع أختي وبنات الحارة الأخريات إذ كنت ألعب معهن الحبل والحجلة وبعض ألعاب البنات لدرجة أنني في يوم ما كنتُ أجيد الحياكة والخياطة.
بسبب هذه الظروف، اضطر أبي (رحمه الله) أن يدخلني المدرسة متأخرا؛ بين الثامنة والتاسعة من العمر. والدتي (الله يعافيها) أتت من البحرين، وكان الفرق الثقافي حينها كبيرا لعدم وجود آليات التواصل الحديثة إذ كانت البحرين جزيرة معزولة تقريبا عن الساحل الشرقي من بلادنا. عندما تزوجت أمي في عام 1953م، كان عمرها 11 عام وكانت تدرس في الصف الثاني الابتدائي؛ في ذلك الوقت، لم تكن هناك مدارس للرجال في منطقتنا، ناهيك عن مدارس للبنات.
كانت ألبستنا ولهجتنا مختلفة عن الحارة نوعا ما، والصدمة الكبرى حينما ذهبت أول يوم للدراسة إذ ألبستني أمي بدلة من سروال قصير وفانيلة وصندل فلم أسلم من التحرش (الطنازة) من قبل الطلاب الآخرين (لم يكني أبي مخطئا حينها)، وفي أول يوم دراسي وكان في مدرسة ابن خلدون أعطاني المعلم أحمد مسعود (رحمه الله) كفا لا أنساه ما حييت؛ المدارس التي تبنيها أرامكو توزع أقلام ودفاتر للطلاب، وحصل كل طالب على قلم رصاص ودفترين؛ أحدهما للحساب والآخر للقراءة، وكوننا لا نقرأ، قال الأستاذ أحمد: "نرسم خطا على دفتر الحساب وخطين على دفتر القراءة"، فبادرت بالأمر إذ لم أكن أعلم أنه كان يريد أن يكون صاحب الشرف لرسم هذه الخطوط فتكرم بإعطائي ذلك الكف الذي كاد أن يسقطني أرضا.
ما حدث لم يثنيني عن حُبَ الدراسة ولم يؤثر على حماسي لها؛ ربما لمعرفة الله بظروفي (لكل ضعف لطف)، فصرت حينها أفضل طالب من المدرسة من ضمن ستة فصول للمرحلة الأولى. الله منّ علي بمواهب خارج الحدود الجسدية فكنت متميزا دراسيا، خصوصا المواد العلمية وعلى رأسها الرياضيات التي كان يستصعبها الكثير من الأتراب، وواصلت العهد حتى التحقت ببرنامج الابتعاث السريع لأرامكو، ثم ذهب لأمريكا لمواصلة الدراسة الجامعة.
منذ اللحظة الأولى في الدراسة تناغمتُ مع الأرقام، وللأرقام لغة خاصة قد تخفى على الكثير لأنها في الواقع تتكلم لمن يستوعبها. بالأمس، وزعت استبيانا وذلك طلبا للمعرفة لماذا لا تستهويني قراءة الروايات وأن آخر عهدي بها في المرحلة المتوسطة عندما قرأت حينها البؤساء والأحلام الكبيرة ومجدولين وقصص سندباد والألغاز، وأتى الرد من البعض مشكورين أكثرها بتأييد قراءة الروايات (ولا إشكال عندي في ذلك البتة). اليوم صادف أن أقرأ المقالة رقم 87 للكاتب السويسري رولف دوبلي (المصدر الأول) والذي يتكلم فيه لماذا لا تلتفت الناس للغة الأرقام ولماذا لا تستوعبها كثيرا ولماذا تميل الناس دائما إلى الشخصنة، فتعلمت واقعا بعض الأمور الجديدة، ولماذا (على الأقل) طريقة تفكيري مثلا تختلف عن السواد الأعظم للناس حيث يصعب التواصل بعض الأحيان.
استشهد دوبلي بأن أمريكا حظرت نشر صور جنودها الذين ماتوا في العراق لمدة 18 سنة، بينما أمريكا نفسها لم تبخل بنشر الأرقام مسبقا، وذلك لأن الناس لا تستوعب الأرقام جيدا وأنها تتأثر بصورة جندي ميت أكثر من أن تسمع أن ألوف الجنود قد ماتوا. لكن لماذا؟
يقول دوبلي أننا كبشر متعودون على حياة الجماعة ومنذ ألوف السنين وهذا أثّر على طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا، بل حتى جيناتنا، ومنها طورنا أحاسيس خاصة بنا تستقرئ كيف يفكر ويشعر الآخرون، ومنها طرح دوبلي بعض تجارب علماء النفس الميدانية إذ طُلب من مجموعة من المتطوعين المشاركة بجزء من مئة دولار تُعطى لهم لأحد الأغراب الذين لا يعرفونهم، وإذا لم يقبل ذلك الغريب بالمبلغ الذي يطرحه المتطوع، يرجع المبلغ كاملا للمؤسسة المانحة. كانت نسبة العطاء تترواح بين 30 إلى 50% حينما يتقابل المتطوع مع الغريب، ولكن عندما لم يتم بينهما أي مواجهة، نزلت النسبة فجأة إلى تحت 20%.
في تجربة مشابهة، أُحْضِرَت مجموعتان مختلفتان وأعطي لكل منهما 5 دولارات. أعطيت المجموعة الأولى صورة لطفل مصاب من ملاوي وطلب إليهم التبرع من هذه الخمسة دولارات للمتضررين فيها فوصلت نسبة التبرع إلى 2,83 دولار. أما المجموعة الثانية فأُعطوا ورقة فيها حقائق وأرقام وبدون صور ونقلت لهم أن أكثر من 3 ملايين طفل قد تضرروا بسبب المجاعة التي عصفت بالبلاد. في هذه الحالة، تتصور أن كرم المتبرعين سيزيد نظرا لهذه الأعداد الضخمة، ولكن ما حصل فعلا هو العكس إذ نزلت نسبة التبرع لأقل من 1,42 دولار!
نعود الآن إلى قراءة الرواية أو الأرقام، ومنها نجد أن أكثر الناس تميل إلى قراءة الروايات لأنها تحاكي جزء منهم وإن لم تكن لهذه الرواية أي حقيقة تذكر أو تأثير على مسار الحياة. ولذلك يحذر دوبلي من مثل هذه الظواهر إذ يحفز على قراءة الأرقام ومعرفة ما يدور خلف الكواليس بعيدا عن الصور والقصص التي تثير عواطف الناس، وعلينا ألا نستسهل بهذه الأمور لأن معظم الحروب الحالية الموجودة في الشرق الأوسط ليست مبنية على أرقام أو إحصاء أو حقائق؛ أكثرها مبني على صور أو أفلام أو قصص مفبركة لتهب الجموع لنصرة إخوانهم في المشرق أو المغرب.
جديد الموقع
- 2025-12-30 (قصيدةُ نثرِكَ بلا لاءاتِ فنائِها)
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-29 ارتفاع ملفت في وفيات النوبات القلبية خلال موسم الأعياد ورأس السنة
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي