2025/12/13 | 0 | 187
فانوس القصيدة لعساكر مرثاة فلسفية للهوية المتشظية (قراءة: د.نايف الجهني)
قراءة: د.نايف الجهني
للروح تعبيرها المغاير ، ونسجها الذي يتجاوز المنطق الذي يكون حالة من التشويش حين يحضر أثناء هذا النسج.
فثمة نصوص تتم صياغتها ويتجلى وجودها بشكل يجعلنا لا نتخيل قدومها من عالم مألوف، أي أنها تتخطى حالة الوعي السائد .
وفي قصيدة الشاعر جاسم عساكر، "أشعلت فانوس القصيدة "، يظهر هذا التخطي وتتوهج شموس الدهشة، وبخاصة عند وضعها بين قوسي السوسيولوجيا والفلسفة..لتحقيق المقاربة:
بيني وبينكَ يا صديقي :
حينما أخلو إلـيَّ أقولُ لـي : من أنتَ ؟
لكن لا يردُّ سوى الصدى ، من أنتَ ثانيةً !!
وها إنّي كبرتُ وما اهتديتُ إلـى جوابْ!
فالقصيدة تتشظّى كصوت وجودي يجسّد اللحظة الحداثية العربية في أعمق تجلّياتها: لحظة الانهيار الداخلي، والبحث عن المعنى في عالمٍ فقد ثوابته. إنها ليست مجرد تموضعٍ سوسيولوجي للفرد في سياقه المجتمعي فحسب، بل هي تشريح فلسفي لتلك الذات التي تجد نفسها منقسمةً، غريبةً، وحاملةً لتناقضات عصرها. من خلال حوارٍ درامي مع "الصديق" – الذي قد يكون القارئ أو الذات الأخرى أو العالم بأسره – تنكشف أزمة الهوية في ظلِّ تحوّلاتٍ اجتماعية وثقافية جارفة، ممّا يجعل من النصِّ وثيقةً إنسانية تُعالج بمنطقٍ شعري مأساوي قضايا الاغتراب، التشظّي، والزمن المُعادي، وذلك بأساليب فنيّة تتراوح بين التصريح والرمز العالي. جعلتها تبدو كمرثية فلسفية للهوية، التي تكاد تكون مفقودة، أو في زاوية ضبابية بعيدة.
فالشاعر لا يجد ذاتاً واحدة متجانسة، بل يكتشف كائناً متشظياً: جزءٌ منه حبيس الماضي وناديه، وآخر سجين حزنٍ معزول في "غيابة جُبِّهِ"، فيما يتشبث جزء ثالث ببقايا الحلم والفرح. هذا التعدد ليس ترفاً تأملياً، بل هو تعبير سوسيولوجي عن ذواتٍ تمزقها تناقضات عصرها، وتفشل في صناعة وحدة متماسكة، فتعيش "على عدد الرغاب":
جَرَّبتُ أدخلُني لأقتلَ حيرتـي
فوجدتُني بَشَراً كثيراً
بعضهُ ينعى - على بابِ الدقائقِ- عُمْرَهُ الماضي..
وبعضٌ ساهرٌ فـي الحزنِ يكبرُ في غيابةِ جُبِّهِ
يبكي الذينَ تصرَّموا من أهلهِ وصِحابِهِ..
والبعضُ ما زالتْ لديهِ وشائجٌ
بالـحُلْمِ والفَرَحِ اللَّذَيْنِ تَحَدَّيَا هذا الترابْ!
ويمتد هذا التشظي ليشمل علاقة الذات بالزمن، الذي يتجسد لا كإطار حيادي، بل كقوة معادية وفاعلة. فالزمن هنا "سيف" يقطع رأس المباهج، و"تنور" ينصهر فيه العمر، ونسَّاج "مؤامرة اكتئاب". هذا الانزياح في تصوير الزمن – من مفهوم خطي طبيعي إلى قوة عدوانية – يجسد القلق الوجودي لفرد يشعر بأن حياته تُنهب منه دون أن يجد معنى يبرر هذا العبور. حتى الفضاءات في القصيدة تتحول إلى امتدادات لهذا الاغتراب: من "صحراء التيه" الداخلية إلى "سواحل الألم الفسيح"، وصولاً إلى "مراجيح السحاب" التي ترمز لطفولة روحية عالقة بين الخيال واللااستقرار:
نـهاريَ كوكبٌ مُتَوَهِّجٌ بالكدحِ والشكوى
وليليَ كوكبٌ مُتَوَهِّجٌ بالـهَجْسِ والنجوى
وبينهما
يَظَلُّ الوقتُ ينسجُ لـي مؤامرةَ اكتئاب
ويشير الشاعر إلى كيانه المتعدد: "بعضهُ ينعى... وبعضٌ ساهرٌ... والبعضُ ما زالتْ لديهِ وشائجٌ". يحاول إقناع نفسه بوحدته فـ"هاجَتْ عليَّ غرائزي شتَّى / تُكَذِّبُ ما ادَّعَيتُ". هذا التشظّي هو تعبير عن بنية ذهنية ممزقة نتجت عن صدمة التحولات الاجتماعية، وهو ما تؤكده دراسات سوسيولوجية الأدب عند تحليلها لظاهرة العبث والاغتراب في نصوص مرحلة ما بعد التحولات الكبرى.
.....
وأنا إلـى ( فيروزَ ) أُصغي
راجياً أن ألتقي بي في ( مقامٍ ) لا يخونُ
لكي أقلِّمَ بالعذوبةِ كلَّ أظفارِ العذاب
ويلجأ بعد هذا الاتساق مع التمزق ، إلى "أغنيةٍ ولحنٍ من حريرِ الروح" وفيروز ومقاماتها، وإلى "فانوس القصيدة" الذي يُشعله. الحُلم هو "عصاً سحريّةٌ" لإعادة الفرح المغيّب. هذه المحاولات تبقى هشّة، لكنها تشكّل مقاومة جمالية للخراب، حيث يصوغ الحنان ثوباً روحياً "على مقاسِ الأرض"، في محاولة لخياطة تمزق الوجود.
أشعلتُ فانوسَ القصيدةِ وانتظرتُ
فلَم يَزُرْنـي الحُلْمُ مشتاقاً ولا صَحَتِ النوافذُ ..
هل أنا في العمرِ مصطلحٌ لـعلمِ الحزنِ
منسيٌّ بقاموسِ الغيابْ ؟
لذلك، يمكننا القول أن القصيدة تمثل نموذجاً لأدب يعكس أزمةَ الذات المثقفة في مرحلة تحوّل سوسيولوجي عميق. إنها لا تروي قصة فرد بقدر ما تكشف عن "رؤية للعالم" تتشكّل تحت وطأة التحولات، حيث يصبح الوجود الإنساني محكوماً بالإحساس بالعبث والضياع. يسعى الشاعر من خلال فانوس القصيدة – الذي هو رمزٌ للوعي والبحث الجمالي – إلى استدعاء الحلم، لكن النوافذ لا تصحو والزيارة لا تحدث.
لم أزل جُمَلاً مبعثرةً على أطرافِ دائرةِ الوجودِ
فمَنْ سيَجْمَعُني لأُطْبَعَ في كتابْ ؟!!
في مواجهة هذا الخراب الوجودي، يظهر الفن كملاذ أخير وهش. فـ"فانوس القصيدة" الذي يُشعله الشاعر هو محاولة لإضاءة الظلمة واستدعاء الحلم الغائب. والأغنية، التي يصوغها الحنان "على مقاس الأرض"، تمثل محاولة لخياطة ثوب جمالي يغطي جراح العالم. الاستماع إلى فيروز في "مقام لا يخون" بحث عن نقاء وثبات مفقودين، محاولة "لتقليم أظفار العذاب بالعذوبة". لكن هذه المحاولات تظل معلقة بين اليأس والأمل؛ فالحلم لا يزور، والنوافذ لا تصحو، والسؤال النهائي يظل قائماً: "فمَنْ سَيَجْمَعُني لأُطْبَعَ في كتاب؟!". هذا السؤال يلخص المأزق: الذات كجمل مبعثرة تنتظر قارئاً (أو قوة تاريخية أو معنى كونياً) يجمع شتاتها في حكاية متماسكة.
وتبرز في القصيدة انزياحات دلالية عميقة تُعيد تشكيل العالم المألوف وفق الرؤية المأساوية. الانزياح الأبرز هو تجسيد المجرد، حيث تتحول المفاهيم النفسية والزمنية إلى كيانات مادية عدوانية: فـ"الحيرة" يمكن قتلها، و"الوقت" يفتك وينسج مؤامرات، و"الثواني" سيف مسلط. كما يظهر انزياح التصوير في خلط المجالات، مثل وصف "الثلاثين" التي "انصهرت بتنور التجارب"، حيث تندمج الحرارة العاطفية مع فكرة الصهر المعدني. وانزياح التناقض في "تتويج صحراء التيه بتيجان الخراب"، الذي يحوّل فعل المجد (التتويج) إلى نقيضه (الخراب). هذه الانزياحات لا تهدف للتزيين اللفظي، بل هي أداة فكرية لصياغة واقع نفسي جديد، حيث تفقد اللغة براءتها المألوفة لتعبر عن عالم ممزق، فتضفي على التجربة الذاتية بعداً كونياً وشحنة فلسفية تكثف مأساوية الوجود الحديث واغترابه.
جديد الموقع
- 2025-12-28 تكريم العبدرب الرضاء نظير جهوده 3 سنوات مشرفاً لخدمات المرضى للقطاع الشرقي التابع لتجمع الأحساء الصحي
- 2025-12-28 165 متبرعاً يختتمون حملة "عطاء الفضول" للتبرع بالدم
- 2025-12-28 بين الكتب والخبز
- 2025-12-28 (الرحلات الآمنة) بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 الجلطات الدماغية بمستشفى الملك عبدالعزيز بالأحساء
- 2025-12-28 إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة
- 2025-12-27 جمعة وفاء وتقدير في ضيافة جمعية البر مركز المطيرفي
- 2025-12-27 العالم الرقمي و خصوصيتنا
- 2025-12-27 المهندس "المطر" يدشّن حملة التبرع بالدم في مركز صحي الفضول والختام اليوم السبت
- 2025-12-27 د.نسيبة أحمد أخصائية الجلدية بمستشفيات الحمادي: ضرورة شرب الماء الكافي وتناول الأطعمة الصحية واستخدام أجهزة الترطيب في الشتاء