2021/01/24 | 0 | 3200
النقد الأدبي .. بين المعمار و عامل البناء
صوت مكة
قد لا يخفى على أي قارئٍ منا ذلك الجدال الحاد بين كثير من مؤلفي الكتب و الممارسين الأكاديميين للنقد الأدبي في شتى ألوان الأدب من النثر و الشعر، تلك الحرب الضروس التي جعلت كثيراً من المؤلفين يعزفون عن تقديم أعمالهم الأدبية للناقد الأدبي خشية الوقوع في صراعٍ غير منتهٍ ينتج عن تقديم ذلك الناقد لرأيه المباشر بخصوص ما تم طباعته و نشره بين دفات تلك النتاجات الأدبية، ناقدٌ سليط اللسان؛ هكذا عبّر أحد الكتاب عن ناقدٍ طرح رأيه في قصيدةٍ شعريةٍ لم يرها الأخير مستوفيةً لشرائط و قوام القصيدة العربية، متثيقفٌ جاهل؛ لقبٌ آخر أطلقه ناقدٌ آخرعلى كاتبٍ لم يرتقِ و الأسلوب الأمثل الذي يطمح للاطلاع عليه ذلك الناقد، قذائف تُطلَق من هذا و يرد عليها ذاك وسط ادعاءاتٍ بالصواب ينسبها الجميع لأنفسهم تحت مظلة تقديم فكرٍ مفيدٍ لمجتمع القراء، لستُ هنا لأقف إلى جانبٍ دون الآخر لكن آمل من خلال هذه الهنيهة أن أقدم رأياً قد يوافقني فيه كلا الطرفين و قد تصلني بضع زخاتٍ من وابل رصاص الانتقاد جراء ذلك لكن لا بأس.
سوف أقوم من خلال الأسطر القليلة القادمة بتغيير بعض المسميات إلى ألقاب حرفية و ذلك لأقرّب المعنى بصورةٍ أفضل و ربما تكون أدقّ في إيصال الرسالة التي أسعى لإيجازها، فلنفترض بأن لقب "الناقد الأدبي" تم تغييره لمسمى "المعمار"، كما سأفترض تغيير لقب "الكاتب" لمسمى "عامل البناء"، و بهذا نكون قد ابتعدنا قليلاً عن الورق و دفات الكتب لننجز عملاً حرفياً على أرض الواقع، لن أسمي العمل "كتاباً" بل سأطلق عليه اسم "منزل"، و كما نعلم جميعاً أن كلّ منزلٍ ننوي بناءه يجب أن يستند على ثلاثة مصادر رئيسية هي " المعمار، عامل البناء، و المواد المستخدمة للبناء"، كما سيكون القارئ في محلٍ الزبون الذي سيُقدِم على شراء ذلك المنزل بعد الانتهاء من بنائه.
بادئ ذي بدءٍ يقوم المعمار برسم الخطوط الأساسية للمخطط الإنشائي الذي سيقف عليه المنزل، سيذكر المعمار تفاصيل كثيرةً تشمل كميات حديد التسليح و كمية الخرسانة و الطوب و كل ما يلزم ذكره لتنفيذ الهيكل الإنشائي للمنزل، كل ذلك سيتم بالأرقام المكتوبة بجانب الرسم الذي يشرح طريقة التنفيذ على الورق، كل تلك المعلومات التي يقدمها المعمار لن تكون عشوائيةً كما لن تكون افتراضية و إنما سيعتمد المعمار في رسم المخطط على كثيرٍ من الدراسات السابقة و النظريات العملية التي تجعل تلك الأرقام قابلةً للتنفيذ على أرض الواقع، هنا ينتهي دور المعمار فعلياً و الذي لن يقابل بدوره عامل البناء لتنفيذ العمل و إنما سيقوم الأخير بالاطلاع على المخطط الإنشائي المطبوع و يدرس كافة الملاحظات المكتوبة في حواشيه و ضمن جداوله، سيقوم عامل البناء بعد ذلك بالعمل بحرفيةٍ كبيرةٍ لتنفيذ هيكل البناء كاملاً من خلال استخدام الأدوات الخاصة به لتطويع المواد المطلوبة و إظهار هيكل البناء بصورةٍ دقيقةٍ و سليمة، و بمجرد انتهائه من بناء الهيكل الرئيسي سيقوم بترك البناء قائماً كي يستقر على الأرض و يأخذ حقه الكامل في توزيع الأثقال التي وقفت على محاوره، بعدها يقوم عامل البناء بمراجعة شروط مالك العقار و ذلك لاختيار المواد المناسبة للتشطيب من دهان و أحجار و قرميد و حدائق و غيرها من مواد السباكة و الكهرباء و التكييف، تلك الأعمال التي قد يقوم بها عامل البناء و قد يوكلها لبعض الاختصاصيين الذين يستطيعون إتقان عملها كي تقوم تلك المواد بإظهار الصورة الجمالية النهائية للمنزل بعد الانتهاء منها و تسليم ذلك البيت للمشتري.
لو دققنا النظر قليلاً سنجد أن ما قام به كل من المعمار و عامل البناء يخلص إلى هدفٍ واحدٍ هو رضى المشتري الذي سيمتلك المنزل بعد الانتهاء من تنفيذه، لذلك لا يمكن إغفال رأي المشتري حول السلعة المقدمة له و إن لم يكن يفقه شيئاً في البناء أو التخطيط المعماري، كما لا يمكن إغفال رأي المعمار فيما تم تنفيذه من بناءٍ لذلك المنزل رغم أنه لم يقم بتسليح الأسس و لم يقم بشد الأسقف و بناء الجدران و طلائها، و المهم كثيراً ألا نغفل دور عامل البناء و كذلك مجموعة الاختصاصيين بالتشطيب الذين قاموا فعلياً بتنفيذ البناء و إظهار ذلك المنزل بصورته البهية.
سيكون الناقد في موقع المعمار كما أسلفنا، كما سيحل الكاتب محل عامل البناء الذي يجيد البناء بحرفيةٍ بالغة، و قد أشرنا إلى أن الكتاب سيكون بيتاً نفذه عامل البناء الكاتب و أضاف بعض الاختصاصيين من المدققين اللغويين و البلاغيين مواد التشطيب الجميلة إليه، في النهاية ظهر المنزل بصورته الجميلة التي أعجبت القارئ المشتري لذلك الكتاب، هذه النهاية ستكون سعيدةً في حال استمرت بهذه الكيفية فقط لكنها لن تكون كذلك واقعاً في حين وجد كل طرفٍ من الأطراف المتحاربة نفسه الأفضل في كل شيءٍ و أنه لا يحتاج للآخر أبداً كونه الحرفي الأول و الأخير في مجاله و لن يسمح لأحدٍ ما بالتدخل فيما يقدمه من أعمال، سيقول عامل البناء بأنه يتحدى المعمار و يطلب منه النزول إلى أرض الواقع و يقوم بتسليح أرضية المنزل، كما سيقوم المعمار بتحدي عامل البناء في طريقة حساب الزوايا الدقيقة لإنشاء المبنى و ضمان عدم سقوطه على رؤوس قاطنيه، و تستمر التحديات و هذا ما نراه نحن القراء أمامنا دوماً.
لكن! دعونا نتحدث لأصدقائنا المتحاربَين و لنحاول أن نصلح ذات بينهما، لا شك أن عامل البناء يمتلك الموهبة و الحرفة اليدوية لبناء المنزل كما يقوم الكاتب بحرفيته بكتابة العمل الأدبي معتمداً على أدوات و معاول الكتابة التي تشكّل المواد الخام لتصبح جدراناً و أسقف، تلك الجدران و الأسقف قابلةٌ للتقييم بعد إنجازها و التي ثبت علمياً أن بعضها يخالف بعض المواصفات المقاييس الفعلية للبناء مما يجعل الجهات الرسمية تفرض عقوباتٍ على بعض مقاولي البناء، ذات الجهات الرسمية لكن الثقافية منها قد تمنع نشر بعض الأعمال الأدبية في حين لم تصل تلك الأعمال لمستوى الذائقة الأدبية أو تجاوزت في بعض شطحاتها جزءً من الثوابت و القيم المجتمعية و الأخلاقية، و للإجابة على سؤال الكاتب المليء تحدياً حول إمكانية قيام الناقد بتقديم عملٍ أدبي غير قابلٍ للنقد فإني أقول بأننا جميعاً معرضون للنقد كوننا نقوم بأعمال نقدمها للآخرين، هناك حالةٌ واحدةٌ تجعلنا غير قابلين للنقد و هي أن نكتب لأنفسنا فقط و لا نقوم بنشر ما كتبناه، لكن و بمجرد أن نقوم بنشر أي مادةٍ فكريةٍ فإننا سنترك المجال مفتوحاً أمام كل من يقرأ تلك المادة لإبداء رأيه رضينا بذلك أو أبينا. إن الناقد الأدبي و بفضل دراسته الأكاديمية يمتلك الأدوات المناسبة للكتابة و قد يمتلك المواد اللازمة أيضاً لكنه قد لا يمتلك الموهبة و بهذا لن يستطيع كتابة عملٍ أدبي، و مع ذلك لا نستطيع أن نمنعه من تقييم الأعمال الأدبية التي يمتلك هو الأدوات المناسبة لدراسة هيكلها المعماري حسب تخصصه، كذلك أنت أيها الكاتب؛ فلو امتلكت الأدوات المناسبة للنقد فإن باستطاعتك القيام بعمل المعمار و تقييم عمله من خلال نقد النقد و تصويب الأخطاء العملية وفق أرقام دقيقة خاليةً من الافتراضات و الشخصنة، لكن أن يستمر الحال على ما هو عليه من تعالٍ من جهة الكاتب و كذلك الناقد فإننا كزبائن للمنازل المبنية سنكون الضحية الأولى لكما حيث أن المعمار لن يوضح الكميات المناسبة للبناء كما سيقوم عامل البناء بتوزيع كميات المواد وفق ما يراه هو صحيحاً و التي بفضل الله و ستره قد لا تتسبب بوقوع أسقف الكتب على رؤوسنا.
و من هنا أقدم دعوةً للناقد المعمار و الكاتب عامل البناء للاتحاد في سبيل إخراج الأعمال الأدبية بصورةٍ متميزةٍ تضمن بناء منازل تعيش لسنواتٍ و تعمّر طويلاً دون أن تتهاوى و تسقط خلال سنوات إن لم تكن أشهر قليلةً من الرواج، هذا الأمر ليس بالمستحيل أبداً و إنما يمكن تحقيقه من خلال بذل الكتَاب مزيداً من الجهد لتطوير أدوات الكتابة لديهم كما يقوم النقاد بنشر رسائلهم النقدية بصورةٍ بلاغية محايدةٍ بعيدةٍ عن المبالغة في المديح أو الإيغال في التقريع لإيضاح المزيد من نقاط الضعف التي قد يقع بها الكاتب أثناء بنائه لعمله الأدبي، نتاج هذه الجهود ستثمر بإذن الله في صناعة إرثٍ أدبيٍ كبيرٍ لعالمنا العربي الذي يفخر بعربيته و ينقل عبر التاريخ سيرةً عطرةً كانت و ما زالت قابلة للاستمرار عبر الأجيال، كذلك أنتهز الفرصة لأوجه دعوتي لوزارات الثقافة في كافة البلدان العربية للقيام بوضع نهجٍ يضمن فسح كل الأعمال الأدبية وفق آليةٍ أرقى من مجرد عرضها على مدققٍ لغوي تجاري يضع بين أيدينا كتباً غثةً مليئةً بالأخطاء الإملائية فضلاً عن النحوية منها و البلاغية.
أتمنى للجميع السعادة و التوفيق و منازل مباركة بإذن الله تعالى ..
جديد الموقع
- 2024-03-29 تنمية مهارات التعامل مع الآخرين.
- 2024-03-29 شجنة من نور محمد السبط المجتبى (ع) (في فلك حديث عالم الأنوار)
- 2024-03-29 هموم وتطلعات المرأة السعودية - في المجموعة القصصية « 10 أيام في عين قسيس الإنجيلي » لرجاء البوعلي ..
- 2024-03-28 نادي الباحة الأدبي يناقش (كينونه) كأول تجربة عربية لمسرح الكهف.
- 2024-03-28 البيئة تطلق خدمة الحصاد المجاني للقمح لمساحات 30 هكتارًا
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تطلق مشروع الحديقة المركزية على مساحة 15 ألف متر مربع السعودية الخضراء .. مبادرة تاريخية ملهمة لتحقيق المستقبل الأخضر العالمي
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تتصدر المؤشر الوطني للتعليم الرقمي في فئة (الابتكار)
- 2024-03-28 رئيس جمعيــة المتقاعديــن بالمنطقة الشرقية يقدم الشكر والتقدير لرواد ديوانية المتقاعدين
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تعافي
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يطلع على برامج جمعية ترابط