2020/05/30 | 0 | 2998
موسى بن عمران (3)
ذكرنا سابقا أن الاعتماد على الرواية لا يمكن ذلك ؛ لوجود الإعضال في السند و نسبة الكتب لأصحابها. وفي هذه المقالة الأخيرة أن الذي يذهب إليه المفسرون كما يظهر في كلماتهم ، أن القرينة الصارفة هي التي دلتنا على أن المقصود بموسى في القصة هو ابن عمران الكليم ، ولو كان المقصود غيره لاحتاج إلى قرينة تمنع من ذلك .
فما معنى القرينة ؟ وما أنواعها ؟ وهل (القرينة) تصرف في كل الأحوال لما هو معهود في أذهاننا ؟
المتكلم إذا أراد الكلام إما أن يصرح به تصريحا ويسمى بالنص ،أو ينصب قرينة بأن هذا هو المراد ، و يلام المتلقي في عدم الأخذ بها .
وتعددت تعاريف القرينة ،كقول الجرجاني بأنها "أمر يشير إلى المطلوب" (1)
وهل يجب أن توجد القرينة في النص ؟ الجواب : كلا . فأنواعها تارة تظهر في النص مباشرة ،وتارة تظهر من خلال السياق وأخرى من الحال .
فعندنا قرائن متصلة ومنفصلة ، وتسمى أصوليا الكلمة التي تبطل المراد الحقيقي أو العموم ذي القرينة ، كقولك مثلا (اذهب إلى البحر واستمع إلى حديثه) فالاستماع قرينة تناسب العالم الغزير علمه ، و قولك (أكرم كل فقير إلا الفسّاق )ف(كل)تفيد العموم ،ولولا (إلا) الاستثناء لأكرمنا الكل . وهذه القرينة متصلة والتي هي (كل ما يتصل بكلمة أخرى ، فيبطل ظهورها ويوجه المعنى العام للسياق الوجهة التي تنسجم معه ) . وهناك قرينة منفصلة بحيث لا تجيء متصلة بالكلام بل منفصلة عنه ، يقول (أكرم كل فقير) ثم بعد ساعة في حديث آخر يقول (لا تكرم فسّاق الفقراء) فلا بد من ملاحظة السياق جميعا ككل ونرى أيهما أقرب . فالقاعدة الأصولية تقول (إن ظهور القرينة (الاستماع إلى حديثه) مقدّم على ظهور ذي القرينة (البحر) سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة ). (2)
وقد تعارف علماء اللغة والبلاغيين بأن ينصبوا قرينة إذا احتمل الكلام غير ما وضع لها في أصل النظام اللغوي ، من قبيل الاستعارة والمجاز اللغوي والعقلي ، فالسياق هو الحكم ، وهو يكون لفظيا قد نطق به المتكلم ، أو مقاميا حاليا نبحث عنه في الجو الذي عاش فيه بالنص .
وهي ما تبحث عنه نظرية السياق الحديثة والتي تنظر إلى أن معنى الكلمة لا يمكن تحديده إلا من خلال السياق ، يقول فيرث مؤسس النظرية " إن اللغة ينبغي أن تدرس بوصفها جزءا من المسار الاجتماعي أي كشكل من أشكال الحياة الإنسانية ، وليس كمجموعة من العلامات الاعتباطية أو الإشارات " فيكون السياق : لغوي وسياق موقف أو كما يقال قديما "لكمل مقام مقال" وقد أضيف سياق ثقافي ككلمة (عيش) في مصر يراد بها الخبز ،أما في الخليج فيراد بها الأرز . (3)
نرجع إلى محل حديثنا : هل توجد قرينة تصرف أن موسى المذكور هو غير الكليم حتى قيل "كلما ورد اسم موسى في القرآن فالمراد به موسى بن عمران" ؟هذا السؤال على فرض أننا نتنزل معكم ، وإلا السؤال نفسه يوجه حتى لمن قال بأن موسى هو الكليم أيضا .
القرينة الأولى : نفس الاستدلال بالأحاديث الماضية ، وهي رفض أهل الكتاب أن المعني بموسى هو الكليم ، وقد استبعدت القصة من كتب العهدين القديم والجديد ، يقول مكارم الشيخ مكارم الشيرازي " إِذا كان المقصود هو كتب العَهدين (التوراة والإِنجيل)، فإِنَّ ذلك غير مذكور فيهما، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمَّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي، ففيها قصّة تشبه إِلى حدّ كبير حادثة موسى (عليه السلام) وعالم زمانه، بالرغم مِن أنّها تذكر أنَّ أبطال تلك القصّة هما (إِلياس) و(يوشع بن لاوي)، وهما مِن مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي ، وتختلف مِن خلال عدّة أُمور عن قصّة موسى والخضر " ويرى أن هذه القصة ربما تكون " مُشابهة أو محرّفة لما حصل أصلاً لموسى (عليه السلام) والخضر، وقد تغيّرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشّكل ". (4)
والقصة نقلتها من موقع اليهودية من مصادرها " "إلياهو", هو أحد الأنبياء الذين ورد ذكرهم في سفر الملوك الثاني بكتاب "العهد القديم", يسمى باليونانيّة "إلياس" ويعتقد أنه هو المذكور في القرآن الكريم في الآية : "وإن إلياس لمن المرسلين" كان ظهوره في القرن التاسع قبل الميلاد, في عهد ملك عبري يسمى "آخاب" كانت زوجه ملكة شريرة تسمى "إيزابيل" وكانت المملكة العبرية منقسمة آنذاك إلى مملكة إسرائيل في الشمال ، وعاصمتها السامرة (شومرون)، ومملكة يهودا في الجنوب وعاصمتها أورشليم. ونلاحظ أن العلاقة، بين الروايتين؛ اليهودية والإسلامية متوازية، من حيث إن البطلين هما نبيّ ورجل صالح ، في كل منهما؛ فإلياهو نبيّ في اليهودية أما الحاخام أو الرابِّي يهوشوَّع بن ليفي فهو يمثل دور الرجل الصالح ؛ الخضر، في قصة (موسى والرجل الصالح/أو الخضر)، بصرف النظر عمّن التابع ومن المتبوع في الروايتين.
تروي قصة التراث اليهودي كيف ذهب رابِّي/حاخام يسمى "يِهُوشوَّع بن ليفي" في رحلة مع النبيّ إلِياهو، وكما في حالة العبد الصالح أو الخضر في القرآن الكريم يقوم إلِياهو باشتراط الشرط نفسه الذي اشترطه العبد الصالح على موسى عليه السلام ،وهو عدم سؤاله عمَّا يحدث أثناء هذه الرحلة. ثم يقوم إلِياهو بعمل أشياء شنيعة وغير مقبولة ظاهريًا فيؤثر هذا في الحاخام بنفس الطريقة التي تأثر بها موسى . فمن بين الكثير والمختلف من التعاليم التي قدّمها النبيّ إلِياهو إلى أصحابه ضمن تعاليم إثبات عدالة الله في إدارة شئون الكون ...". (5)
يعلل أحد الدارسين سبب إنكار اليهود هذه القصة ونسبتها إلى موسى بقوله " انتفخت ادمغة اليهود وهم يرون ان الرب اختارهم من بين الامم المحيطة بهم فقال عنهم بأنهم شعبه وانتفخت ادمغتهم لما رأوا موسى ينتصر على فرعون بتلك الآيات الباهرات ورأوه يُكلم الله على جبل حوريب. ويشق البحر بعصاه ويضرب الحجارة فيخرج لهم الماء ويرفع يده إلى السماء فيُنزل عليهم الله الوان من اطعمة الجنة. فاليهود يُريدون نبيا مساوٍ لإلههم له قدرات خارقة ، ليس بينه وبين الله حجاب لا يُريدون نبيا جاهلا ضعيفا او ليس منهم أو ليس له مال ". (6)
لكن هذا التعليل لا أظنه سديدا ، فإن اليهود نسبوا إلى النبي موسى وأخيه هارون عموما والأنبياء الكثير من النقائص مما يندى له الجبين ،وقد تسربت تلك إلى كتب التفسير والأحاديث الإسلامية عن طريق الروايات الإسرائيلية .
وهم يتحينون الفرصة لغياب أو موت موسى ، حتى يحلو لهم ما كانوا يطمعون ، فهم يفضلون هارون ويستضعفونه ،وقضية عبادة العجل ولجاجتهم وطلبهم رؤية الله وامتناعهم القتال أمور يحدثنا القرآن عنهم وهي مشهورة .
فهم لم يقدسوا موسى وجعله في مصف الأرباب أو الأنبياء المصطفين ، بل أهانوه بكثرة طلباتهم وشككوا في رسالته ، ونسبوا إليه الاستهزاء وآذوه كما ورد في سورتي الأحزاب والصف .
هناك مجموعة من القرائن نحتمل أن موسى المذكور في القصة هو غير موسى الكليم ، ومنها :
الأول : جاءت القصة في سورة الكهف خلاف عادة القرآن حين يذكر موسى ،فهي لم تشر إلى بني إسرائيل أو ذكر أحد الأنبياء كعيسى مثلا تترا وترادف ، نعم ذكر قضية آدم وهي لا تشير إلى نبوة وإنما إلى نظام الخلق وسجود الملائكة .
الثاني : القرينة الصارفة ليست دائما دليلا ؛ فقد قصّ الله تعالى علينا بعض أنبيائه في كتابه ،وفهم منها المفسرين لغير النبي المشهور فمن بعض الآراء أن المراد بــ(يوسف) ليس يوسف الصديق الذي وردت قصته في سورة كاملة ، ففي آية سورة الزمر (34) "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " هو يوسف بن إبراهيم (أفراييم) بن يوسف بن يعقوب . (7)
وأيضا ما ورد في سورة مريم (54) :" واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا " المردد بين إسماعيل بن خليل الرحمن وبين إسماعيل بن حزقيل . (8)
يقول أبو عبد الله الصادق عليه السلام :" لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء . (9)
الثالث : كما مر في الأول أن القصة جاءت خلاف عادتها التي جاءت لنبي الله موسى أو مع الأنبياء الآخرين . فتجد في هذه القصة ذكر (موسى) خاليا من أي وصف ، مما جعلته إما أن تكون هذه في مرحلة نبوته الأولى ،وهو لم يقله أحد ، أو شخص آخر في مصاف التلميذ الذي يبحث عن ضآلته ، فوجدها .
وعند الاستقراء لكتاب الله (تارة تسرد القصة مع قومه – وتارة يردف مع أخوته من الأنبياء) وعندما يحين ذكر قصص الأنبياء يقول "ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم وكلّم الله موسى تكليما ) فالتكليم صفة لا يدانيها أي صفة ، فهل يضاهي كلام الرب بكلام غيره ؟! والأسباب كثيرة : عناية الله تعالى به ، فقد وردت صفة الإخلاص باسم المفعول ففي سورة مريم (51) "واذكر في الكتاب موسى مخلَصًا وكان رسولا نبيا " وفي طه 41"واصطنعتك لنفسي" وعن الكتاب الذي جاء به موسى ، فقد وُصف بأنه (نور – هدى – ضياء – فرقان) وأعلاها قوله تعالى في الأنعام (154) ثم آتينا موسى تمامًا على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة " وقال في الأعراف (145) "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء " فأين علم الآخرين عن علم ما في الكتاب الذي أعطي موسى ،وعن مقارنته بالقرآن قال تعالى قي سورة الأحقاف (12) " ومن قبله كتاب موسى إمامًا إماما ورحمة " ولو أردنا أن نعرف ما فيه نقيسه بالقرآن ، فالروايات الكثيرة تصف القرآن بالعجائب سواء التشريعية والتكوينية ، كما في الموثقة عن الصادق عليه السلام يقول :" فيه خبركم وخبر من قبلكم وخبر من بعدكم وخبر السماء والأرض ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم" وروايات أخرى تشير إلى أن كل شيء فيه . (10)
فلا يمكن أن يكون ما عند موسى من ألواح ، أدنى درجة من الأحداث التي جرت على يد العبد الصالح (الخضر).
الرابع : في رواية ابن عباس نفسها ، والتي كذّب فيها أحد الثقات الكبار عند الفريقين وهو نوف البكالي ، وقد نعته بــ(كذب عدو الله) فهو تابعي صدوق عن ابن حجر . ومن خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام " . (11)
لكن ما هو السبب في رفض ابن عباس قول هذا الثقة ؟ الجواب يكمن في حياة البكالي واتصاله بكعب الأحبار فهو ابن زوجته ؛ ولأن كعب مشهور بالروايات الإسرائيلية ، فغلب ظن ابن عباس أن هذه من إحداها . وإلا الرجل -نوف- أحد الحكماء كما ذكر عنه وقد حدّث عنه الكثير . (12)
الخامس : متى حصلت القصة ؟
لا يوجد تاريخ معين ، ولا يكاد تذكر في أي مرحلة ؛ لأن تاريخ موسى مكون من مراحل ، ولذا تعارف كتّاب القصص والسير بوضعها في آخر قصة الكليم .
وسبب الخفاء غير معلوم ، لكنهم ذكروا ثلاثة آراء من دون ترجيح : 1) عند ذهاب موسى لمناجاة ربه وتعبده ،و لم يخبرهم لقصر فهمهم ، وهو مختار الألوسي 2) ربما علموا بذلك لكنهم أخفوها ولم يتناقلوها ؛لأن فيها حط من قدر النبوة 3) أو يطمع البعض بالذهاب للمينة والبحث عن الكنز . (13)
فالسائل سأل موسى عن أعلميته وذلك بعد أن أُلقي إليه الألواح فرجع إليهم فصعد المنبر وقام خطيبًا وأخبرهم أن الله كلمه وأعطاه التوراة قال في نفسه (أو أن أحدهم قال له ): هل يوجد أحد أعلم منك ؟
نلاحظ : أولا : ما مر سابقا عن الكتاب الذي جاء به موسى ، وثانيا : لا يعقل أن يسأل الرجل النبي موسى عن علوم غريبة ؛ وإنما هي عن أمور يتعارفون فيما بينهم ، وهذا أيضا يرده صفة الكتاب .ثالثا : أن الألواح والتوراة قد أنزلت قبل وفاة الوصي هارون ،وفي زمن تيه الإسرائيليون ، فلماذا لم يصطحبه معه ،وهو القائل واجعل لي وزيرا من أهلي ، إلا أن يقال أنه مأمور بذلك أن يأخذ آخر .
السادس : أما الأمر الأخير : فلم يعهد أن موسى في زمن التيه أخذ معه أحد ، لأن الرحلة استغرت كما تقول الآية (سفرنا – ركبا السفينة- أتيا أهل قرية) إلا مرتين غادر فيها ، الأولى : رحلة مدتها (40) يوما وذلك لاستقبال التوراة ، وقد خلّف أخاه هارون معهم . أما الثانية : طلبوا من موسى رؤية الله فاختار من قومه (70) رجلا فهلكوا ، ثم أحياهم خوفًا من ردة القوم أنه هو الذي أهلكهم . (14)
السابعة : تفاصيل القصة يشكك أن موسى هو ابن عمران ، مع العلم بأن موسى في القصة يعلم علمًا يقينيا أن هذا العبد مبعوث من قبل الله تعالى ، فلا معنى لموسى أن يستنكر صنيع العبد . فإذا كان كذلك : فهل يمكن أن يجرب الله تعالى كليمه مرة أخرى ؟ والأنبياء فضلا عن الرجال الأشداء يتكاملون مع تقدم تجاربهم ، فقد قال لإبراهيم عندما طلب منه أن يريه كيف يحي الموتى وهو سؤال غريب من خليله ،فقال له تعالى "أو لم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" . و مر الكليم بمواقف أشد من مواقفه مع العبد الصالح ، فاتهم بقتل الرجل في زمن فرعون ، ولم يقتله عمدا ، وإنما دفاعًا ، تماما كقتل الغلام الذي قتله العبد الصالح (الخضر) من غير جرم ، فمما لا شك أن قتله أحدث ضجة عند أهله ، وربما طوردوا . أيضا هو لم يطلب أجرا من البنتين عندما سقى لهما ثم تولى للظل وقال " إني لما أنزلت إليّ من خير فقير" ثم جاءت على استحياء لتقول له إن أبيه يريده ليجزيه ما فعله ، وفي قصة الخضر نجده يطلب الٌأجرة قال "لو شئت لتخذت عليه أجرا" .
الثامنة : الوثائق التاريخية بشهادة القدماء من المفسرين ومنها :
ذكروا أن الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصْبا هو ما ذكره ابن حجر بأنه ( هُدد بن بدد أو منولة بن الجلندي ببن سعيد الأزدي ) . وكلاهما لا تربطهما أي علاقة زمنية بالنبي موسى الكليم .
فالأول : يقول عنه ابن حجر : لا يصح ؛لأن هدد ملك من ملوك حمير زوّجه سليمان النبي بلقيس . أو يحمل على تعدد الأسماء . (15)
وأما الجلندي : فهو ملك من ملوك عمان ، فبالرغم من الخلاف إلا بين الاسم واللقب ، إلا أن الجلندي ليس من الملوك الذين حكموا بلاد الشام فضلا عن سيناء . (16)
وقال الميداني في الأمثال (أظلم من الجُلندي) وهو مثل من أمثال أهل عمان . (17)
أما الآخر (هدد) وهو ملك موآب مقابل القسم الشرقي من البحر الميت من مملكة الأردن اليوم ، لكن بعض الباحثين يرفض أن يكون هو المعني في القصة (ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) بل أن الجلندي هو المقصود كما عليه الكثير من الباحثين يقول بعد " التمعن في الوصف الجغرافي لبلاد موآب وفي موقعها حسب ما هو موضح في الصورة نستنتج ان موقعها الجغرافي ليس ذا اهمية بحرية ولا يقع على خط الملاحة البحرية التجارية وخصوصا قديما حيث لا يوجد منفذ بحري ليصل البحر الاحمر (القلزم) بالبحر المتوسط .كانت الطريق البحرية التجارية تمر عبر موانئ الخليج، العربية والفارسية او ميناء قنا في بحر العرب او عبر عدن ومواني بحر القلزم بشقيه ومن ثم تنقل البضائع برا عبر العراق وفارس و البحرين وعمان وحضرموت وشبوة الجزيرة وسواحل شرق افريقيا، او تتجه السفن البحرية غربا مرورا ببحر العرب لتدور حول راس الرجاء الصالح في افريقيا وهذه طريق طويلة و محفوفة بالمخاطر. ويستنتج من ذلك ضرورة مرور السفن البحرية اما سواحل عمان (ظفار وصحار) التي يسيطر عليها الجلنديون" . (18)
وهذا يشهد له الروايات الكثيرة التي تذكر أن الرحلة لم تكن قصيرة ، وكانت تسير عبر معابر وقناطر كقوله (حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر ) . (19)
ولذلك كثرت الآراء حول (مجمع البحرين) لتدل على أن المنطقة ليست غريبة من سيناء أرض التيه ، كما في روح المعاني . (20) وفي رواية الصادق عليه السلام أنها أذربيجان . (21)
وأيضا من الشواهد التاريخية أن المدينة التي ذهبوا إليها كانت الناصرة ، وهي مدينة تنسب للنصارى ، والمدينة لم تكن معروفة في العهد القديم ، واشتهرت عند ولادة المسيح وذاع صيتها . حتى مع اكتشاف بقايا عظام بشرية فهي فترة لما قبل النبي موسى عليه السلام . (22)
وأغلب الأماكن التي ذكرت في سفر الخروج رحلة الإسرائيليين من مصر على فلسطين فكانت " 50 مكانًا مر عليها العبرانيون في أثناء رحلتهم إلى أرض الميعاد في فلسطين، والملاحَظ أن غالبية تلك الأسماء غير معروفة الآن ". (23)
بقي أن نرجّح أن موسى في القصة الواردة هي ليست لكليم الله تعالى ، وأحتملُ بقرينة العطف والتوسط بين قصة الكهف تتكلم عن أناس بلغوا درجة التقوى أو أنهم أنبياء مختلف فيهم ، بين قصة ذي القرنين المختلف فيه أيضا ، ولو أراد القرآن الكريم موسى الكليم لذكر قرينة كأن يقرنه بقومه أو بوصف له .
فأما أن يكون هو ما ذكره علماء أهل الكتاب صحيح أنه أحد أسباط النبي يوسف الصديق ، وذلك لكثرة من تسمى بموسى بن عمران في الفترة الواقعة بين يوسف وموسى الكليم ، في رواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن يوسف ابن يعقوب صلوات الله عليهما حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلا فقال: إن هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب وإنما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران عليه السلام، غلام طوال جعد آدم. فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمى ابنه عمران ويسمي عمران ابنه موسى". (24)
وأظن – ولا دليل على ذلك – أن القبر الموجود في عمان هو قبر ذلك النبي الذي أنجب ابنا سماه بموسى ذهب إلى عمان ، بقرينة الجلندي السالف الذكر .
أو أن المقصود هو الكليم عليه السلام لكن القصة رمزية ، ولا علاقة لها بالواقع ، وأدلة ذلك كثيرة جدا ، من ذلك ن البحرين مجازان ؛لأنهما بحرا علم . ونستطيع أن نقبل الرواية عن الصادق عليه السلام يقول (إنما مثل علي ومثلنا من بعده من هذه الأمة...)
أو قول ابن طيفور الدامغاني أن هذه الأمثلة ذكرت لتذكير موسى بالنعم التي مر بها في حياته (خرق السفينة أي حفظه في التابوت وهو وليد – قتل الغلام أي قتل الرجل المصري – أجر البناء أي ما فعله بابنتي شعيب ) ورواية أنه جاء عصفور فأخذ بمنقاره من البحر ، فقال (العبد الصالح ) : ما علمي وما علمُك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر . (25)
وهناك رأي خطير ويحتاج إلى وقفة ، لحل الخلاف التاريخي في القصص القرآنية ، وهي أن القصة القرآنية وردت كما هي عن اليهود مثلا وربما تكون غير صحيحة ، فأوردها وأجاب عنها بحسب ما يعتقد بها الطرف الآخر ، كقصة أهل الكهف وذي القرنين وبقية القصص . فعدد أهل الكهف كان بالإمكان أن يذكر الرقم الصحيح ، لكنه أخبر نبيه بما اختلف فيه أهل الكتاب ما بينهم ، ولو قال بالصدق لكان فيه تكذيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد لاقى هذا الرأي في عصره معارضة شديدة من قبل الأزهر ، يقول خلف الله صاحب الرأي :" ولاحظتُ أن القرآن لم يقصد إلى التاريخ من حيث هو تاريخ إلا في النادر الذي لا حكم له وأنه على العكس من ذلك عمد إلى إيهام مقوّمات التاريخ من زمان ومكان ومن هنا تبيّنت أن القوم قد عكسوا القضية حين شغلوا أنفسهم بالبحث عن مقوّمات التاريخ وهي غير مقصودة وأهملوا المقاصد الحقيقية للقصص القرآني .ولو أنهم شغلوا أنفسهم بتلك المقاصد الحقة لأراحوا أنفسهم من عناء كبير ولأبرزوا الجوانب الدينية والاجتماعية من القصص القرآني إبرازا ملموسا يثير المشاعر والعواطف ويؤثر في العقول والقلوب ،وعند ذلك كانوا يمكنون للدين وقضاياه ويسيرون وهدى القرآن الكريم ". (26)
ولمخافة التطويل ولعلنا نوفق في مقالات أخرى أن نضيف قرائن أخرى : مقارنة بين الخضر وبين ذي القرنين ، الحديث عن عين الحياة ، الملك كورش الفارسي . فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يلهمنا للصواب في الدفاع عن الأنبياء والإسلام .
الهوامش :
(1)القرينة عند الأصوليين وأثرها في فهم النص ، محمد قاسم الأسطل ص13
(2)أصول الحلقة الأولى مبحث حجية الظهور ص90-91
(3)دلالة السياق في توجيه المعنى البلاغي حسب نظرية فيرث ، أحمد محمود ،ص379
(4)تفسير الأمثل ج 9ص 217
(5)https://www.facebook.com/JewishFaith/posts/837222466340742:0
(6)لماذا حذف اليهود قصة موسى والخضر من التوراة ؟مصطفى الهادي https://www.kitabat.info/subject.php?id=50755
(7)الكشاف ، الزمخشري ج24ص956
(8)مجمع البيان ، الطبرسي ج6ص420
(9)قصص الأنبياء والمرسلين ، نعمة الله الجزائري ص434
(10)الشافي في شرح أصول الكافي ج9 كتاب فضل القرآن حديث (3)ص180
(11)فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب التفسير ج2كتاب التفسير ص788
مستدركات علم رجال الحديث - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج ٨ - الصفحة 91 رقم الترجمة 15656
معجم رجال السيد الخوئي ج 20ص 202رقم الترجمة 13144
(12)الجرح والتعديل لأبي محمد عبدالرحمن الرازي (ت327هــ) ج8ص575ترجمة 15617\2310
(13)من هو فرعون موسى ؟ د. رشدي البدراوي ص1069
(14)قصص الأنبياء للسبحاني ج2
(15) فتح الباري ج2ص791
(16)https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2018-04-05-1.3229423
(17)مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد الميداني ج1ص446 مثل رقم 2373
(18)http://alwattan.net/news/9780
(19)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج2ص787
(20)ج16ص415
(21)بحار الأنوار ج13ص206 (22)https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D8%A9
(23)https://manshoor.com/people/history-israel-exodus-from-egypt/
(24)كمال الدين وتمام النعمة لابن بابويه القمي باب غيبة موسى ص113
(25)روح المعاني ج16ص415
بحار الأنوار ج13ص204-205
نفس المصدر ج13ص196
فتح الباري ج2ص787
(26)الفن القصص في القرآن الكريم ، محمد أحمد خلف الله ص36-37
جديد الموقع
- 2024-03-29 تنمية مهارات التعامل مع الآخرين.
- 2024-03-29 شجنة من نور محمد السبط المجتبى (ع) (في فلك حديث عالم الأنوار)
- 2024-03-29 هموم وتطلعات المرأة السعودية - في المجموعة القصصية « 10 أيام في عين قسيس الإنجيلي » لرجاء البوعلي ..
- 2024-03-28 نادي الباحة الأدبي يناقش (كينونه) كأول تجربة عربية لمسرح الكهف.
- 2024-03-28 البيئة تطلق خدمة الحصاد المجاني للقمح لمساحات 30 هكتارًا
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تطلق مشروع الحديقة المركزية على مساحة 15 ألف متر مربع السعودية الخضراء .. مبادرة تاريخية ملهمة لتحقيق المستقبل الأخضر العالمي
- 2024-03-28 جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تتصدر المؤشر الوطني للتعليم الرقمي في فئة (الابتكار)
- 2024-03-28 رئيس جمعيــة المتقاعديــن بالمنطقة الشرقية يقدم الشكر والتقدير لرواد ديوانية المتقاعدين
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية تعافي
- 2024-03-28 نائب أمير الشرقية يطلع على برامج جمعية ترابط