2010/08/13 | 0 | 2279
هوامش تدقيقية على دعوى التزوير في حديث الكساء (9)
إن عدم التفطن بخصائص النسخ والنساخ والنسخة في عالم التراث قد يؤدي إلى نتائج فكرية وخيمة الشيء الذي وجدناه مع الشيخ حسين الراضي (أختار الله لنا وله من فضله العميم الواسع) لنستمع إلى حلقة حوار جديدة في موضوع حديث الكساء.. في الحلقة المتقدمة من الهوامش تأكد لنا أن أختلاف نسخ الطريحي بالزيادة والنقيصة لا تشمل حديث الكساء على كثرة انتشارها في العالم الإسلامي الشيعي حيث أن هذا الكتاب كان يعد من أفضل مناهج التعليم لدى الكتاتيب.. وأن حديث الكساء موجود في جميع نسخه ولم ينقص إلا في بعض النسخ الفرعية وليست للمنتخب بل لمنتخب المنتخب بل لو نقص في نسخة أو نسختين و أثبت في أكثرها لكفى ذلك.. وقد تبقى علينا جزء من الحديث فيما يخص كتاب المنتخب أيضا..
هل الحديث المرسل لا قيمة له؟
لقد أبدى الشيخ المحترم رأيه في الحديث المرسل عندما كان يتحدث عن كتاب المنتخب للطريحي فقال في ص6 من الحلقة الثالثة: "" وعلى فرض صحة النسبة إلى الكتاب فأول ما يطالعنا في هذه الرواية أنها مرسلة ولم يذكر الطريحي سندا لها بل بداية ذكر أنه روي عن جابر فيسقط ولا قيمة له ""!!
التعبير بعدم القيمة ليس علميا:
ما عرف لدى العلماء هو التعبير بعدم الحجية وفرق بين نفي الحجية عن الخبر المرسل ( الذي هو درجة من درجات الضعيف) وبين نفي القيمة ولا أدري لما عدل الشيخ الكريم عن مصطلح العلماء الأعلام من الشيعة والسنة إلى هذا الاختراع الجديد ؟!
يقول العلامة المامقاني: "" أنه قد وقع الخلاف في حجية المراسيل على قولين أحدهما الحجية والقبول مطلقا إذا كان المرسل ثقة وهو المحكي عن .... ثانيهما عدم الحجية وهو خيرة جمع كثير من أصحابنا..."". (مقباس الهداية:1/ 341)
فحديثهم عن المرسل في تبين الحجية من عدمها وليس القيمة من عدمها..
ومهما يكن من شأن فإن نفي القيمة عن الحديث المرسل من مختصات الشيخ الراضي (سامحنا الله وإياه) لأنه متأثر بهاجس الكذب والوضع فكل خبر ضعيف أو مرسل فهو مظنة للكذب والوضع على أهل البيت عليهم السلام سيما إذا رأها في باب الفضائل، ولكن يأبى هذا العلماء من الشيعة والسنة على السواء وذلك لأن عدم صلاحية (حجية)الحديث للتشريع واستنباط الحلال أو الحرام من جهة ضعفه لا يعني أنتفاء صلاحيته من كل شيء..
أوليس من المرسل ما يطابق في معناه مسانيد صحيحة وثابتة ؟
أوليس من المرسل ما يعطي فائدة الموعظة والنصيحة في الدين بوجوه توافق العقل بحيث لو لم يروى لنا لاستغل العقل في صنع افتراضات و مواعظ قريبة من مضمونه.. فقابليته للموعظة نوع قيمة يجب أن يلتزم بها الشيخ الكريم قبل أن نلتزم بها نحن؛ لأنه هو الذي جعل الميزان عبارة عن القيمة وليس الحجية فقط ؟
ومرة أخرى:
أو ليس من المراسيل ما هي مسانيد في أصلها حذفت اسانيدها لطريقة يراها الأوائل ككثير من مراسيل الشيخ الصدوق والمفيد في بعض كتبه حتى أنهم يرسلون الحديث عن رسول الله أو أحد ذريته الطاهرين بلفظ (قال) لا بلفظ روي .
فصار من رأي بعض العلماء الفرق بين اللفظين وأن المحدث إذا أرسل بلفظ قال فهو جازم بصحة الحديث بخلاف ما لو أرسل بلفظ روي ..
أوليس من المراسيل والأخبار الضعاف ما توافقت وتصادقت مع التقدم العلمي والازدهار الحضاري ككثير من الأحاديث الطبية عن النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين؟
يقول الفقيه البصير بثقافة زمانه الشيخ محمد أمين بن زين الدين في حق بعض مرويات الأطعمة والأشربة والتي هي ضعيفة في سندها:
"" إنها علم من أعلام الإمامة والخلافة الحقة للنبوة لأنها تتحدث عن السم في الثمرة غير المغسولة أو تنهى عن تقشير الثمرة لأن القشر هو الموضوع الذي تتركز وتكثر فيه العناصر النافعة في الثمرة وأن هذه كلها حقائق دل عليها العلم بعد أن تقدمت كشوفه ونظرياته ولم تكن معروفة كذلك""(كلمة التقوى ج7/ 147).
أوليس من المراسيل ما يعين على فهم الأحاديث الصحيحة ؟
فالقول بأنه مرسل لا قيمة له تسوية للحديث المرسل بالحديث المطرح من قبيل ما خالف الدليل القطعي، بل وتسوية له بالحديث المتروك أيضا وهو الذي يرويه من يتهم بالكذب ولا ياتي إلا من طريقه وغير ذلك ..
فلو أن جناب الشيخ ألتزم بالمصطلح أو حدد لنا ولم يطلق في العبارة لأغنانا عن محاكمة ظاهر كلامه وإطلاقه الذي هو من أخطر الأساليب على ذهنية المثقف الجديد والقارئ في أوليات طريقه !!
غرر الأخبار للديلمي
وفي الحلقة الرابعة من سلسلته (حديث الكساء بين التواتر والوضع) قدم بحثا مفصلا حول الديلمي تناول فيه عناصر كثيرة ليس لها أرتباط مباشر بموضوع حديث الكساء وإنما كان يسعى لتحديد عصر الديلمي حتى يتمكن من إثبات أقصى نقطة تأريخية لرواية حديث الكساء المعروف .
والعناصر التي بحثها هي:
1 هويته .
2 عصره والاضطراب الذي حصل في تحديده.
3 نسبة بعض الكتب له كالجزء الثاني من إرشاد القلوب وقد سال البحث بين يديه في هذه النقطة وكنت كلما أرتقيت في السطور أرتقى بي التعجب فأي صلة لهذه النقطة ببحثنا وأي ثمرة يبحث عنها الشيخ الكريم ؟
حتى وصلت إلى نهايته عندما ذكر أن في هذا الجزء من إرشاد القلوب ما يدل على أنه من أهل القرن الثاني عشر الهجري وهو خلاف ما أثبته من أنه من القرن الثامن ( وبيت النظم ) فيما قاله بعد ذلك برقم (2):
"" وهو أن الكتاب يحتمل أن يكون للديلمي ولكن يد التحريف الأثيمة قد اصابته كما أصابت غيره ومنها حديث الكساء "" !!!!!
هكذا يتبين لنا غلبة شبح الوضع والتزوير على عيني الشيخ الراضي (تجاوز الله عنا وعنه) وتأثيرها على وعيه بشكل يزعجه ويرعبه حتى لو كانت دواعي الخوف غير عقلائية ؟!
فقد مر الشيخ الراضي بنقاط تدل على أن الجزء الثاني ليس للديلمي صاحب الغرر وأنها قد جعلت هذا الأمر واضحا للعلماء المتتبعين من أمثال صاحب الرياض والروضات والأعيان ...
وتلك النقاط هي:
1 أن أبواب الكتاب (أرشاد القلوب ج2 ) المذكورة في خطبة الكتاب أنتهت بانتهاء الجزء الأول.
2 أنه نقل عن رجب البرسي من أعلام المائة التاسعة أي بعد الديلمي.
3 ان أسم الكتاب يدل على أنه في المواعظ خاصة بينما الجزء الثاني جاء في المناقب.
4 أنه قد أرجع في موضع منه إلى المجلسي والسيد هاشم البحراني وهما من أعلام القرنين الحادي عشر والثاني عشر .
فما أنتهى إليه الأعلام المذكورون من أن الكتاب لا يمكن أن يكون للديلمي صاحب غرر الأخبار نتيجة طبيعية لملاحظة هذه النقاط العلمية.. إلا أن الشيخ الراضي أضاف مدفوعا بهواجسه المرعبة أحتمال أن يكون الكتاب له وأن أيادي الوضع والتزوير قد أصابت منه ؟!
علما بأن الخطأ في نسبة بعض الكتب إلى غير أصحابها ليس أمرا عزيزا في السابق ومن يراجع إلى موسوعة الذريعة إلى تصانيف الشيعة أو تأسيس الشيعة للسيد حسن الصدر أو غيرها من سائر كتب الفهارس الحديثة والقديمة يجد ذلك بوضوح، فلماذا يصر الشيخ الراضي على إلصاق تهمة الوضع هنا وهناك ؟!
ولعل الشيخ كان سينتهي هو الأخر إلى ما تولد في ذهن المحققين المشار إليهم لو أن نظره كان مقصورا على الملاحظات المرفقة هنا ..
ولكن يبدو أنه (سامحه الله ) اسس أحتماله هذا على ملاحظة خاصة به لم يصرح بها وهي طبيعة المناقب المساقة في هذا الكتاب مما لا يروق لذائقته الشيء الذي سيتكرر مع كتاب غرر الأخبار حيث أنه لم يستطع كتم مشاعره عندما قرأ بعض الأخبار الموجودة فيه من فضائل علي عليه السلام فانتفض لذلك وقال إن فيه أخبار شاذة غريبة تنحط بمستوى الكتاب سنعود للتأكيد على ذلك في نهاية هذا المقال إن شاء الله !!
4 منهجيته في التأليف.
5 التعريف بكتاب غرر الأخبار.
وهذا كله لا يعني شيئا في المهمة التي نستقبلها بالبحث ويخصنا من كل كلامه ما جاء منه بعد ذلك:
قال في ص 26 من الحلقة الرابعة حسب تسلسله: "" بعد التهويل والترويج لحديث الكساء الموضوع وأنه موجود في كتاب غرر الأخبار وصرح البعض أنه مسند فيه وغير ذلك تبين ما ذكر خلاف الواقع ""..
بهذا يكون قد تنبه الشيخ الراضي إلى أن البعض أدعى وجود حديث الكساء مسندا وهو ما نقله العلامة الطهراني في الذريعة ولا بأس بنقله هنا لتعرف مواضع التعليق فيه :
"" عجالة الراكب وقناعة الطالب في المناقب فارسي للمولى محمد حسين بن محمد مهدي الكرهرودي السلطان آبادي المتوفي بالكاظمية في 1314هـ كتبه بأمر السيد علي البجستاني وهو معجل عازم على السفر مرتب على مقدمة في فضل العلم والعلماء وأبواب وفصول في فضائل الأئمة عن كتب العامة وذكر احوال بعض الصوفية وعلماء العامة وجملة من المواعظ والأخلاق موجود بخطه في مكتبة الطهراني بسامراء... ذكر فيه أنه رأى حديث الكساء مسندا مع أختلاف في متنه في كتاب غرر الأخبار للديلمي وذكرت إسناده في كتابي الفلك المشحون وكتابي الآخر منتهى الوصول إلى علم الأصول "" (الذريعة ج:16/ 36).
وهنا وجوه للمناقشة:
1) أن الشيخ الراضي وحتى يخرج بهذه النتيجة وهي الجزم بعدم وجود الحديث مسندا في كتاب الغرر أكتفى بنسختين من الكتاب اعتمد عليهما محقق الكتاب وهي نسخة جامعة طهران ونسخة السماوي كما صرح بذلك في ص 24 من الحلقة الرابعة وانه قد رأى ذلك كافيا بالنسبة له ..
2 ) أن الجزم بالواقع بالنسبة للشيخ الراضي (نسأل الله لنا وله من حلمه) يكفي له أن تخلو نسختان عن الإسناد وأن ذلك الجزم القاطع غير قابل للتراجع إلى درجة الظن المقبول 60% فما فوق، أو الإحتمال 50% فما دون حتى مع ظهور شهادة حسية من عالم جليل يحكي فيها رؤيته المباشرة للإسناد في نسخة من نسخ كتاب غرر الأخبار وأنه قام بنفسه بنسخ ذلك الإسناد ووضعه في كتابين من تأليفاته وهما الفلك المشحون ومنتهى الوصول إلى علم الأصول ؟!!!
وبهذا يكون الشيخ المحترم قد خرم قاعدتين من قواعد أصول البحث العلمي ..
القاعدة الأولى عامة وهي: (رأيي صواب ويحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ ويحتمل الصواب) فإنه جزم بالواقع بالرغم من شهادة عالم عظيم برؤيته المباشرة للإسناد و هذا ما يجعلنا نقرأ القاعدة بطريقة عكسية (رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب ) !!
القاعدة الثانية خاصة ببحث الروايات والنسخ وهي:
أن الرواية إذا رواها راويان فأكثر أو الكتاب نسخه ناسخان فأكثر وجاء في أحد طرقها أو نسخها زيادة فإن الأمر هنا سيدور في ذهن القارئ والمتتبع بين الزيادة والنقصان ولحل هذه المعضلة ذهب معظم العلماء إلى أن الأصل الذي يجب التمسك به وتحل المشكلة بموجبه هو الحكم بعدم الزيادة لا بعدم النقيصة
وذلك لثبوت العادة بين عقلاء الناس في أن المتكلم والناقل لكلام غيره رواية كانت أو كتابة قد ينقص حتى لو كان ثقة مؤمونا لأن الإنقاص يكون لأغراض كثيرة لا تنافي الأمانة:
مــــنها: الإختصار والإعجال.
ومـــنها: النسيان .
ومــــنها: عدم حاجة الرواية إلى الإسناد سيما وأن الرواة كلهم أو جلهم ممن يؤمن بأن روايات المواعظ والمناقب لا تتوقف على الإسناد.
ومـــــنها: سقوطه فيما سقط من نسخة الأصل بحيث تكون أكثر النسخ الواصلة إلينا منسوخة على النسخة الناقصة وهذا لا يمنع من أن يكون هنالك ما نسخ على النسخة التامة أو الأتم .
فانظر أيها القارئ اللبيب إلى دقة العلماء الأعلام واكتشافهم لهذه الوجوه التي تفرض نفسها على كل من يعترف على نفسه بأنه لا يملك من الغيب شيئا وعلى كل من لا يشرع لنفسه التكهن والتخرص بما هو محجوب عنه كيف جعلتهم ينتهون إلى هذه النتيجة وهي:
حمل الرواية (أو النسخة ) الناقصة على الزائدة ..
ولكن هذه القاعدة المستساغة أنقلبت هي الأخرى بين يدي الشيخ الراضي وتمكن من أن يتكهن بالواقع من خلال نسختين فقط وطبعا أحداهما لا تعد إلا بنصف نسخة لما أعترف به من ابتلائها بالنقص والتحريف والتصحيف وغير ذلك ...
كما مكن لنفسه أن يضرب بشهادة عالم يسبقه في البحث بأكثر من مائة عام تقريبا عرض الجدار (1)!!
ولو أن جناب الشيخ عبر بالتوقع لا بالواقع لأوصل القارئ إلى هذه النتيجة وهي:
ان دعوى الإسناد في كتاب غرر الأخبار ما هي إلا أحتمال لا يمكن التعويل عليها كما لا يمكن رفضها..
إلا أن الشيخ الراضي (سامحه الله) لا يرضيه التصريح بعدم الوثوق بوجود سند فقط ؛ لأن النتيجة ستكون هي الضعف والإرسال لا أكثر بل أنه يجتهد أن يثبت الوضع والتزوير مهما بلغ أو بالغ في الثمن ؟!؟!!
وآيـــــة ذلك:
أنه كان يستدل على الوضع والتزوير بما ظن أنه خلل في السند المروي عن صاحب العوالم ..
ولما جاء إلى رواية حديث الكساء في منتخب الطريحي رأى أن ما قام به من تثبيت للوضع في رواية العوالم لإشكاليات في السند سيبطل بوجود نص الحديث في كتاب المنتخب بدون سند فقام بجعل علامة جديدة للوضع في كتاب الطريحي وهي أن الرواية لا يعقل أن تبقى حبيسة سجينة الصدور ثم تخرج بعد ألف سنة وغير ذلك مما توهم أنه أختلاف في النسخ وقد أجبنا عنه ..
ولما جاء إلى كتاب الغرر رأى أن حجته التي ركب بها دعوى الوضع في كتاب الطريحي ستبطل أيضا لأن هذا الكتاب يروي الحديث في القرن الثامن أي قبل الطريحي بأكثر من 200 سنة ( 750 - 1000 ) (2)فجاء بعلامات أخرى ليثبت بها الوضع أحدها عدم الإسناد !!
وكلي أمل في أن يتفهمني الشيخ الحبيب فلست أسعى للجناية عليه ولا لمحاكمة نواياه ولكنها ملاحظات على ظاهر كلامه و طبيعية أسلوبه ولا زلت أطمع في أن يتقبلها مني بصدر منفتح ٍ ومزهو ٍ بزهو ِ الإيمان الذي هو غايتنا المنشودة إن شاء الله تعالى .
وبعيدا عن موضوع السند فقد سجل ملاحظات أخرى على الرواية من كتاب غرر الأخبار .
قال ص 27 من نفس الحلقة: "" أن هذا المقطع موجود في نسخة جامعة طهران المرموز لها في المطبوعة بـ(م) فقط أما نسخة السماوي فلا يوجد فيها هذا المقطع أساسا "".
لكن ما يجب أن نعرفه ايها السادة هو أن السقط والإسقاط أمر مألوف في عالم النسخ سواء في هذا الكتاب أو غيره وأنصح القارئ الواعي بأن يتصفح مقدمات محققي الكتب التراثية ليرى معاناتهم وأن من أشباه مشكلة كتاب غرر الأخبار الكثير و ليس شيء تفرد فيه ليكون سقط حديث أو مورد عن نسخة من نسخه علامة على أنها جاءت من يد وضاع محترف !!
بل إن كثرة هذه المشاكل مع النسخ جعل الكثير من محققي نصوص التراث يتواضع أمام القراء ويفطنه بمشاكل النسخ التي بين يديه وأنه ربما كان الأفضل منها موجودا ولم يظفر به لقصور في فرص البحث المتاحة له . .
فمحقق كتاب عوالم العلوم مثلا (حسب ما نقلنا في الهوامش الماضية) أشار إلى تواضع جهوده وأنها أقل من أن تعرض حقيقة الكتاب لما اشار إلى أن ثمة نسخة هي أمثل وأكمل مما في يده كانت في يزد ولم يعثر عليها ..
وهكذا محقق كتاب غرر الأخبار (الذي ندور في فلكه) فإنه بعد أن اصطدم بإشكاليات كثيرة على مستوى النص والعبارة في النسختين اللتين بيده قال متواضعا:
"" ... على أمل أن يأتي اليوم الذي تصل فيه إحدى نسخ هذا الكتاب بدرجة أعتبار عالية وأكثر تكاملا من النسختين المعول عليهما في هذه الطبعة فيقوم أحد المحققين البارعين بأداء مهمة ..."" (غرر الأخبار 25).
فمواقف محققي التراث وأتزانهم يدل على أن التروي وعدم سرعة الجزم هي سمة من يريد ان يحقق نصا من النصوص، أو يريد أن يبني على وجود شاهد من عدمه، فما بالك إذا توفر خبر عن وجود نسخة فيها ما يميزها عن النسخة المتوفرة أليس من توخي الحقيقة أن نتواضع في علمنا ونترك أسلوب الجزم والقطع الذي يجرنا إلى أراء تحكمية محضة في تراث غيرنا ؟!!
ماذا نستفيد في المعنى من قول الديلمي " أنهم ذكــروا... " :
وقال الشيخ الراضي ص 28:"" أن قوله (حتى أنهم ذكروا...)الضمير لمن يرجع هل يرجع إلى العلماء والأدباء الذين نقل أقوالهم وأشعارهم قبل هذا المقطع أو يرجع إلى أهل البيت؟ "".
إن إبراز الشيخ الراضي (عاملنا الله وإياه بلطفه) لاحتمالية أن يكون الضمير راجع إلى الأدباء يأتي في سياق استخفافه العجيب بحديث الكساء المشهور.. ولو لم يكن فيه من شيء إلا استنقاص قدر المؤلف الجليل لكفى حيث نزله منزلة من يحشو الرواية حشوا فلا يفرق بين الرواية التي تأتي من طريق الأدباء وتلك التي تأتيه من طريق العلماء ؟!!
ولهذا تعالى يا قارئي الكريم لنعيد قراءة هذه المفردة (ذكروا...) بعيدا عن طريقة الشيخ الراضي:
* إن ضمير الجمع يفيد بشكل واضح أن الشيخ الديلمي اطلع على الحديث في أكثر من مصدر مما يعني أن الحديث ومتعدد المأخذ فهل يعقل أن تكون كلها أدبية ؟!
* كان على الشيخ الراضي أن يتنبه بعد تصدير الديملي روايته بـ(ذكروا) إلى أن الرواية لم تأتي بعد ألف عام بل ولا ثمانمائة عام فإن هذه التعبير يفيد أن المسألة سابقة حتى على الشيخ الديلمي فكان ينبغي أن يشير إلى ذلك أو يتنازل ( فداء للموضوعية) عن كلمته المتقدمة في أن الحديث لم يخرج إلا بعد ألف عام !!
* إن التعبير بـ(ذكروا) لا تعني التقليل من شأن الرواية بل تفهمنا أن هذا الخبر مأخوذ عن أرباب المناقب والعلماء سيما وأنه يكثر من التعبير عن النسبة بـذ ُكِـرَ تارة، ومذكورة ثانية، وذكروا ثالثة ومذكور أخرى بدلا من روي أو رووا أو مروي مثلا وهذه نماذج:
1 قال في ص 86 (الفصل السادس في مناقب منثورة مذكــــورة).
2 ويقول في ص 240 : ( ذكــــر هذا الحديث جماعة من العلماء).. فحينما يقول حتى أنهم ذكروا .. نفهم أن المقصود هم العلماء !
3 ويقول في كتابه أعلام الدين ص 80 : "" ولم ألتزم ذكر سند أحاديثها لشهرتها في كتبها المصنفة المروية عن مشايخنا ... و أشير عند ذكر كل حديث مذكـــــور أو أدب مسطور إلى كتابه المحفوظ منه المنقول عنه إلا ما شذ عني من ذلك "".
فالعبارة حتى لو لم تكن محددة المعنى في نفسها ولكنها تنصرف إلى العلماء لقرائن كثيرة: 1 - أن الكتاب كتاب أخبار. 2- وبقرينة أن الناقل أحد العلماء الكبار المتمحضين في الأخبار. 3- وأن هذا المحمل هو الذي يليق بشأنه كعالم من كبار أصحابنا كما يصفه المجلسي . 4- أن النماذج السابقة قد ألهمتنا بأن التعبير بذكر يذكر مكان روي يروى أسلوب ظاهر على الديلمي؟؟
الأغلاط النحوية :
مما يعرفه كل المتتبعين والدارسين للنصوص التراثية أن الكتاب المزمع تحقيقه سواء كان كتاب أخبار وآثار أو كان في المادة التأريخية أو غير ذلك فإن أول عمل ينتظره هو تقويم نصوصه و إصلاح أخطاءه لإن الكثير من النساخ لم يكن من أهل العلم بل حتى لو كان فقد يفوته الشيء الكثير من وجوه الإعراب الصحيح نتيجة العجلة لدى الناسخ ..
وبما أن الكثير من القراء لم يمر بهذه المرحلة فأريد أن أنقلكم إلى بعض النماذج..
أ ) يقول محقق كتاب وجوه القرآن لأبي عبد الرحمن النيسابوري ويبين لنا أن الناسخ قد يتسبب اضطراب مزاجه في الأغلاط و الإبهام وغير ذلك يقول:
"" النسخة الرامبورية... كتبت بخط النسخ الواضح بالمداد الأسود ... ويبدو من الكتابة أن الكاتب بدأ ينسخ على مهل ثم أسرع في النصف الأخير حيث أنه أهتم أقل مما سبق كما ترك بعض الكلمات غير واضحة ومبهمة وفيها أغلاط قليلة..."" (وجوه القرآن: 43).
ب ) وأما السيد احمد الحسيني في تحقيق كتاب الذخيرة للشريف المرتضى يضيف لنا معلومة جديدة في عالم النسخ والكتابة وهي أن النسختين وربما الأكثر قد يتفقان في الأخطاء والردائة لا لأن المصنف كذلك بل لأن النسختين يشتركان في النقل عن نسخة واحدة ردئية غير نسخة المصنف أو ما قوبل على نسخة المصنف !!
يقول:
"" نكاد نعتقد أن النسختين المذكورتين كتبتا من أصل واحد أو ترجعان إلى أصل واحد فإنهما تشتركان في كثير من الأخطاء والتصحيفات والإبهام في بعض الكلمات بالإضافة إلى الأخطاء الحادثة نيتجة عدم معرفة الناسخين بما في الكتاب من الوجهة العلمية "" (الذخيرة في علم الكلام: 64).
ولكن الشيخ الراضي (من الله علينا وعليه بما هو أهله) مؤمن بفكرة الوضع في هذا الحديث إيمانا أنساه أبده الأمور و أوضحها لدى عامة المحققين والدارسين للنسخ فقد رأى أخطاء نحوية ولكن بدلا من أن يقول فلعل الناسخ من العوام . . قال فلعل الواضـــــع من العوام الذين لا يجيدون اللغة العربية ؟!!
إليك كلامه في ص 28 حرفا بحرف :
"" إن هذا المقطع يحتوي على أغلاط نحوية "" ما خلقت سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا قمر يسري ولا فلك يجري إلا لأجل الخمسة الذين تحت الكساء فلعل الواضع من العوام الذين لا يجيدون اللغة العربية "" !!
أتأذن لنا يا شيخ أن نسألك :
لقد جاء الحديث خاليا من الأخطاء النحوية في موارد أخرى منها المنتخب للطريحي و حاشية كتاب العوالم وغيرها من المصادر التي سوف ننقلها إن شاء الله تعالى فهل معنى هذا أن الواضع الذي كان من العوام تعلم بعد ذلك وأصلح الأخطاء؟!!!!
لقد رأينا في بحثك حول حديث الكساء أخطاء نحوية وسقطات وتبديل في الحروف تخل بالقواعد الإملائية فلم نلتفت إليها بل أعتذرنا لك وبكل سعادة وتلقائية أن هذا مما يزيغ عنه البصر ولا يلتفت إليه النظر ولم نجد وجها لتأويل الأخطاء بما يسيئ إليكم حاشا لله بالرغم من أنكم تشبعون مقالاتكم تحقيقا وتدقيقا وليدة تجاربكم في التعامل مع المطابع قديما وحديثا!!
بل الأخطاء موجودة حتى فيما أكتبه أنا إليكم وطالما ألتفت إلى بعض أخطائي التي تحصل عن الجعلة بنفسي ولكن بعد بث المقالة ونشرها فأقول معتذرا إنها إن شاء الله لن تخفى على القراء إذ غالبيتهم من خريجي الثانوية أو الجامعة أو الحوزة وسيغفرونها لي غفر الله لهم . .
بل إن بعض كتب الأدب أفردت فصولا تتندر فيها بحكايات التصحيف والتحريف والأخطاء المضحكة التي جرت على الكتب والمصنفات . .
قيمة كتاب غرر الأخبار:
اشتمل الكتاب على تحقيقات لطيفة ووجوه بديعة مما ميزه عن بقية كتب المناقب حيث أن غالبيتها تأخذ أسلوب السرد للرواية فقط ولا تتنوع مواضيعها إلا أن الديلمي أكثر من التحقيقات ووجوه النقد العلمي وراء بعض الروايات حتى لو لم يكن قد ذكر الحديث إلا إشارة ً كما جرى ذلك مع حديث أختلاف أمتي رحمة، وكذا في موضوع الوصية فقد ألقى تحقيقا دقيقا، وأيضا عندما توجه بالكلام على آية التطهير، كما أنه يشتمل على المحاججات والمناظرات القديمة بين الأمويين والشيعة والمعبرة عن حسن البديهة وسرعة الخاطر عند شيعة أهل البيت عليهم السلام القدامى ومنها ما نقله من كلامات الوافدين من بني هاشم على معاوية ومن أمتيازاته أنه نقل عن كتب مهمة قد أندثرت من قبيل كتاب السقيفة لأبي صالح السليل الذي ما كنا نحصل عليه إلا من خلال ما نقله ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة.
وأيضا فمن سمات الدقة لديه أنه حينما رأى أن الكثير من كتب المناقب لا تذكر بلاغة علي عليه السلام ضمن فضائله ومناقبه وتحت هذا الاسم بالذات ، فألتفت هو إلى ذلك وخصص لها الفصل الحادي عشر فقد ذكرها لبيان أنها من فضائل ومناقب علي عليه السلام أي أدرجها لهذا الغرض وليس لأن كتابه كتاب موعظة وإرشاد فقط كما يشعر بذلك توصيف الشيخ الراضي الذي ستقرأه في مقتبل الكلام !!!
وسمة أخرى وهي أنه وبعد أن وضع الفصل الرابع لمناقب تفرد بها علي عليه السلام وأنتهى منه .. رأى أن هناك أحاديث أخرى تدخل في نفس الفصل إلا أنها أقل منها وزنا من حيث السند والمشهورية فأملت عليه أمانته أن يفرد لها الفصل الخامس وقال في عنوانه: "" الفصل الخامس في معناه (أي معنى الفصل الرابع) ايضا وفيه نوادر غريبة ""..
إذن لم تقبل أمانته العلمية أن يجمع النوادر مع غيرها وإن كانت في معناها وهذا يعطي إشارة أخرى أيضا وهي أن حديث الكساء الذي نقله في ص 298 لم يكن من النوادر وإلا لما أدرجه مع سواه ..
ولكن كل هذه الموائز والفنيات التي وصفنا لكم بعضها تكاد تذهب عن فكر الطليعة المثقفة ويوشك كل منهم أن يجهلها في المصنف العظيم بسبب تقييمات الشيخ العزيز وطريقته في عرض هذا الكتاب إذ قد نزل بالكتاب إلى أدنى قيمة فهو يقول في ص 28 :
"" أن كتب الديلمي بشكل عام كتب للوعظ والإرشاد والنصيحة وبالأخص كتابه (غرر الأخبار) فهو أقلها مستوى لما فيه من الأخبار الشاذة الغريبة فلا تصلح أن تكون مصدرا للأخبار ... "".
وبطبيعة الحال فهو لم يبين لنا تلك الأخبار الشاذة وهل هي كثيرة أم قليلة وإذا كانت قليلة معدودة فكيف تكون قابلة بأن تنزل به ليكون أقل مصنفات الديلمي مستوى وشأنا وكيف لا تكون الموائز الكثيرة التي عددناها قابلة للارتقاء بمكانته ؟!!
إنه لموقف عجيب ..
ألجئتني هذه العجلة في التقييم إلى أن أقدم انطباعا دقيقا عن الكتاب عله يحافظ على قيمته وموضعيته الفكرية وإن لم نؤمن بكل أحاديثه إلا أن ذلك شأن آخر ..
ملاحظة للقراء:
ربما بادرناكم ببقية الحلقات . . وربما أخرناها عنكم إلى ما بعد الشهر الكريم لأنه شهر يجب أن يلبس كلُ شيء فيه ثوبَ العبادة حتى القراءة والكتابة فإن عدت إليكم قبل خروج الشهر المعظم فذلك بسبب الضغط الذي يمارسه عليّ بعض المؤمنين ممن يرغبني في المواصلة ويتشوق للوصول إلى نهاية السلسلة وإلا فموعدنا معكم بعد عيد الفطر إن شاء الله تعالى ..
وتحيتي للجميع في هذا شهر الفيوضات الدعاء
فحيوني بأحسن منها أو ردوها
جديد الموقع
- 2024-05-10 الأمير بدر.. الشاعر الذي منح موهبته الحياة كلها
- 2024-05-09 ما بعد الوظيفة (2)
- 2024-05-09 ناصر الجاسم.. في مجموعته القصصية «العبور».. القاص المسكون بهاجس من ذاكرته الشعبية.
- 2024-05-09 كيف يصرح الأديب بحبه
- 2024-05-09 (التعويض عن الضرر المعنوي في النظام السعودي)
- 2024-05-09 الدفاع المدني بمنطقة القصيم تكرم الإعلامي زهير الغزال
- 2024-05-08 جامعة الملك فيصل تشارك في مؤتمر ومعرض الشرق الأوسط لهندسة العمليات 2024 بالظهران إكسبو
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"
- 2024-05-07 الخريف يرعى تكريم اللجنة المنظمة للنسخة الثالثة لـ حرفيون
- 2024-05-07 ضمن برنامج الاحتفاء بأسبوع الأصم العربي ٤٩