2022/03/24 | 0 | 2287
مكنونات خزعلية
في الميزان الأخلاقي هناك مقادير خاصة ليست هي الغرامات ولا المثاقيل بل هي مقادير الحُسن فيكون للمرء حُسن العمل، وحُسن التعامل، وحُسن الصبر، وحُسن التدين، وحُسن التربية للآخرين، وحُسن الذكر ودواليك…
وقد كانت حوزة الاحساء الحديثة تزن بعض رجالها بالميزان الأخلاقي والروحاني الراجح ومن بينهم فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن سالم الخزعل"رحمه الله تعالى"، فقد كان هذا الرجل المتقوّم بالعلم والصلاح ذا شخصية متميزة بين أقرانه وليس من الشخصيات التي تضيع في بحر التشابه مع الآخرين، و من أدلة البيئة الاجتماعية على تميزه قياديته الواضحة في بلدة القارة الطيبة، فبالرغم مما لهذه البلد من خارطة اجتماعية يبرز فيها بعض البيوتات العريقة والتي حباها الله برجال العلم والخطابة، والادب، والأملاك، والوجاهة حد الكفاية، ما يجعل حاجة البلد الى الآخر مكفية طبيعيا بأبناء هذه الأسر الكريمة، الا أن الشيخ المغفور له حلّ بينهم محل الكريم المهاب والداعي المجاب..
العيشة المتواضعة:
حياته الشريفة ومعشره المبارك لا ينطق إلا بالبساطة والكفاف وعدم التلوث بأي محبة لعَرَض الحياة الدنيا، هذا على مستوى الماديات فيما تبقى هناك صفة خاصة ذات دلالة على التواضع كانت رأس مال القوة والنفوذ لدى طلبة الحوزة الدينية من نظرائه، وهي الاندماج التام مع المجتمع لا سيما الطبقة الكادحة و العامة، فقد كان لتوسط رموز الحوزة بين هذه الطبقة دور هام في تعزيز معنويات ذوي الحظ البسيط من التعليم والجاه والمال، والدور الأهم الذي لا يخطر على بال المختصين دعك عن الناس أنفسهم هو انهم يجسدون الحماية لهذه الطبقة التي تمثل غالبية المجتمع من أن تطمع فيهم الذئاب البشرية التي كلما همت بممارسة الاستضعاف والاستخفاف والابتزاز في الطبقة الأقل تفاجأت بأن رأت فيهم من يجب ان يؤخذ له حسابا خاصا!!
وممن مثل حالة الاندماج بصورته الرائعة و اللافتة هو الشيخ أبو عبد المجيد "رضوان الله عليه"، ومن بقايا الذكريات أني ربما رأيته في بعض من الأيام السحيقة يشارك الناس في المأتم الذي يغص بالمؤمنين ثم يخرج وخلفه موج وفوج يتبعه إلى مجلسه في بيته، لم يكتفوا منه ولم يلههم عنه دنياهم وعيالهم!
خريج الجامع الكبير:
لأيام الجامع بالشعبة ثقل روحي و انطباع نفسي يحس ولا يوصف وصورة الاستاذ والطالب الذين حضروا تلك الأيام صورة تطبيعية ونقية غير مفلترة، وهذا ما تنبئني به عواطفي، وشيخنا الخزعل هو أحد الرجالات الذين أقاموا رابطة الوداد العلمي مع هذا المكان الاشرف والأقدس من بين كل البقاع التي تتميز بالقداسة في الأحساء.
هناك الكثير ممن يدخل المسجد يوميا ويتفاعل مع الدرس إلا أنه قد لا يلفتك إليه، وبعضهم يلفتك بشكل طبيعي عندما يكون صوته عاليا يقهر أصوات من حوله اثناء إلقاء دروسه، ولكن ثمة رجل كهل يلفت الجميع إليه بأدواته السلوكية الجذابة ..
يأتي منها اختياره لمكان لا يتغير كل يوم وكأنه قد حجز له سلفا حيث يتكئ على الباب الألمنيوم الحاجز بين القاعة والساحة الخارجية للمسجد ويذود به ابنان صغيران حينها أكبرهم الشيخ محمد وأصغرهم الشيخ شبر الذي كان يمسك بالقلم والدفتر كثيرا، كأنما يحل واجبات حددت له سلفا من قبل والده.
ومنها: ما تراه من تحلق ثلة من الطلبة الشباب المبشتين نحوه يلتقون منه دروس الشرايع و الالفية.
ومنها: تعظيم طلبته له واستنصاحهم برأيه.. و انقل هنا موقفا ـ على ذمة الذاكرة البعيدة طبعا ـ أنني وأثناء جلوسي بالقرب من مجلسه وبينما أنا في انتظار أحد الدروس استمعت لبعض طلبته يتحدثون بينهم وكانوا ممن خاضوا تجربة الخطابة للتو واذا بأحدهم يقول للآخر لقد نصحنا الشيخ ابراهيم بأن نحفظ خطب نهج البلاغة أو قال شيئا آخرا يقرب من هذا.. وفي كل الأحوال فان الموقف يدل على حسن الإصغاء والعناية بكلام الأستاذ وهذا شيء لا يتحقق من فراغ وإنما هي بصمة الشخصية المؤثرة .
الشجاعة الأخلاقية:
وهذه الصفة لا تدّعى إلا فيمن يتفق الناس على أن صاحبها رجل حثحاث دائب في الحث على المعروف و ذو زجرة وجرأة مع المنكر يَقهر ولا يُقهر ! و قد كنت أجد في هيئة جلاسه تهيبهم منه شاهدا على ما حدثت به وسمعته عنه وإن لم أره بعيني.
وحقا إن الشجاعة الاخلاقية تجعل أنامل يد المؤمن قادرة على فك أنامل الخناقين الذين ينشبون أصابعهم في مجرى نَفَس من لا يطاوعهم ويضغطونها بقوة ليسلّم لهم تحت تأثير الخنق؟!
وكان يا ما كان أن الشيخ قد أجرى ذات يوم عقد قِـرانٍ في إحدى القرى الشرقية طبقا للحدود الشرعية التي لا تعجب بعض الأهالي فتحرك بعض أقارب المرأة ليقنعوا الشيخ باقر ابو خمسين ـ قاضي الأنكحة والمواريث آنذاك ـ حتى يهدد الشيخ إبراهيم بسحب المأذونية، وبعد أن استدعي الشيخ في مجلس القاضي، رأى رجلين يتكئان في تأهب للهجوم الكاسح وقد فعلا.. ولكن سرعان ما خفت منهم الصوت وتعجبوا من جرأة الشيخ وقوة رده واحتجاجه الذي ختمه بعدم المبالاة بإلقاء دفتر العقود والتخلص منه إلى الأبد في سبيل أن يعلو أمر الله على أمر الجهال وهنا أدرك الشيخ باقر رحمه الله حساسية الموقف وتدخل لإنهاء الخصومة بحرفنته المعتادة وكرّم الشيخ بإعادة الدفتر اليه تعبيرا عن الاعتماد والوثوق بأمانته على الشرع والقانون.
الراوية العليم:
لقد كفلت لي تلك الجلسات المتفرقة التي جمعتني به أيام زيارته لقم المقدسة و الزيارات التي اتفقت لي إلى بيته، أن اتعرف على رجل حوزي مخضرم يحسن الرواية للأحداث و الشخصيات التي عايشها أيام شبابه وبدايات التحاقه بالحوزة العلمية ولكن من المؤسف له ان الأحساء في الخمسين سنة الماضية كانت تتميز برواة خبيرين لم يعرف المهتمون كيف ينقلون عنهم، فربما نشر بعضهم لقاء مع رواية مسن من ذوي الدور الخطير في الاربعينات والخمسينات وإذا باللقاء يغلب عليه طابع الاسترسال مع الفكاهة و السواليف، علما بأنه لا أحد يجهل ما ألم بالمنطقة من أحداث وتغيرات وتحديات دينية ودنيوية في تلك الفترة ابتعدت عنها الأسئلة وكأنها لا تثمن بثمن؟!
ويمتزج الأسف بالحنق ــ بعض الشيء ــ على الأبناء الذين لم يحفظوا عن أبائهم شيئا؟!
وحقا فقد كان هذا الشيخ الزاهد الصالح راوية متمكنا، واستشعاري لذلك جاء عن جلسات أرخي فيها عنان الكلام على قارب الذكريات فكان يدخل في مداخيل التاريخ الحديث ويخرج من مخارجه ويقف على رجال ميزهم بمعرفة أو بنقد ولا زلت اتذكر قراءته لاحد نوادر عصره المجهولين وهو الشيخ محمد المبارك صاحب كتاب معركة النور والظلام ـ من رجالات الحليلة ـ فكان يصف شخصيته و يظهر نوادره في الوطن والمهجر بحكايات تدلك على شخصية متفردة طالما عبر عنها البعض بالغامضة والحق ان بعض الناس رغم اهتمامه بالورد والزهور ولكنه لا يعرف بأي موسم تتفتح وتضحك للطبيعة!!
فن الخطابة:
من عجيب أمر الخطابة الحسينية أن المبدعين فيها على طرفي نقيض..
فهناك خطيب متفنن يتقن فنها حدا يتيح لمن يتابعه أن يضبط فن الخطابة على طريقته وإيقاعه، لأنه يقدس قواعدها ويعظم من أمر مراعاتها، وهناك من الخطباء من يجعل فن الخطابة في التوسع و التجوز في فنون البلاغة فيتمرد عليها لكن بمهارة كما يتمرد الخطاط على الحرف العربي ومع ذلك لا يبدو إلا أشد جمالا!!
وأنت مع ذلك ترى لهذا جمهوره ولذاك جمهوره!!
ولو قدّر لي أن أكون شاهدا فإني اشهد لفقيدنا بأنه خطيب متقيد بفن الخطابة في ادق التفاصيل بل ربما انتقد من لا فن له كما حدث ذلك في أحد مجالس قم المقدسة أيام مروره بها وقد ختم الخطيب قراءته في الفاطمية بقصيدة هي غير صالحة في وجهة نظر العزيز الراحل "رحمه الله" وسمعت من أحد المتلمذين عليه في الخطابة أنه يؤكد على تقسيم المصيبة بين مقدم المجلس وخاتمته ولا يستذوق ابدا طرح تفاصيلها المشجية في المقدم وانه يسجل هذا العيب على كثير من الخطباء الجدد.
جديد الموقع
- 2024-05-10 افراح سادة المكي بالمبرز تهانينا
- 2024-05-10 افراح البخيت والناجم بالمطيرفي تهانينا
- 2024-05-10 الأمير بدر.. الشاعر الذي منح موهبته الحياة كلها
- 2024-05-09 ما بعد الوظيفة (2)
- 2024-05-09 ناصر الجاسم.. في مجموعته القصصية «العبور».. القاص المسكون بهاجس من ذاكرته الشعبية.
- 2024-05-09 كيف يصرح الأديب بحبه
- 2024-05-09 (التعويض عن الضرر المعنوي في النظام السعودي)
- 2024-05-09 الدفاع المدني بمنطقة القصيم تكرم الإعلامي زهير الغزال
- 2024-05-08 جامعة الملك فيصل تشارك في مؤتمر ومعرض الشرق الأوسط لهندسة العمليات 2024 بالظهران إكسبو
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"