2020/04/18 | 0 | 3580
سخط المسلمين على النبي موسى (1)
من القصص المشهورة والعجيبة في آنٍ معًا ، والتي وُثقت في كتاب الله تعالى لمرة واحدة دون تكرار بحوار دار بين رجلين ، ابتدأت من الالتقاء إلى الفراق حتى لو كلف البحث أعوامًا " أو أمضي حقبا" ، ففي سورة الكهف دار حوار (1) تعليمي وجدلي معًا .
وتتشكل القصة من سيناريو اثنين : الأول : مسكوت عنه ويتمثل في : ما هو سبب الالتقاء ؟ منْ هو الفتى ؟ . الثاني: الالتقاء بالعبد الصالح ومرافقته والأحداث الغريبة .
ولو تركت القصة بحالها في القرآن الكريم دون تدخل المفسرين والرواة ، لما وجدنا الشطط والغرابة ،والغموض ، ومع ذلك سنجاريهم ، ونرفق مروياتهم .
إن سبب الالتقاء ورد عند الفريقين بنفس المضمون ففي تفسير القمي : أن موسى عليه السلام لما كلّمه الله تعالى وأنزل عليه الألواح خطب في بني إسرائيل فقال في نفسه ( ما خلق الله خلقا أعلم مني) فأوحى الله تعالى إلى جبريل أن (أدرك موسى فقد هلك وأعلمه أن عند ملتقى البحرين عند صخرة رجل أعلم منك ، فصر إليه وتعلم من علمه ) فأخبر موسى بذلك وعلم بخطأه ، فأخذ معه وصيه يوشع (الفتى)، ومعهم سمكة مملّحة وجاهزة للطبخ للتزود وأكلها ، فذهبا للمكان فوجدا رجلا مستلقيا على قفاه فلم يعرفاه ، فأخرج وصي موسى السمكة فغسله بالماء ووضعه على الصخرة ومضيا ونسيا الحوت ، وكان ذلك الماء ماء الحيوان ، فحي الحوت (السمكة) و دخل في الماء ، فمضى موسى عليه السلام و يوشع معه حتى عييا (تعبا) فقال لوصيه أأتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا نصبا ، فقال لموسى : فإني نسيت الحوت، فقال موسى ذلك الرجل الذي نصبه رأيناه عند الصخرة هو الذي نريده فرجعا على آثارهما قصصا (ذلك ما كنا نبغ ) إلى الرجل وهو في الصلاة ، حتى فرغ فسلم عليهما .(2)
ابن كثير نقل عن البخاري أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو صاحب بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله . حدثنا أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال موسى : يا رب ، فكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ..." . (3)
هذا الحوار الذي سببه النبي موسى عليه السلام ، أدخله في دوامة مع عبد صالح ، يلقي عليه صنائع عجيبة لا ترتبط بأحكام شرعية ، ولا بأمور أمة ، من هنا وقعت المعضلة: كيف بنبي من أولي العزم يتبع شخصًا عاديًا مهما ملك من مقومات فأمام موسى لا تعدو شيئا في تفسير العياشي قال الإمام الصادق عليه السلام "كان موسى أعلم من الخضر". (4)
وقبل أن نثير ذلك دعونا نأخذ من ملامح القصة : العبد الصالح كان يملك مع صلاحه وتقواه ، ( الرحمة ،و العلم المخصوص "وعلّمناه من لدُنا علمًا" ). وأما الفتى فهو الخادم المطيع لرئيسه .
لا أود الوقوف على جزئيات القصة كنوع الماء أو مجمع البحرين ، بل نريد التعرف على شخصيتين الفتى (إجمالا)والعبد الصالح (شبه التطويل).
لم تشر الآيات إلى أمر الفتى بل أصبح دوره دور المساعد لموسى فقط أو كما تقول (فتاه) ، و يمكننا أن نعنونه بالمهمّش أو الكومبارس فهو يضفي واقعية في المشهد، ويخلق تسلسل في القصة فقط (5) ، هذا الدور أظنه الوحيد الذي ساقه المفسرون بعدم عنايتهم بالفتى اعتمادا على مرجعية القرآن الكريم ،فدور الفتى على الظاهر كان مقصورا على الرحلة بدليل ضمائر التثنية في الآيات ( فانطلقا - ركبا السفينة – لقيا غلاما – فوجدا ) وإن كان الجو القصصي يظهر أنه موجود ، على العموم يوجد شبه إجماع من الروايات أنه يوشع بن نون وصي النبي موسى ، والذي كان له الفضل على بني إسرائيل بعد تيه أربعين سنة في سيناء .
أما عن العبد الصالح لم تشر الآيات هذه ولا غيرها إلى اسمه ، ووردت هذه القصة في هذه السورة فقط ، وللروايات أيضا تارة تصرح بالاسم وتارة لا تشير مثلا : الروايتان في تفسير القمي تقول (رجلا – العالم ) نعم يأتي في سياق التفسير والكلام للمفسّر أنه الخضر . وفي مختصر تفسير القمي للعتائقي أنه ( عالم بني إسرائيل ).(6) لكن يتفق المسلمون أنه : (الخضر ) وسنشير إليه بعد قليل .
شرح القصة إجمالا : يكشف عن أن موسى كان مأمورًا من طريق الوحي أن يلقى العالم في مجمع البحرين ، وكان علامة المحل الذي يجده ويلقاه ما وقع من أمر الحوت ". (7) طبعا تفاصيل القصة نكلها لقراءة أخرى ، لكن ما هو الاقتراح الذي اقترحه النبي موسى عليه السلام للعبد الصالح ؟ أشارت إليه الآية "هل أتبعُــك على أن تُعَـــلِّــمَــنِي مما عُــلِّمْــتَ رُشْــدا " والرشد هو الغاية المتوخاة لا العلم ، فأجابه "قال إنك لن تستطيع معي صبرا" وأورد (صبرا) نكرة في سياق النفي الدالة على العموم ؛والسبب سآتي بأفعال لا يطيق أحد رؤيتها ،ولذا لم تقل الآية (لم تصبر على العلم ) .فرد عليه النبي موسى "قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا" فوافق بشرط عدم السؤال عما يصنعه إلا بعد أن أوضحه لك فيما بعد ، فلا داعي للاستعجال والمضايقة من ذلك . هذه المعاهدة أوضحتها في الجدول الآتي :
الحدث
الصنيع
يترتب عليه ؟
المعاهدة
الكيفية
التأويل
الأول
خرْق السفينة
غرق أهلها
أمر داهية
خرقت .
اعتذرَ موسى
لا تؤاخني بما نسيت ولا تكلفني من أمري عسرا
السفينة لمساكين يعملون عليها ، وأحد الظلمة يريد انتشالها منهم
الثاني
قتل الغلام
غلام مظلوم لم يرتكب جناية
أمر منكر
خرقت
اعتذر موسى
تجدد العهد (إن سألتك فلا تصاحبني وقد بلغت مني عذرا
الغلام أبواه مؤمنين ، إن ظل سيتعبهما ويوصلهما للكفر والطغيان
الثالث
جدار آيل للسقوط فأصلحه
لو أخذت من أهل القرية أجر جزاء ذلك
لم تخرق .
بل العالم أنهى المعاهدة (هذا فراق بيني وبينك) بعد عهد موسى (إن سألتك فلا تصاحبني ) وهنا يقوم العالم بالتأويل الذي صعُب على موسى
لو أخذت أجر مقابل ما منعونا من الضيافة
الجدار تحته كنز وهو لغلامين أبوهما صالحا ، فالبناء عليه يحفظ الكنز لحين البلوغ
ختام القصة : وما فعلته عن أمري ، ذلك تأويل ما لم تسطِع عليه صبرا
جزئيات القصة : إثارة بعض النقاط ستقودنا إلى أبواب مسدودة ، ولعلها تفتح في حلقات قادمة ، لكن المهم أن القصّاص والمفسرين اعتمدوا على هذه القصة على أمرين :
الأول : دراسة أشكال الحوار ، وبيان الجانب التربوي والأخلاقي للقصة من قبيل : حفظ الأبناء بصلاح الآباء – التأدب مع المعلم – حق الضيف ،و الأغراض الفقهية والبلاغية كلفظ المساكين – والقرية والمدينة ، أو البحث العقدي من قبيل ( أن ما فعله الخضر من أفعال حتى وهو مأمور من قبل الله تعالى : تارة ينسبها لنفسه وأخرى بينه وبين خالقه ، وأخرى لخالقه فقط (أردتُ أن أعيبها - فأردنا أن يبدلهما ربهما - فأراد ربك أن يبلغا أشدهما )وذلك بالاستعانة بالروايات و التأويل ، وكتبت أبحاث ورسائل جامعية لبيان تلك المزايا ، وكل هذا لا يُنكر بل يستحق الثناء والشكر من الله تعالى وخدمة لكتابه الذي هو من أبلغ الكلام ورفعته .
الثاني : سيدنا الخضر : وأعتقدُ أن الخضر شخصية حقيقية وبلغت الدرجة العالية من الإيمان و التقوى والإخلاص ، وقد ذكرته الروايات المعتمدة . إلا أنه هذه الشخصية بسبب الإسرائيليات ومحبي القصص والأساطير أعطيت لها حجمًا واسعا ، وبولغ فيها ، فأشغل التفكير الإسلامي ، مع أن القرآن الكريم عبّر عنه بالعبد آتيناه رحمة وعلما .
فقد كتبت المؤلفات القديمة والحديثة أمثال : رسالة في حياة الخضر لنجم الدين الإسكندري (ت981هــ) والزهر النضر في نبأ الخضر لشهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هــ) وعجلة المنتظر في شرح حال الخضر لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت597هــ) ومن الكتب المعاصرة الخضر في الفكر الصوفي عبد الرحمن عبد الخالق ، شخصية الخضر في ضوء الروايات والنقل امتياز أحمد الأعظمي . وأما في كتب التفسير ومجامع التاريخ فهي المصدر لهذه الكتب . يجمع هذه الكتب أنها تكرار لما سبق وروده في بطون التفاسير والتاريخ ومن جملة ما ذكروه أنهم اتفقوا أنهم (اختلفوا) فقد اختلفوا في :
اسمه منها ( الخضر – خضرون اليسع – إلياس – تاليا - ملك من الملائكة – بليا – أحمد ) ووضعوا له كنية (أبو العباس ) .(8)
عن نسبه جمعه صاحب موجز دائرة المعارف الإسلامية(ابن آدم لصلبه – ابن قابيل (خضرون) – المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر الأزد - ابن عمائيل بن النور بن العيص بن إسحاق – ابن بنت فرعون – تاليا أو إلياس بن ملكان بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح - فارسي أو كان أبوه فارسيا وأمه رومية أو العكس ) .(9) لقبه سواء كان الخضر لقبه أو اسمه فقد قيل أنه سمي بذلك لأنه ما جلس على خشبة يابسة إلا صارت خضراء .
واختلفوا أيضا في نبوته : تارة نبيا ، وتارة عالما ، وأخرى ملكا من الملائكة فيكون نصف إنسي والنصف الآخر ملكي ،وهناك من يرى أنه كائن بحري ،في حين أن القرآن يصرح أنه عبد آتيناه من لدنا... رواية الإمام الصادق عليه السلام قال "إن الخضر كان نبيا مرسلا" . (10) وحديث الصادق عليه السلام أيضا " الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين". (11)
وقد اختلفوا في حياته وموته هناك من يجزم بموته ، وبأن الله تعالى لم يضمن لأحد بالخلود أو البقاء إلى هذا العمر الطويل ، وأما الأكثرون فقالوا ببقائه وأنه يعيش بين ظهرانينا ، وقد اختلف أين يعيش ؟ فقد وجده موسى في جزيرة على طنفسة (فراش)خضراء على كبد البحر . (12) و يعيش الآن في بيت المقدس ويصلي الجمعة بمكة ويذهب للمدينة ومسجد قباء ، ويلتقي بإلياس أو اليسع عند سد يأجوج ومأجوج ، وأنه موكل على البحار . وعده صاحب الإصابة من الصحابة (برقم 2275) . (13)
وللخضر مدارس ورؤى انبثقت منه: فقد شكّلت لهذه الشخصية أدوار كبيرة ، عرفت بأنها مفصلية في التاريخ ، وبنت حولها تكوين الشخصية الكامل ، ففي :
المدرسة العرفانية : والذي يمثّلها محي الدين بن عربي وكعادة تفسيره يرى في الخضر " هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم منك ،إذ الترقي في الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون إلا في هذا المقام ...وقوله " هل أتبعك " هو ظهور إرادة السلوك ،والترقي في الكمال "إنك لن تستطيع معي صبرا" لكونك غير مطلع على الأمور الغيبية ، والحقائق المعنوية لعدم تجردك ،واحتجابك بالبدن وغواشيه ، فلا تطيق مرافقتي " . (14) سنأخذ كلامه على حسن الظن ، إلا أنه تصور الخضر بلغ ما لم يبلغه موسى الذي كلمه الله ، وفلق له البحر ، واستلم الألواح بيديه وببدن مادي .
مدرسة التصوف : وهي عرفانية لكن يوجد بعض الفروقات موكوله في محلها ، فقد كان الخضر يمثّل العلم الباطن وأما موسى فالظاهر ، ولعل التأثير الصوفي على الروايات واضحة كارتداء العمامة الخضراء . خذ مثلا قصة أبو الحسن الشاذلي الواردة في موقع (الصوفي) الخاص بهم يورد مجموعة من الكرامات في آخره يقول "واعلم أنَّ بقاء الخضر قد أجمعت عليه هذه الطائفة، وتَوَاتَرَ عن أولياء كل عصر لقاؤه والأخذ عنه، واشتهر ذلك إلى أن بلغ الأمر حد التواتر الذي لا يمكن جحده، والحكايات في ذلك كثيرة .قال الشيخ أبو الحسن: «لقيت الخضر في صحراء عيذاب (ميناء على البحر الأحمر) ، فقال لي: يا أبا الحسن، أصحبك اللطف الجميل، وكان لك صاحبًا في المقام وفي الرحيل» وذكر ابن عربي أن أبا السعود بن الشبلي كان في مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني يكنس فيها، فوقف الخضر على رأسه، فقال: «السلام عليكم»، فرفع أبو السعود رأسه فقال: «وعليك السلام»، ثم عاد إلى شغله بما هو فيه فقال له الخضر: «ما بالك لا تنتبه لي كأنك لم تعرفني؟!»، فقال أبو السعود: «بل عرفتك، أنت الخضر»، فقال له الخضر: «فما بالك لم تنتبه لي؟!»، فقال له أبو السعود: «مشغول بخدمتي»، والتفت إليَّ الشيخ عبد القادر الجيلاني وقال: «لم يترك في هذا الشيخ فضله لغيره».(15)
المدرسة الشيعية : نظرت هذه المدرسة للخضر من وجوه كثيرة ، فهي لم تجعله مقياسًا كالمدرستين السابقتين وإنما كشاهد وناظر ، فيكون الركن الوثيق هو إثبات حياته لذلك السبب . وتتخذ الروايات أشكال مختلفة منها : إخبار الخضر بما يقع على أهل البيت من ظلم (في الرواية – العالم- حتى لا نقع في الإشكال) في تفسير القمي " ثم حدّثه العالم بما يصيب آل محمد من البلاء وكيد الأعداء حتى اشتد بكاؤهما". الشكل الآخر : تخمين ابن عباس كما في علل الشرائع وهو مشروعية قتل الإمام علي عليه السلام للبغاة وأن هذا الصنيع الذي صنعه "كان قتله لله رضى ولأهل الجهالة من الناس سخطا" بالقياس مع صنيع موسى الذي سخط من فعل الخضر لكن "فركبا السفينة فخرقها العالم (ولم يرد اسم الخضر) وكان خرقها لله عز وجل رضى ،وسخط ذلك موسى "وهكذا في بقية الأعمال ، نعم في مقدمة القصة أراد التلطيف بعبارات منها (موسى لم يحسد العالم على ما أتاه من علم ) . المثال الأخير وهو المرتبط بالإمامة فهو يسلم عليهم ، وله ارتباط خاص بالغائب المهدي عليه السلام "وإنه ليأتينا فيسلّم علينا فنسمع صوته ولا نرى شخصه ...وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته ". (16) وغيرها كنصحه للأئمة ، وتقديم التعزية ، ومنه يستدلون على طول عمر الإمام الثاني عشر عليه السلام .
المدرسة السلفية : مع أن الكثير من العلماء قالوا ببقاء الخضر ، وهي مناقشة علمية ، فهي تصرح بزندقة المتصوفة ؛لأنهم اعتمدوا على قصة موسى والخضر كدليل للعلم الباطني (الإلهام ) والظاهري ، " وبذلك تعلم أن ما يدّعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف ...كمخالفة الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة " (17) هذه المدرسة أصدرت أحكام مسبقة ، ففي تفسير القرطبي " الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار...كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم ". (18) ولا أعتقدُ أن هناك من المتصوفة وإن كان عنده هذا العلم الباطني يقر بترك الصلاة والصوم ؛لأنه أصبح لا حاجة له بها إلا للجهلة ، أو يتهمونهم بأنهم يتقولون على القرآن في مسألة خلود الخضر . في حين ابن الصلاح في فتاويه يقول "وأما الخضر فهو من الأحياء عند جماهير الخاصة من العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك ،وإنما شذ بإنكار ذلك بعض أهل الحديث ". (19)
الثقافة الشعبية :انتشرت بين أوساط العامة شخصية الخصر بمسميات متعددة كأبي العباس ومحمد الخضر ، وأغلب الألفاظ كان منشؤها صوفي مثل قطب الرجال – الأستاذ) . يروي أحد الكتّاب أنه إذا شممت رائحة زكية ، تقول لك إحدى العجائز هذه رائحة الخضر ، وهذه الثقافة رأياها وسمعناه كثيرا حتى أنهم أعطوه اسم النبي محمد لكي يضفوا عليه القدسية "فإن الخضر قد تأثّر في الوجدان الشعبي والموروث الأسطوري ،بمختلف الثقافات والحضارات التي مرت بالمنطقة العربية الشرقية والمناطق المتاخمة لها " . (20)
الثقافة الأسطورية : تحولت سريعا قصة الخضر إلى أسطورة فهي متغيرة من كائن بحري إلى سماوي إلى بشري ، وأصبح منافسًا للزمان والمكان ، وقدرة على التخفي والتسلل إلى الدور والغرف "لقد تحول الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمونه بالسوبر مان الذي يطير في كل مكان ،ويلتقي بالأصدقاء ، والخلان في كل البلدان ، ويشرّع للناس ما شاء من عبادات وقربات ، ويلقن الأذكار وينشئ الطرق الصوفية ،ويعمّد الأولياء والأقطاب ،ويولي من يشاء ،ويعزل من يشاء ". (21) يذكر صاحب دائرة المعارف مجموعة من القصص ومنها أنه "يقال إن البحارة عند شاطئ الشام يدعونه إذا عصفت العاصفة ،وأصبح في الهند يعرف باسم خواجه خضر وهو عندهم إله نهري ويمثل جالسا على حوت ". (22) ومن العجائب أن للخضر في كل بقاع العالم مقامًا منها ما اندثر ومنه ما هو موجود .
طبعا كل هذه التوجهات هي غير خاصة بل متداخلة في الموروثات كافّة كاجتماع الخضر مع المهدي وعيسى في المسجد الحرام مثلا ، أو أنه عنده علم الباطن ، أو وجود الأساطير لكن بأسلوب عربي .وللمحقق البصير أن يفطن لذلك من دون أن ينظر بخلفية ثقافية معينة .
لقد أطلنا في قضية الخضر لتتعرف على حجم هذه الشخصية التي صغُرت شخصية نبي العزم أمامها ، والقرآن الكريم يعبر عنه بالعبد المؤتى علما ورحمة ، بخلاف النبي موسى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من نبي الإسلام ،وهو صاحب المعجزات الباهرات ، إلا أن القصة هذه فاقت كل ذلك مع أنها وردت مرة واحدة ، ولو لمحنا عن شخصيته في نفس هذه الموارد التي أسهبنا فيها نجد أن موسى : القاسي والشديد والمعاند .
وللتبرير عن السبب الذي تم لقاء النبي موسى مع الخضر ، واستنكاره صنيع الخضر ، انقدح إشكال كبير : لماذا همّش النبي موسى ؟ ولماذا لزم عليه أن يتبع من أدنى منه منزلة ؟ أليس هو نبي الأمة – من أولي العزم -كلمه الله تكليما ؟وبسبب تعدد الاحتمالات وكثرة الآراء ذهبت الآراء في الاختلاف أيضا فبعضهم قال :
- أنه موسى بن عمران الكليم : وهو جمهور المسلمين من غير مخالف .
- أنه موسى بن ميثا أو ميشا بن النبي يوسف .
- أن القصة مزورة وملفقة : قول اليهود .
- أنها قصة خيالية تمثيلية
- أنها قصة رمزية
- رأي الكاتب
وسنورد هذه الآراء ونقدها في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى .
الهامش :
(1) سورة الكهف الآيات 60-82
(2)تفسير القمي ص395-396
(3)قصص الأنبياء لابن كثيرص393
(4)تفسير العيّاشي ج2ح43ص356
(5)ويكبيديا (الكومبارسcomparsa
(6) مختصر تفسير القمي ، عبد الرحمن بن محمد العتائقي (كان حيا سنة 786هـ) ص290
(7)تفسير الميزان ج13ص275
(8)روح المعاني للآلوسي ج15ص424
(9)موجز دائرة المعارف الإسلامية (لمجموعة من المستشرقين) ص4681
(10)علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1حباب54ح1ص77
(11) تفسير العيّاشي ج2ح45ص356
(12) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج2 كتاب التفسير ح3ص787
(13)الإصابة في تمييز الصحابة ج2ص246
(14) تفسير القرآن الكريم للعارف محي الدين بن عربي ج1ص768
(15)موقع الصوفي (https://0i.is/9uKY)
(16)كمال الدين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق ص276
(17)أصول بلا أصول ، د. محمد أحمد المقدّم ص204-205
(18) الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ج11ص40
(19) الحذر في أمر الخضر للملا علي سلطان القاري الهروي (ت1014هــ) ص86
(20)أساطير مقدّسة : أساطير الأولين في تراث المسلمين ، وليد فكري ص86
(21) كتاب الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ، عبد الحمن عبد الخالق ص11
(22)موجز دائرة المعارف الإسلامية ص4683
جديد الموقع
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس المجلس المحلي للمحافظة
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس اجتماع اللجنة العليا لإنشاء المستشفى الجامعي التعليمي
- 2024-04-29 وعي القلم والأمل نص مستخلص من مجموعة (كلام العرافة) للدكتور حسن الشيخ
- 2024-04-29 ريم أول حكم سعودية لرياضة رفع الأثقال حازت على الشارة الدولية
- 2024-04-29 بيئة الأحساء تدشّن أسبوع البيئة 2024 تحت شعار "تعرف بيئتك"
- 2024-04-29 منتدى البريكس الدولي يكرم الفنان السعودي الضامن في غروزني الشيشان ..
- 2024-04-29 حققوا المركز الأول على مستوى المملكة كأعلى تسجيل للطلاب طلاب "تعليم الرياض" يفوزون بـ13 ميدالية في أولمبياد "أذكى"
- 2024-04-29 جمعية العمران الخيرية بالاحساء للخدمات الاجتماعية تحظى بتكريم مرموق من مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري .
- 2024-04-29 مبادرة خطوة قبل الشكوى تبدأ فعالياتها بتأهيل اناث الدمام
- 2024-04-29 افراح الشبيب والعبدالسلام في قاعة الفارس بالاحساء