2012/03/13 | 0 | 2320
تجاهل التجاهل درس كتبه الشيخ علي المسبح في حياته
كنت في السادسة عشر من عمري أو دون ذلك حينما سمعت باسم هذا الشيخ الجليل وكانت الحكايات التي تنقل لي عنه ـــ من قبل بعض المعجبين به والمشايخ الذين زاملوني في بداية الدراسة الحوزية من أبناء بلدته ـــ لا تزيدني إلا هيبة وإجلالا له قبل أن أقابله ..
أخبرني بعض الزملاء آنذاك أنه كان يقصد سماحة الشيخ الراحل في بيته لحل بعض المسائل الفقهية ويقول إذا سألنا الشيخ تناثرت الفتاوى على شفتيه ولا يكتفي بذلك، ولكنه يفتح الرسائل العملية أمامنا ويقرأ علينا فكان ينقل فتوى الأموات والأحياء سواء في ذلك السيد الحكيم، والسيد الصدر في الفتاوى الواضحة، والسيد الخوئي ... الخ .
وهذا الاسلوب ليس لرفع حاجة هذا الطالب الصغير فقط، بل هو لرفع مستواه ولأن مواضع الإحتياط في الدين لا تعرف إلا بمعرفة وجوه الاختلاف .
وهكذا فقد احتفظ بشخصيته سمعي قبل أن يحتفظ به بصري والشاعر يقول:
والأذن تعشــــق قبل العين أحيــــانا
موعد بعد ستة أعوام:
وفي تلك الأيام الأولى التي ما زلت استمع فيها إلى أخبار الشيخ الكريم واتعرف من خلالها على شخصيته الفذة قطعني قاطع السفر وذهبت إلى قم المقدسة عام:1409هـ، ولكن وفي سنة 1414هـ عدت إلى البلاد عودة مؤقتة ومررت في شهر رمضان المبارك بطيبة النبي الطيب وأبي الطيبين رسول رب العالمين صلى الله عليه واله وسلم، وفي ذات ليلة رحمانية رحيمية قامت بعض الحملات بتنظيم دعوة عشاء لبعض طلبة العلم والفضلاء الأحسائيين المتواجدين في المدينة للزيارة وقد حضرت فيمن حضر وكان هناك عدد غير بسيط من الفضلاء والعلماء لا يربطهم حديث معين وربما اشتغل كل منهم مع من هو في جانبه . . وفجأة دخل رجل ستيني عليه هيبة العلماء لم تصادفه عيني من قبل وسلم عند فتحت باب القاعة فلفت الجميع إليه، ورفع صوته مكررا:
مسألة . . مسألة . .
وهذا قبل أن يستقر في مكانه وكانت المسألة فرع من فروع صلاة المسافر وصومه فملأ الجو نقاشا وعندما أخذت المسألة كفايتها أيضا رفع رأسه مرة أخرى وقال مسألة . . وانطلق يتحدث في فرع فقهي آخر لا يحضرني الآن .
فأثار عندي فضول الإعجاب، وسألت عنه من يكون ؟
فجاءني الجواب: هذا سماحة الشيخ علي المسبح من بلدة البطالية
حينها تبسمت وقلت كالظافر: أخيرا !! وبعد ستة أعوام .
لم يكن مجلسه مجلسا نمطيا:
وبعد سنوات أخرى قضيتها في قم المقدسة أقتضتني الظروف تجديد الزيارة للبلاد الحبيبة واشتغلت في تلك الفترة الوجيزة في بحث الوصية كجلسة علمية منظمة مع بعض الأساتذة الفضلاء وكان قد شغلني إشكال يتعلق بوصية الصبي فزرت سماحة الشيخ الراحل " نور الله برهانه " فطرحت عليه المسألة وتفاعل بشكل جعلني في دهشة من تواضعه ونبله إذ صار يفتح الكتب التي وضعت بجانبه ويقرأ ما يتعلق بالمسألة مما كون حوارا ممتعا معه!
وفي هذا المجلس المبارك صادفت حالة من حالات الشيخ أيقظت في داخلي مشاعر الإكرام والإعجاب والتقدير تجاهه ولا بد لي من روايتها للقارئ المستفيد:
حينما وقفت على باب المجلس وقبل أن أمسك بعضادة الباب سمعت صوتا يتحدث بنفس متواصل فتشكلت الصور في ذهني..
هل الشيخ يلقي خطابا ؟
هل الشيخ يفصل في خصومة ؟
هل أحضر خطيبا وهل هذه الساعة موعد لقراءة مأتم رسمي في مجلسه؟
لست أدري ..
ولما دخلت ونظرت في الجهة المواجهة للباب وعلى يمينه رأيت عامة الناس جلوسا، ثم نظرت على يسار الباب فكان الشيخ يجلس خلف منضدة صغيرة وقد فتح كتابا للشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي " حفظه الله " الذي ناقش فيه المنهج الدراسي لمادة التوحيد، وصار يقرأ من الكتاب بصوت رفيع يسمع كل من في المجلس فسلمت عليه ورد علي السلام ولم يزد، فعاد يواصل القراءة ولما طوى من الكتاب صفحات ومن الوقت ربع ساعة أو أكثر أغلق الكتاب و أقبل إليّ بوجه مستبشر وبكلمات الترحيب والتحايا ..
فعلمت أن هذا المجلس البسيط في نظام بنائه وهندسته ومساحته (آنذاك) هو معهد تربوي ولو في حدود ما، وأنه ليس مجلسا نمطيا يتشرف فيه الناس بزيارة العالم للزيارة، ويلتقونه للقاء فقط ..
وعلمت أيضا أنها محاولة لتجسيد رسول الله صلى الله عليه واله : "" يعرف السرور في وجهه فما سألناه عن شيء إلا أخبرنا به ولا سكتنا إلا ابتدأنا... "".
عاش غنيا في نفسه وسعيدا بغرائزه النبيلة:
الهدوء، والتجاوز، والإنزواء، وعدم اللهث وارء المناصب والوجاهة، وكذا الشعور بعدم البأس مع المتجاهلين لا يكون دليلا على البلادة في الاحساس ولا علامة على الانهزامية وإن سبق ذلك إلى ظن البعض قديما وحديثا ممن إذا تجاهله الناس أقام الدنيا ولم يقعدها وصعب الأمور وخاض فيها كل غمرة ؟!
بل هي صفات تبرز على الأبطال المعنويين الذين يتجاهلون التجاهل ويأخذون القدوة من علي عليه السلام في أن ابتعاد العالم عن الكل إذا تجاهلوه هو السبيل الوحيدة التي ستفضح حاجة الكل إليه !!
وقد بدى واضحا للجميع أن الشيخ استقبلته ظروف قاسية، ونظرات مجافية عند رجوعه من النجف الأشرف لعب دورها البعض، ولكن أجهضت الفتنة بانزواء الشيخ، وصبره، وتنكره للأنا وتحييده لذاته !!
وإن في إعراض ذوي السمة العلمية أمثال الشيخ الكريم عن الوجاهة، وتنازلهم عن بعض المناصب حتى لوكانت دينية ولم تكن ديناوية كالوكالة الشرعية والممثلية عن المرجع الديني الأعلى والتي لم يكن التحصل عليها أمرا صعبا على إبن النجف وخريجها ولكنه وبالرغم من إتاحتها له قبض يده عنها وانصرف بفكره إلى غير ناحيتها . .
وأيا يكون فإن تلك الإشاحة وذلك الإعراض يكشف لنا عن أن الشيخ المبجل كان قدوة ً بالمعنى الحقيقي لا المجازي ، و أنه أسوة بالمادة لا بالصورة والمظهر فقط . .
وإن شاء الله يبلغ مراده في أن يكون وراءه أبناء في العلم وتلامذة في الثقافة يستفيدون من درسه العملي (تجاهل التجاهل) فيعطون التنازل ولا يهمهم أن يكونوا الأطول قامة في المجتمع .
ذكريات في العلم والمثابرة:
1 يذكر أن الشيخ كان كثير التدريس في النجف الأشرف وله طلبة من الأحسائيين وغيرهم وأنه في فترة من الفترات كان يبدأ التدريس من الصباح ويعود إلى البيت وقت الغداء لأن آخر درس يلقيه كان بعد صلاة الظهر وقبل الغداء !!
وهذا لا يكشف عن تولع الشيخ بالدرس فقط، بل يعرفنا على رغبة الطلبة في أستاذهم وعدم تنازلهم عنه حتى لو لم يكن لديه وقت هو أكثر ملائمة من هذا الوقت !!
2 حدثني نجله الشيخ رضا منذ مدة يقول: إن والدي يعكف على الكتاب لساعات مطولة لا يداخله الفتور ولا السآمة ولا الملل.
3 التقيته مرة أخرى قبل وفاته بسنة واحدة وقد تقدم في السن وكان اللقاء في إحدى الحسينيات ببلدة البطالية وفي مجلس من مجالس الفاتحة وعندما جلست إلى جانبه ذاكرته في مسألة فقهية تخص إمناء المرأة ـــ مسألة يبحثها العلماء في كتبهم الاستدلالية ـــ وكان قد ضعف عن المحاورة لتقدمه في السن، ولكنه لم يبخل بالاستماع لي وأنا أقرر المسألة وأعرض الأراء بل يداخلني ببعض المداخلات ولم يعبأ بالزدحام المعزين كما لم يشعرني بالتملل حتى استوفيت حديثي بالكامل واستأذنت منه في الانصراف !!
ذكاؤه الاجتماعي:
تميز الشيخ الفقيد " أكرم الله مثواه" بفطنة منقطعة الشبيه، مما وَلّــد ثقة الآخرين به، فصاروا يراجعونه في حل بعض الخصومات التي كان ينفذ فيها بذكائه ويتغلب عليها بخططه وفي ذلك حكايات ونوادر اشتهرت على اللسنة الناس تدور في المجالس، و يستشهد بها في المحافل، وكفاه شاهدا أن الشيخ باقر أبو خمسين قاضي المحكمة الجعفرية الأسبق ـــ منقول عن بعض الأساتذة المهتمين بالشيخ الراحل ـــ كان يحيل عليه بعض القضايا فيزيل عنها الغموض وييسر الأمور فتخرج أطراف النزاع وقد حصحص الحق على لسان الصدق، ولكني لا أجد متسعا في هذا المقال لذكر شيء من تلك الحكايات .
فرحمه الله تعالى وأنزل على قبره صبيب رحمته وشآبيب رضوانه
جديد الموقع
- 2024-05-09 ما بعد الوظيفة (2)
- 2024-05-09 ناصر الجاسم.. في مجموعته القصصية «العبور».. القاص المسكون بهاجس من ذاكرته الشعبية.
- 2024-05-09 كيف يصرح الأديب بحبه
- 2024-05-09 (التعويض عن الضرر المعنوي في النظام السعودي)
- 2024-05-09 الدفاع المدني بمنطقة القصيم تكرم الإعلامي زهير الغزال
- 2024-05-08 جامعة الملك فيصل تشارك في مؤتمر ومعرض الشرق الأوسط لهندسة العمليات 2024 بالظهران إكسبو
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"
- 2024-05-07 الخريف يرعى تكريم اللجنة المنظمة للنسخة الثالثة لـ حرفيون
- 2024-05-07 ضمن برنامج الاحتفاء بأسبوع الأصم العربي ٤٩
- 2024-05-07 أهمية الكتب الورقية: لماذا الكتاب الورقي الذي يحمله الطفل بيديه أفضل من الكتاب الذي يقرأه على الشاشة؟