2019/09/22 | 0 | 3325
الرؤية والرؤيا في الشعر المنبري
الشعر ناجم من إشعاعات عديدة ، ونوع هذه الإشعاعات يمثل نوع الشعر ، وحين نعرض لمصطلحين هامين في الشعر وهما الرؤية والرؤيا فإننا نرجع الشعر لمبدأين غاية في الأهمية لبيان ماهية هذا الشعر ودرجة شاعريته، وحسب ما ذهب العديد من النقاد منذ عصور سابقة وامتد لهذا العصر، فأجدني ميالا لما ذهب إليه الدكتور علي جعفر العلاق في " في حداثة النص الشعري" حيث يرى بأن الرؤية في الشعر ـ في معظم الأحيان ـ فعلاً جسدياً محضاً لا يلامس غير السطح من المرئيات، ولا يصل إلى مكنونها الداخلي، وما في صمتها البارد من دلالة وتوحش، بينما يرى بأن الرؤيا تفضي إلى "ما تخبئه المرئيات وراءها من معان وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها، وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة"
إذن هذا يتقاطع مع النظريات التي ترجع الرؤية إلى ما يسمى المعنى القشري والظاهري في قالبها المرئي أو ما يسمى service structure وهي تبدأ من السطح وتنتهي به ، بينما الرؤيا تمثل في وهجها المعنى العميق وما وراء الحدث والتاريخ والفعل أو ما يسمى بـ deep structure .
إذن أحسب بأن هذين المصطلحين بحسب رؤيتنا للشعر المنبري الأحسائي القائم في شكله على مستهل وكراسي وصدر أو مطلع بحسب بنائه وتركيبته يحتل مكانة تجمع النظم والشعر مع غلبة للأول سابقا، ووعي بالثاني مؤخرا جراء عدة عوامل ، لعل من ضمنها الرواديد الذين يطلبون منهجا إبداعيا ضاربا في القصيدة المنبرية، وهذا مؤشر إيجابي بأن الوعي أصبح مشتركا بين الشاعر والرادود، وأعتقد بأن المحصلة هي الانتقال من مرحلة النظم لمرحلة الشعر الحقيقي.
ومع شح في تناول الشعر المنبري دراسة ونقدا أقوم بهذه المقاربة لتسليط الضوء على استراتيجات تخرج الشعر المنبري من الرؤية وتضعه في الرؤيا من خلال استعراضي لأمثلة من مجموعة ملتقى شعراء الأحساء الواتسابي الذي أسسه الشاعر سالم العريفي ونهض به ويقوم ويشرف عليه الشاعر المهندس ناصر الوسمي.
فحين يقول الشاعر أسامة العامر في نصه الخسوف الكلي :
ابهذا الخسوف الكلي
------------
|
|
واجـــب عـلـيـنه ابـهـالمسه
انــصــلـي صــــلاة الآيــــات
نــتـوجـه لــوجــه الگمــــر .
مـــن نـعـقـد إلــهـا الـنـيـات
بـسـابـع مــحـرم بـالـلـطم .
انــكــبـر ســبــع تـكـبـيـرات
و الـسـورة بـكـتاب الـجفن .
فــــوق الــخـدود الـدمـعـات
و مـثل الـحُسين امـن انحنه
لازم تــــكـــون الــركــعــات
انخلي الچفوف اعله الظهر .
و نـــظــل نــسـبـح آهــــات
صــلـى الـحـسين ابـكـتره .
و بچفـــــــه لازم ظــــهـــره
بــــاذِل أشــــد مــجـهـوده .
لــــراس الگمــــر و زنــــوده
|
|
---------------
فإننا نتيقن بأن هذا الشاعر بدأ متجاوزا للرؤية منذ البداية، ولا ينتمي السطح الظاهري لسلكه الشعري، فهو يتخذ من الحدث والواقعة جسرا للعبور بشعره لمستويات أرحب في الفكر والتأويل والإسقاط الكوني والفقهي بطريقة مرنة لا تخل بالسياق المتين.
وحول الرؤية التي هي شهادة العباس (ع) وانحناء ظهر الإمام الحسين (ع) وعلاقته بالقمر الذي يرمز للعباس (ع) وكونه وفاته أشبه بالخسوف الكلي الذي يلزم بحسب الحكم الفقهي صلاة الآيات، ولو تأملت في بقية المقاطع ستجدها ذات رؤيا معبرة.
وهنا أنتقل لاستراتيجية أخرى لدى الشاعر حسن المعيبد في مستهله:
لمن نزل شبه النبي الغالبي
الحومه ثلاث مرات صلت عالنبي
نازل .. شايل .. رايته وتفرد
شسوه .. توه .. منبعث محمد
حيث هنا جعل من المكان راويا وهو حومة الميدان، ومن خوف المكان على المكين وهو الأكبر، ولشدة شبهه وجماله بالرسول وخوفا عليه من الحسد تصلي على النبي صلى الله عليه وآله، فأي إبداع هذا ؟
ولننظر لما قاله الشاعر قصي المؤمن نظرة فاحصة:
وقع لكن موهزيمه الطيحه
كل بـــــطل لازم اله ترييحه
من اجته من السماء الصيحه
سلم الرايه وبدا بتسبيحه
عابد وصافي الاحساس
واحتارت بوصفه الناس
ابو فاضل
هنا لم يكتف الشاعر بذكر حدث وقوع العباس عليه السلام ، بل أوله وفسره ووضع تفسيرا لطيفا متماشيا مع نظرته ورؤياه الإبداعية، وجعل من الوقوع استراحة للمناجاة وطالما يحتاجها البطل الرسالي ليناجي ربه ..!
ومع منظور متفرد آخر حيث يقول الشاعر علي الحمود:
گرت اعيونچ رقيه
بنومه گلش غافيه
شفتي خويه حسين بيها
يا منام العافيه
----------
نامي بحلامچ سعيده امهنه يا حلم الأجل
وعالطشت خلي وجنتچ بالطشت باقي أمل
منعّسه اجفونچ رقيه ياورد شاحب ذبل
هذا نحر حسين حظنچ عسا احلامچ عسل
...
ظمي هالشيبه الخضيبه
حمره چانت صافيه
مسحي دمعاتچ عليها
يا منام العافيه
....
كيف للشاعر بأن يلون مشهدا تراجيديا بألوان رومانسية وعاطفية حالمة، ويجعل من النومة التي تعادل الموتة مما تغبط عليه السيدة رقية عليها السلام ..!
هذا ما فعله الشاعر الحمود..
وبالنظر لقصيدة الشاعر حسين المعيوف وقوله:
بچيتي احسين
لمن راح و رجعت جمرة آلامه
و من الجزع صرتي تلطمي الهامه
بچيتي احسين
شنهي هالحراره البيچ لأيتامه ؟!
و أظن من دمعچ الله خلگ لطامه !
عندي مُعتقد بالخالق الباري
لطامه خِلگ من دمعچ الجاري
و الشأن من الله ارتفع أم الشعائر و الجزع
يا أم البنين
فإننا نقف لاستخدام شخصية أم البنين المحورية في القصيدة وجعل ما قامت به محلا للنفحات واللطف الإلهي الذي يعتقده الشاعر بفكرته الإبداعية التي اتخذها الباري لخلق (اللطامة) المرتبطة بدمعها في الإمام الحسين (ع) وسبيله، وجعل دموعها سبيلا لذلك وهذه شعيرة يحتفى بها ، وهذا ما اعتبره الشاعر رفعة في مقام أم البنين سلام الله عليها .
....
وأختم هذه الأمثلة بهذا المثال المعبر للشاعر إبراهيم العطية:
سبحة الزهره اقطعوها
و بـالحـوافـر كـسّـروها
إنهشم صـدر الزچـيه
و العرش ينصب عزيه
………………………...
هالساعه حضرت فاطمه
و محمّله ابحسرتها
محنيه جات اعلى الولد
و تضاعفت عصرتها
بالف وتسع مية جرح
ما تنوصف كسرتها
من شافت ابكبر الأرض
متناثره سبحتها
من لگت سبحة گلبها
مرتوي إبدمه تربها
و تشتكي لله و نبيّه
و العرش ينصب عزيه
…
انطلق الشاعر من رمزية تسبيحة الزهراء (ع) ودلالتها القدسية وما تناثرها سوى كونه جراح الإمام الحسين (ع) ، وما جسده إلا هذه السبحة التي تكسرت وتهشمت، فما أروع هذا الترميز والإسقاط المفجع ..!
والأمثلة كثيرة من مبدعي هذه المجموعة ولا يسع المجال لحصرها، لكننا نعطي فكرة عامة عنها .
وحين نعرض لأمثلة تخرج الرؤية لتصل للرؤيا فإننا نقول بأن هذه الاستراتيجات يجب أن تراعي ضوابط وأترك للقارئ الكريم ذكر الأمثلة ليطبقها :
١- عدم المساس بالمسلمات والثوابت والأحداث التاريخية ..
فلا يأتي بحدث على أنه حدث بكيفية ما بينما التاريخ ذكره بكيفية مغايرة ، فهنا المغالطة مختلفة عن التأويل أو إعادة القراءة.
٢- عند الاستشهاد بآيات قرآنية يلتزم بقراءتها فصيحا ومراعاة قواعد الفصيح في ذلك وعدم الوقوع في كسر عروضي لسلامة قراءة الآية، ولا يلوي بعنق الآية لئلا يكسر البيت.. !
٣- أن تتوافر عناصر مثل الجدة والأصالة والإبداع وإضافة المعنى والجمالية في استخدام التقنيات هذه للحصول على رؤيا مبتكرة .
فعلى سبيل المثال لا يزيد ألفاظا لا يترتب عليها زيادة معان.
٤- أن لا تجعل هذه الاستراتيجيات النص المنبري نصا مقفلا للنخبة ولنخبة النخبة .
والكثير الكثير ممكن إضافته ، على أن هذه الورقة لم تحصِ جميع الاستراتيجيات والأمثلة والضوابط والمفاهيم ، لكنني آمل أن أكون قد سلطت الضوء على بعض من هذه المحاور المهمة مما يفتح آفاقًا بالتأمل وإعادة النظر في تحول نظمنا لشعر حقيقي..
جديد الموقع
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"
- 2024-05-07 الخريف يرعى تكريم اللجنة المنظمة للنسخة الثالثة لـ حرفيون
- 2024-05-07 ضمن برنامج الاحتفاء بأسبوع الأصم العربي ٤٩
- 2024-05-07 أهمية الكتب الورقية: لماذا الكتاب الورقي الذي يحمله الطفل بيديه أفضل من الكتاب الذي يقرأه على الشاشة؟
- 2024-05-07 الدور الخفي لدرب التبانة في الميثولوجيا المصرية القديمة
- 2024-05-07 القراءة ونشوة المعرفة
- 2024-05-07 أنامل على الأعتاب في مدح السادة الأطياب اصدار جديد
- 2024-05-07 أنامل على الأعتاب في مدح السادة الأطياب اصدار جديد
- 2024-05-06 ابن المقرب في بيت الشعر بالقيروان
- 2024-05-06 مدينة مصغرة لواحة الأحساء الزراعية