2020/04/04 | 0 | 3211
(الإدراك والعلم يقودان إلى إثبات النفس) فلسفة إسلامية
لسائل يسأل : ما الفائدة من بحث الإدراك ، سواء كان ماديًا أم مجردا ؟
هذا السؤال تفطن إليه الفلاسفة الغربيون ، كما أشرنا إلى بعضٍ منها في حلقات سابقة ، وقد بحثه الفلاسفة المسلمون ، لكنه لم يتأصل بالشكل المطلوب كما بلوره الفيلسوف الكبير صاحب تفسير الميزان العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي وتلميذه الشيخ الشهيد مرتضى مطهري ،وبترجمة المحقق الشيخ جعفر السبحاني في كتاب أصول الفلسفة (المقالة الثالثة) بتحليل حقيقة العلم والإدراك 1،وبينه بهذا التمثيل : تجعل بين يديك صورة فوتغرافية وتنظر إليها وهي ماثلة أمامك ، في نفس اللحظة التي تنظر فيها إلى العالم الخارجي الحقيقي يقول "افترض أنك تحمل بيدك صورة شمسية بطول 12 سم وبعرض 8سم ،وقد استعرضتها لتشاهد ما فيها من منظر وما بإزائها من منتزه عائلة ،وقد تمركزت بجنب ذلك المنظر بحيرة تحسب ماءها الشفاف كالفضة المذابة ،وتعطيك أمواجها الملتوية التواءً خفيفا ، صورة اهتزاز النسيم الرقيق ، وعلى حاشية تلك البحيرة روض عبق بأزاهيره ووروده ،وهو يختال بما منحته القدرة الفياضة من ألبسة موشاة بأنواع التوشية ،اختيال المترف المنعم بشبابه وثيابه .
ينتهي هذا المنظر البديع الذي لا تزيد مساحته على 15كم بحلقات جبال مترافدة تحسب تلالها المصطفة واحدة بعد واحدة كأسنان المشط .
وفي زاوية من هذا الخميل الرائع ترى منتزها معدًا ،ورجلًا يعطي سيماه أنه لا يزيد عمره على الأربعين سنة وحواليه عدة أطفال تشعر روابط التشابه بينهم وبينه أنه أبوهم وهم أولاده موزعين جلوسا على ذلك المنتزه وأمامهم طبق تفاح يتفاوح طيبًا وعطرًا .
في هذه الحلقة التنزهية المتشكلة ، تجد بعضهم مشغولا بأكل تفاحته التي بيده ،والآخر مشغولا بشمها ،والثالث مع أن يده لا تعدم التفاحة أعطيها ، منطويا تحت جناح أبيه كالزهرة في حضن الوردة المتفتحة ، يريد زائدا على قسمته ،والرابع مع أنه كسائر إخوته لم يعدم نصيبه من التفاح ملقيا بنفسه على الطبق ، يريد أن يستأثر على جماعته الباقين . هذا منظر يطفح بعينيك في أول نظرتك .
وتعاود نظرا آخر إلى هذا التمثال ، فترى صفحة بيضاء من الكارتون قد تنقّطت بنقط سوداء موزعة على سطحها المتسع ، قد تخالفت أشكالا الكبر والصغر ،والقرب والبعد عن آخر ، حسب تمركز النظر من حاشية الصفحة إلى آخر حدودها ،وهذا نظر ثانوي غير النظر الأولي .
والآن إذا سألك سائل : هل ما ذكرت وصفه من البحيرة والخمائل والأزهار بحدودها (15)كم ،وذلك المتنزه الرائع الذي أعده الأب وأولاده لترويح أنفسهم في زاوية من ذلك الروض الوسيع ، هل له وجود واقعي في التمثال الذي حملته واستعرضته وهي في يمينك بحدثة بصرك ؟ حتما – تجيب : لا ".
فالفارق شاسع وما الصورة إلا نقاط وألوان شكّلت منظرا رائعا لا شك . لكن الاختلاف بين النظرتين يكمن (من أين وإلى أين ؟)
السؤال : ما ذا يقول العلم والفلسفة في حقيقة الإدراك والعلم والشعور ؟
هناك جواب علمي من قبل المختصين في شبكة العين ، وهذه الحقيقة لا ينكرها أي فيلسوف خاصة المسلمين منهم ، يقول هؤلاء – علماء الأنسجة أو الفيسيولوجيا- لما شرّحنا العين وجدنا كالآتي "تمر الصورة الضوئية عبر العين و تمر إلى الشبكية حيث عند وصول الصورة إلى الشبكية تكون مصغرة و مقلوبة ثم ترسل الشبكية رساله مرموزة إلى الدماغ و تدقيقا في الفص القفوي في مؤخرة الدماغ عبر العصب البصري و الذي يحتوي على الياف عصبية كثيرة حيث يستقبل الفص القفوي من المخ المسؤول عن حاسة الابصار ليستقبل الرسالة من الشبكية و تعديل الصورة المقلوبة و تكبيرها ، و الفص القفوي الموجود في مؤخرة المخ هو المسؤول عن البصر هدا ما يفسر فقدان بعض الأشخاص البصر في حالة تضرر هدا الفص لأضواء التي تستقبلها مستقبلات الرؤية تثير في عصب البصر إشارات كهربائية. تسري هذه الإشارات الكهربائية في عصب البصر إلى الدماغ. يستقبل الدماغ هذه الإشارات الكهربائية. 2
بنفس هذا التشخيص يؤمن به الفيلسوف يقول في كتابه " فإن الأبحاث العلمية تقضي بأن النظام المؤدي إلى تحقق الإدراك البصري هو النظام الجاري في آلة التصوير (الكاميرة): تنبعث الأشعة من نقاط الجسم المرئي على اختلافها في أوضاعها فتجتمع في العين فتقع على عدسة العين ثم تخرج من جانبها الآخر طبق الموازين المضبوطة في العدسيات فتقع على نقطة من الشبكية أعني النقطة الصفراء فما يقع على تلك النقطة هي الصورة المبصرة المؤلفة من أشعة مختلفة متفرقة في خارج العين، مجتمعة فيها على النقطة، والنسب الموجودة في خارج العين بين أجزاء المرئي، محفوظة في تلك الصورة الموجودة في النقطة الصفراء أيضا، كما أن الأسود والأزرق والعسلي، وفي وسط ذلك القرص فتحة مستديرة تسمى إنسان العين، وراءها عدسة محدبة الوجهين تسمى البلورية، تحدها من الخلف أكبر منه من الأمام، وتتكون من مادة شفافة لينة محاطة بغشاء رقيق شفاف وتبقى في موضعها بتأثير عضلات تسمى «العضلات الهدبية» متصلة بها حول محيطها، وهنا تجويف بين القرنية والبلورية يسمى «الخزانة الأمامية» وهو مملوء بسائل شفاف يسمى «السائل المائي کما يوجد خلف البلورية تجويف آخر يسمى «الخزانة الخلفية ممتلئ بسائل شف، قوامه في قوام الهلام، ويسمى «السائل الزجاجي »، ويبطن جدار الخزانة الخلفية من الداخل غشاء شديد الحس بالضوء ويسمى هذا الغشاء باسم الشبكية، فعندما تصل إليه أشعة ضوئية يحدث الضوء في الشبكية تأثيره تنقله إلى المخ بواسطة مجموعة من الأعصاب تسمى الأعصاب البصرية ويترجمه المخ بما يعرف بالإبصار.
وفي وسط الشبكية بقعة مستديرة صفراء تسمى «النقطة الصفراء» وتكون رؤية العين للمرئي أوضح ما يمكن إذا وقعت صورته على تلك النقطة .
وعلى بعد صغير من تلك النقطة إلى الداخل توجد بقعة أخرى تسمى «النقطة العمياء» وعندها تتشمع خيوط العصب البصري لتكوين الشبكة ، وقد سميت هذه البقعة بهذا الاسم لأنها لا تحس بالضوء ولا تتأثر به فإذا حدثت صورة فوقها فإن العين لا تدركها.
وللمخ دور كبير هام في عملية الإبصار، فنقصر كلامنا على شرح الفعل الضوئي في تلك العملية، والواقع أن العين العادية تعمل كما لو كانت عدسة محدبة بعدها البؤري نحو (146) من المليمترات. فإذا سقطت أشعة ضوئية على العين فإنها تعاني انكسارات متتالية تبدأ عند سطح القرنية ثم تستمر في طبقات العدسية البلورية.
والبلورية مكونة من طبقات، كثافة كل منها أكبر من كثافة التي فوقها)، فينشأ عن هذا أن تتجمع الأشعة مكونة لصورة حقيقية مقلوبة للجسم الذي تنبعث منه الأشعة، فإذا وقعت الصورة على الشبكية بصرت العين ذلك الجسم وبالرغم من أن الصورة تكون مقلوبة، فإن العين تراه معتدلا لأن المخ يقلب الصورة بطريقة عصبية " و لأن كتب الفلسفة القديمة ككتاب الشفاء لابن سيناء وكتب الحكمة الإلهية تبعا للكتب الأرسطية القديمة تبحث في الطبيعيات والإلهيات معًا فهي كتب موسوعية تبعا ، وهؤلاء لهم الفضل الكبير الذي اعترف علماء الغرب بهم وبما أحدثوه ، قد بحثوا ذلك لا لكي يرتبوا أثرا فلسفيا بل هم علماء طبيعيين مشرحين يقول الشيخ مطهري " أن العلماء القدامى من المسلمين والأغارقة قد وقفوا على ما وقف عليه هؤلاء ،وقبلوا ما أثبتته التجارب بأن الإدراكات الذهنية تحصل بالأثر المادي بفعل الحواس ، يقول "ضع يدك على أي تأليف منهم في العلوم الطبيعية ، تجد أسفارهم مملوءة بالبحث عن الإبصار وعلله وما انطوى في الباصرة من نظام بديع ، تدهش دونه العقول وما فيه من مياه وأغشية" والعلماء في هذا التخصص معروفون كابن الهيثم والرازي . فلا فرق في الإيمان بهذا التأثير بين الإلهي والمادي المتخصص في بيان الأثر بفعل التجربة التي قام بها علماء الفيسولوجيا .
وللقدماء ثلاث نظريات عن كيفية تحقق الإبصار :
الأول : ذهب إليه ابن سيناء وهو القول بالانطباع (يرون الإبصار كالمرآة ينطبع كل ما يقابلها وينعكس فيها " .
والثاني : اختاره أفلاطون ونصير الدين الطوسي وهو خروج الشعاع . (شبهوا العدسة بالأجسام النورية كالشمس والنار ، فيخرج من العدسة جسم نوراني منبع للنور ،منبعث منه النور ويصل إلى الجسم المرئي) .
الثالث : السيد ملا صدرا الشيرازي له رأي جلي لا يمس الفلسفة ، يقول كلا الرأيين من مختصات علم الطبيعة ، وكلاهما يؤديان إلى أن الكيفية أمر إعدادي لتحقق الإبصار ، وليس نفس حقيقة الإبصار . وحقيقته عنده ترجع إلى خلّاقية النفس صورة مماثلة للشيء المبصر في صقعها على نحو الإبداع أي مجردة بلا مادة وإنما المادة استعداد ومقدمات .
فالاكتشاف العلمي الحديث يبطل النظريتان المتقدمتان (الانطباع والشعاع)و لا يبطل نظرية ملا صدرا كما هو واضح .
هذا متفق عليه ، لكن الاختلاف هنا :
عرفنا أن الإنسان لما استعمل حواسه كالعين عندما أبصر ، تأثرت الأعصاب أو الخلايا العصبية المادية المركبة من لحم ودم ،حتى تحققت عملية الإبصار ، وهذا هو الأثر المادي ، وهذا التأثير كله بفضل الحواس الخارجية كالعين .
فعندنا المعادلة :
حدوث الأثر(بفضل الأعصاب والخلايا) أي المادي
+
حصول الإدراك والعلم
السؤال : أيهما العلم والإدراك : الأثر المادي أو أن العلم حقيقة وراء ذلك الشيء المادي ؟
الفلسفة المادية : ( الذي ينفعل بالآثار ليس غير الدماغ والأعصاب ،وهو العلم والإدراك ).
وقد حشّدوا العلوم الطبيعية كالفيزياء والفيسولوجيا وعلم النفس ،للدفاع عن هذا الرأي بأن العلم والإدراك هما شيئان ماديان لا غير ، وهذه الحشد ما هو إلا لإرهاب الإلهيين أولا ،وثانيا الخلط المنهجي بين التخصصات ، فالفلسفة لا تنفي ما يقولونه .
الفلسفة الإلهية : تتفق مع المادية في جانب التشريح ، وتختلف معه بأن العلم والإدراك من الأمور المجردة ، وأدلتهم على ذلك منها المعقدة ومنها السهلة اليسيرة ، وسنأخذ بالثاني :
الدليل الأول "استحالة انطباع الكبير على ما هو أصغر منه )
هناك آثار والتي تسمونها العلم والإدراك ، لكن الآثار تفقد عندما تنفعل بالحواس ، تجد هذا الكون بشمسه وجباله وبحاره وأشجاره وأناسه قد تمركزت في موضع (الدماغ) لا يشكل مع هذه إلا بضع سنتميترات .
الثاني : المادة من خواصها الانفصال والانقسام والتجزء والتبدل والتغير ، فلا يمكن تصور مادة من دون هذه الخواص ، وهذا مثبت علميًّا "... فكل شعرة في الرأس يتم استبدالها كل سنتين إلى سبع سنوات، ... والأمر ذاته ينطبق على الأظافر، فهي تتجدد بالكامل كل 6 أشهر تقريباً... بطانة المعدة والأمعاء مثلاً تتعرض لتلف شديد نتيجة تعرضها للأحماض وعصارة المرارة الصفراوية، لذلك فإن هذه الخلايا تتبدل كل بضعة أيام، أما الطبقة الخارجية من الجلد فتتجدد بالكامل كل بضعة أسابيع، وكل أربعة أشهر يتكون جيش جديد من خلايا الدم الحمراء، وتنشأ مئة مليون خلاية جديدة كل دقيقة، في حين تنهار مئة مليون خلية أخرى قديمة خلال الوقت ذاته ...كل 10 سنوات يتكون لديك هيكل عظمي جديد، حيث يقوم فريق خاص من الخلايا بتفكيك الخلايا العظمية القديمة، في حين يقوم فريق آخر من الخلايا بتوليد أخرى جديدة...كل 15 سنة تتجدد عضلات الجسم ...ولكن هناك بعض الأجزاء التي تبقى معك طوال حياتك، فحوالي نصف خلايا القلب تبقى كما هي في الجسم منذ الولادة وحتى الوفاة، لأن عملية استبدال تلك الخلايا تأخذ فترة طويلة جداً.
من ناحية أخرى، فإن بعض الأجزاء المعينة من الدماغ تصنع القليل من الخلايا العصبية الجديدة على مدى حياة الشخص، ولكن الغالبية العظمى من الخلايا العصبية تكون قد تطورت قبل الولادة حتى، أما ما يتغير باستمرار فهي الروابط بين تلك الخلايا العصبية، وهي الدوائر العصبية التي تخزن الذكريات..." 3وسيأتي في الجملة الأخيرة التعرض لذلك .
. لكن الذي يرد إلى الذهن يأتي على نحو الاتصال "فلو كانت حالّة في المادة وعارضة لزم تطورها بتطور موضوعها ...مع أن المدرك لنا أمرًا أو أمور متصلة متسقة لا تجزؤ فيها ولا انفصال".
فالإلهي يقول أن ما في الذهن والخارج متطابقان بحيث لو خرج من الذهن لكانت مطابقة له ،وصوره لها مطابقها فـــ" حضور صور العوالم الكبيرة بكثير من الدماغ وما يحتويه، لدينا يدل على عدم انطباع الصور العلمية في المادة، وتجلي الخطوط والأشكال والأجسام في ظرف الإدراك على صفة الاتصال يبطل انطباع الصور في المادة، إذ الحال موجود عندنا بصفة الاتصال، والمحال المنطبقة فيها تلك الصور (على زعم المادي) ذات أجزاء وانقسامات واختلافهما في الاتصال والانفصال يدل على عدم الانطباع ".
التفت الغرب إلى إشكال الصغر والكبر وقالوا هذا أمر نسبي وهو أي بملاحظة بعضها مع بعضها وإنما "الذي نجده من العظمة والسعة من الموجودات الخارجية، ليست منعكسة في مجال الإبصار حتى يقال انه يمتنع انطباع الكبير في الصغير، بل حديثا الكبر والصغر، من ولائد الوهم والتفكير بمعونة القياس ... وأن هذه المقايسات وملاحظة النسب بعد ما صارت ملكة للإنسان بالتدرب، تحصل في أقل جزء من الزمان...ولأجل ذلك نتخيل أنا شاهدنا العوالم الخارجية بسعتها وعوالمها الخارجية مع أنا عند التحقيق لم نصل بأجهزة الابصار إلا إلى الصورة الصغيرة ، ولكن ضاعفتها القوى " . وأما عن تفنيد هذا الزعم : نحن أيضا نقول ذلك ؛باعتباره أمر علمي من تشبيه العين بالكاميرا ، لكن تبقى مشكلة انطباع الكبير في الصغير لم تحل في الفلسفة الغربية .
روايتان لانطباع الكبير في الصغير عن عمر بن أذينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال :" قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربك أن يُدخل الدنيا في بيضة ،من غير أن تصغر أو تكبر البيضة ؟ قال عليه السلام :"إن الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون ". ورواية أخرى أنه أتى عبد الله الديصاني هشام بن الحكم ، فقال له :ألك ربٌ؟ فقال : بلى . قال : قادر؟ قال : نعم قادر قاهر . قال : يقدر أن يدخل الدنيا كلها في بيضة ،لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ؟ فقال هشام : النظرة (أي أمهلني) .فقال له : قد أنظرتك حولاً . ثم خرج ،فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه ،فأذن له ،فقال : يا بن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألةٍ ليس المعول فيها إلا على الله وعليك . فقال عليه السلام : عن ماذا سألك ؟فقال : قال لي كيت وكيت . فقال الإمام : يا هشام كم حواسك ؟ فقال : خمس . فقال : أيها أصغر ؟ فقال : الناظر . فقال :وكم قدر الناظر ؟قال : مثل العدسة أو أقل منها . فقال الإمام : يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى . فقال : أرى سماءً وأرضاً ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا . فقال عليه السلام : إن الله قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها ،قادر على أن يدخل الدنيا كلها في البيضة ،لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة . فانكب هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال : حسبي يا بن رسول الله .فانصرف إلى منزله ،وغدا عليه الديصاني ،فقال له : يا هشام إني جئتك مسلِّما ،ولم أجئك متقاضياً للجواب . فقال له هشام : إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب . 4
الجمع الرواية الأولى أن الامتناع ناظر إلى الوجود العيني الطبيعي ،و الثانية الجواز ناظر إلى الوجود الذهني . 5
دليل ثان : هو الأمور الوجدانية كالحب والبغض والكره ليس فيها أي أثر مادي بمعنى لا تكون منقسمة أو متغيرة كخواص المادة .
دليل ثالث : الذاكرة والنسيان
وقد سماه السيد الطبطبائي "ولا يستفيد منه إلا ذوو الأفئدة القوية، والعقول الطامحة، ويصعب تصوره على من حبس نفسه في سجون الطبيعة وأقفاص الأمور الحسية " وملخص كلامه وكلام تلميذه :
عرفنا أن التغير والانقسام من خواص المادة ، فحتى خلايا الإنسان بما فيها الدماغ تتغير وتتبدل ، بينما المجرد باقٍ على حاله لا يصيبه ما يصيب المادة ، ومن ذلك الإدراك والعلم ، والذي نعتقد بوجوده في النفس المجردة ، وأكبر مثالاً على ذلك هو أن للعلم مراحل كالوعي والتفكير ومن ضمنها التذكر والنسيان . فنجد هذا الإنسان ينسى بعض الأحداث ،وبإمكانه أن يتذكر ويسترجع ما نساه مهما بعُد زمانه . "وهذا أوضح شاهد على أن الصور العلمية مجردة عن المادة وشوائبها ولها وجود غير مادي قائم بنفسه أو مع القوى الإدراكية ".
ولو كان العلم والإدراك شيء مادي لتحلل وتبدل ولو بمرور الزمن ؛لأن التغير طارئ حتى على الدماغ .
مشكلة التذكر والنسيان لا يمكن حلها إلا من خلال تجرد العلم والإدراك ،
يقول :"ولو بحث المادي عن هاتين الحالتين من أطوار العلم بلا تعصب لبلغ إلى ما بلغه غيره، ووقف على وجود رابط بين الإدراكين، وأن هنا أمرا حافظ للوحدة - أي اتحاد الحالتين ووحدة العلمين - ومؤكدة للعينية " .
علماء معرفة الروح جعلوا المراحل من التذكر، وما قبل من الإدراك البدني، أربعة:
أ- الإدراك البدئي: أي إدراك شيء بإحدى القوى الظاهرية في بادئ الأمر، وهذا يعد حجرة أساسية لباقي المراحل.
ب - التحفظ : وهو الأثر المورث من الإدراك البدئي، إذ لو لم يحتفظ الذهن بنفس الشيء أو الأثر المورث من الإدراك البدئي، لما أمكن أن يتوجه إلى شيء، ويتذكره من دون أن يتوسل بالقوى الظاهرية كما هو المفروض .
ج - التذكر : وهو انعطاف الذهن إلى ما أدرکه سالفة.
د- التشخيص: وهو القضاء بأن هذا هو عين ما أدركه أولا وليس بأمر موهوم وإدراك جديد.
والنقطة الحساسة التي حار في تفسيرها المفكرون هي المرحلة الثانية وان الصورة المدركة كيف تحتفظ في الذهن برهة من الزمان مع كونها مغفو عنها، إلى زمان التذكر الذي هو ثالث المراحل "
نظر المادي إلى هذا الإشكال وأجاب عن ذلك بأننا نسلّم بما قاله العلم الطبيعي بالتبدل والتغير للخلايا بما فيها الدماغ ، لكننا نعتقد بمادية العلم والإدراك ، لكن التغير يحصل بسرعة جدا بحيث لا يمكن للقوى المدركة أن تلمحه ،فهو "أشبه شيء بالصورة الموجودة في الماء الجاري التي يتخيلها الإنسان صورة ثابتة، وهي في الحقيقة صور سيالة "
يقول السيد " نحن لا ننكر كل ما أثبته العلم وأقر به الأقطاب، غير أنا نقول: إن ما تمسك به المادي لا يستطيع أن يحل مشكلة التذكر لو اعتقد المادي بكون العلم والإدراك من الأمور المادية، إذ أقصى ما جاء به الماديون : أن عامة التذكرات علوم حديثة، يتخيل الإنسان أنها عين ما كان يعرفه وعين ما مضت عليه أعوام وحقب، وهذا ما يؤكده العلم والفكر، إذ هو يقول: إن الحديث والقديم، والسابق واللاحق في ظرف الخيال واحد وإن كانا بالنظر إلى الواقع متغایرین. ونحن نسأل المادي عن هذه الوحدة الخيالية ونقول: إن العينية في ذلك الظرف لا تجتمع قط مع القول بكون الإدراك مطلقة مادية، ولو قال المادي: أنا لا أقيم للإدراك الخيالي وزنا، لصافقناه في رأيه إلا أن ذلك لا يسقط الخيال عن كونه من درجات الإدراك ، بل إذا لوحظ في نفسه فهو إدراك حقيقي صائب في ظرفه، وإن كان خطأ إذا قيس إلى خارجه ".
بعض آراء الماديين بمادية الإدراك لهم وجهات نظر مختلفة منها :أنه ربما يصاب الإنسان في حادث سير ، فيصاب دماغه فينسى كل شيء بما فيها اسمه واسم أبيه وأمه ، حتى بعد اندمال الجرح تبقى هذه المعضلة باقية .
لكن في مقام الرد نجيب أننا عندما نقول بالنفس فهي مجردة ذاتا ، مادية فعلا ، بحيث هذه النفس في مقام أن تفعل شيء تحتاج إلى البدن ، متى تكون مجردة تاما ؟ عند الوفاة . يقول الشيخ مطهري " أنها تحتاج في عامة أفعالها إلى المادة، فهي تبصر بالعين وتسمع بجهاز السمع وتستشم وتلمس بالأجهزة المادية، والتذكر فعل من أفعالها، تحتاج في عملها إلى المادة واستخدامها وعلى هذا فالصورة العلمية المنسية لأجل طول الزمان أو لوقوع بعض الحوادث المؤلمة التي أوجبت اختلالا في المخ، لم تصر معدومة رأسا بل هي باقية على النحو الذي كانت عليه، إلا أن النفس لا تقدر على إحضار تلك الخواطر، لأنها فقدت آلة الإحضار، أو أصابها الضعف والاختلال ".
النتيجة : أن العلم والإدراك أمر مجرد ، قائم في شيء وراء هذا البدن نسميه النفس .
أما ما هي الخلاصة التي نريدها من ذلك ؟
هو إثبات الروح والنفس ،وأنها وراء هذا البدن المادي ، وإذا ثبتنا ذلك نثبت أن الروح باقية ، وأنه ينتظرها يوم للحساب ، والأسمى هو وجود الرب تبارك وتعالى .
فقط دليلين لإثبات النفس : أدلة كثيرة نختار منها الوجداني : تقول (أفكرُ) فتنسب التفكير إلى (الأنا) فالمنسوب غير المنسوب إليه . الشيء الآخر ما ثبته العلم بأن جسم الإنسان يتبدل ويتغير ، فإذا سرق شخص وعمره(20) ثم اكتُشف وعمره(40) هل يحق لنا أن نحاكمه؟! لا يوجد عاقل يقول بالنفي .
إنه العقل والفكر ،الذي يدرك الأشياء والتي تضره وتنفعه ،أو التي به يثاب ويعاقب كما عليه أهل الأديان، و لك أن تتأمل مدلول الحديث الشريف الصحيح الذي استفتح به الشيخ الكليني في كتابه أصول الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال :" لما خلق الله العقل استنطقه ،ثم قال له (أي الله): أقبلْ فأقبل ،ثم قال له أدبرْ فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقتُ خلقا هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب ،أما أني إياك آمر ،وإياك أنهى ،وإياك أعاقب وإياك أثيب ". 6
فهل يعقل أن هذا الموجود الذي يتطور دائما في تفكيره يكون حاله حال الحيوان الذي همّه علفه ؟!
أو يكون متطورا من كائن آخر ؟!
أو يمكن أن يكون هذا الدماغ الجبّار هو مجرد تفاعلات كيميائية؟ !
ولذا تجد الإنسان منذ نشأته على هذه الأرض كان ولا يزال يحاول جاهدا معرفة ما حوله وهي فطرة نابعة من ذاته فــ " الوعي والتفكير العقلي والنشاط الروحي لم تتوقف لحظة واحدة طوال تاريخ الإنسان ،بل إنها تكاد تكون مرادفة لهذا التاريخ ؛ فمنذ أبعد العصور أنتج الإنسان فنوناً كان بعضها رفيعا ، كما أنتج أشعرًا وحكمًا ،وعرف العقائد والشرائع ،وكوّن لنفسه نظما اجتماعية وأخلاقية ، أي إن عقله يعمل بلا انقطاع " . 7
ولذا لا يمكن تساوي مخ الإنسان كما يذكر الملاحدة بأنه مجرد تفاعلات كيميائية ونبضات كهربائية ، يقول أحد علماء الفيزياء "إذا نظرنا إلى دقائق البنية المادية للأشياء فلن نجد فرقاً يذكر بين مخ أينشتاين وبين حفنة من الرمال ، فكلاهما يتركب من ذرات تتكون من نفس البروتونات و النيوترونات والإلكترونات .
نعم اعترف بعضهم بالعجز في تفسير هذه ،حتى قال تشارلز دوكينز : " إنه من الصعب تفسير طبيعة وعي الإنسان ومصدره . أرجوكم اقذفوا الكرة بعيداً عني إلى ملعب الآخرين .أما زميله المادي وولبرت يقول : لقد تحاشيتُ متعمداً الخوض في أي مناقشة حول الوعي " مما يدل على أنك أنت الذي تفكر لا مخك وهذا دليل على وجود ذات وراء جسدك هذا . 8
الهوامش :
1) ص 133-177
2) https://ar.wikipedia.org/wiki
3) https://www.nok6a.net/%D9%87%D9%84-%D8%AD%D9%82%D8%A7%D9%8B-%D9%8A%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D8%AF-%D8%AC%D8%B3%D9%85%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%83%D9%84-%D8%B3%D8%A8%D8%B9-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7/
4) بحار الأنوار كتاب التوحيد ج4ص142
5) شرح نهاية الحكمة السيد الحيدري ج2ص269
6) )) الشافي في شرح أصول الكافي . تأليف الشيخ عبد الحسين عبد الله المظفر . مؤسسة التاريخ العربي . بيروت – لبنان . ط1. 1432هــ . ج1كتاب العقل والجهل ح1ص50
7) التفكير العلمي . فؤاد زكريا . الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي . المملكة المتحدة . 2017م . ص41-42
8) )) رحلة عقل . د. عمرو شريف . تقديم د . أحمد عكاشة مكتبة الشروق الدولية . القاهرة . ط1 . 2010م ص117-119
جديد الموقع
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس المجلس المحلي للمحافظة
- 2024-04-30 سمو محافظ الأحساء يرأس اجتماع اللجنة العليا لإنشاء المستشفى الجامعي التعليمي
- 2024-04-29 وعي القلم والأمل نص مستخلص من مجموعة (كلام العرافة) للدكتور حسن الشيخ
- 2024-04-29 ريم أول حكم سعودية لرياضة رفع الأثقال حازت على الشارة الدولية
- 2024-04-29 بيئة الأحساء تدشّن أسبوع البيئة 2024 تحت شعار "تعرف بيئتك"
- 2024-04-29 منتدى البريكس الدولي يكرم الفنان السعودي الضامن في غروزني الشيشان ..
- 2024-04-29 حققوا المركز الأول على مستوى المملكة كأعلى تسجيل للطلاب طلاب "تعليم الرياض" يفوزون بـ13 ميدالية في أولمبياد "أذكى"
- 2024-04-29 جمعية العمران الخيرية بالاحساء للخدمات الاجتماعية تحظى بتكريم مرموق من مركز الملك عبد العزيز للتواصل الحضاري .
- 2024-04-29 مبادرة خطوة قبل الشكوى تبدأ فعالياتها بتأهيل اناث الدمام
- 2024-04-29 افراح الشبيب والعبدالسلام في قاعة الفارس بالاحساء