2024/02/20 | 0 | 790
الماضي والحاضر في مناخات عربية خليجية ومدى غربة الذات في مجتمع سريالي.
الكاتب: أحمد بن ابراهيم، قاص، من تونس.
قراءة في المجموعتين القصصيتين " إحساس " و " في المعطف " للكاتب السعودي عبد الله النصر، الذي يقول في إهداء أحدها: (إلى من بنى الحياء حاجزاً شاهقاً أمامها لئلا يرتمي صدري إلى صدرها.. لأبقى أرقب دفأها بشوق يحتدم ذات الظلال الوارفة أمّي..)، وهذه إشارة رائعة تبدي مدى عمق العاطفة بينه وبين النص وشخوصه.
نحن أمام مجموعتان قصصيتان متكاملتان في بحثهما في قضية الأصالة والمعاصرة. في بحثهما عن الذات والآخر، القريب والبعيد، في تفسيره لمتغيرات العصر. بدأ الكاتب في أغلب القصص يدور في حلقة الحيرة دون الوصول إلى منفذ مؤكد سوى ما لاح من بصيص نور يلوح كضوء شمعة في نهاية نفق طويل. الحيرة بين البداية والنهاية. والأستاذ النصر في هذه المجموعتين القصصيتين - حاول التوفيق في تركيز " علامتين أساسيتين على مستوى الشكل والمضمون " هما. شعرية اللغة ومحاكات التراث السعودي. ميزتان أساسيتان حافظ عليهما خاصة في قصصه القصيرة جداً.. حتى أننا نخال الكاتب - يكتب وصية - كما أني قد لاحظتُ هذا الاختيار في قصص الأستاذ المبدع السعودي ناصر الجاسم، ولو أن هذا الأخير يذهب بنصه إلى جمالية أخرى "الفانتازما". وهذين الثيمتين السالفتي الذكر حافظ عليهما الكاتب النصر في متن المجموعتين.
لنبدأ بالمجموعة الأولى "إحساس"
جاءت المجموعة في ثمانية عشر قصة قصيرة وثمانية قصص قصيرة جداً، وهذا التنويع يؤكد على الشوط الكبير الذي خاضه الكاتب في عالم القصة. الوعي بالعملية الإبداعية. كما لاحظنا جميل اختياره في بناءاته السردية من خلال تنوّع الرواة واتقانه بلعبة الزمان والمكان، حيث كان تأثيرهما واضحاً..
سنحاول من خلال هذه الاطلالة الموجزة أن نسلط الضوء ما أمكن على خصوصية هذه المجموعة المتميزة. لقد وفق الكاتب كثيراً في شدّنا إلى نصه وأفكاره الوجودية. ولقد اكتشفنا قدرته على التخييل وإقناعنا بواقعية الأحداث. لقد أمتعنا حتى أننا باركنا أسلوبه..
إحساس كعتبة أولى تنعكس في دلالتها كصرخة مكتومة ظلّت تحوم عاليا دون أن تجد لها حضن دافئ يتبنّاها..
القصة الأولى " ووثب الوجد "
تبدأ القصة بالسؤال :
" وين بتروح
وين بروح بعد؟
في دهاليزه عزفت الوحشة موسيقاها. صخبت كقطعة جاز مجنونة.... "
هذه القصة جاءت دائرية الشكل في هندسة بنائها. فالنهاية تعيدنا إلى البداية. تناوب في السرد نص يدور في " فلك السريالية " من ناحية غرابة بعض الأحداث حسب منظور الشخصيات. شخصيات بدت في شبه غياب عن المتغيرات الفكرية في المجتمع. وهذا الاختيار الفني وجدناه في قصص أخرى حوتها المجموعة. الشخصيات في هذا النص غلب عليها الفتور . اللامبالاة. وكأنهم غير عابئين بسلطة الزمن الذي أثّر في واقعهم وأبعد من رؤوسهم قيمة الماضي كعنصر " درامي " صارعوه حتى صرعهم.
النهاية يقول الراوي العليم الذي تكفل بسرد الأحداث منذ البداية
" جذع نخلة كان يرعاها بما أوتي من حّيْل "
ثم في الأخير نجد السؤال الوجودي والاجابة عنه متجاوران سؤال للشخصية الرئيسة " وين بتروح ؟ وهي الشخصية الرئيسة ذاتها تجيب " وين بروح بعد؟ "
" .. فلم يجده أهله إلا بعد أيام كثار ما دلتهم عليه – من بُعد - إلا رائحة الوفاء الصادرة من جثته التي نبتت فيها الحشائش..."
لقد اتضح أنه سؤال النهاية. قصة حزينة تترجم مأساة رجل عشق تراثه المادي والروحي. أرضه وإرثها الفلاحي والعمراني ولكن للحضارة المدنية الجديدة سطوتها المدمّرة فمات كمداً.
أغلب قصص هذه المجموعة تستبطن هذا الإحساس بالاغتراب في واقع مادي له أحكامه وسلطته . وقد امتد ت في هذه القصص هذه " النزعة السريالية " التي تترجم ربما قلق الكاتب في مجتمع قلّت فيه القيم السمحة وعادت الحياة لهاثا شكليا لا روح فيه على غرار قصة ق ج " واجهة الموت " التي تصور بلغة شعرية ملامح الدمار الذي يسببه الانتماء الضيق ثقافياً واديولوجياً.
العوامل الخارجية المتنوعة والمتعددة لها تأثيراتها في مجموع هذه القصص لكن الكاتب النصر انتصر للمحلي ومناخاته في محاولة لتكريس هذا التوجه بما أن العالم يبدأ من قريتي.. وفي ملمح تراثي آخر وحسب تقديري تناص إلى حدّ ماَ مع " الف ليلة وليلة " في قصة " فشل " حيث نرى العلاقة المسترابة بين الرجل والمرأة حتى أنها تستبطن ملامح العبث / العدم. النص " فشل " صنع وجهاً مكفهرّا وقبض على يمناها لئلا تناوله لقمة طعام الغداء. وسألها : ما الذي تضعينه في كأس الحليب صباح كل يوم.. فتجيبه بدم بارد أنها تضع كيساً من الشاي الذي يحبذه. لكنه لم يقتنع. رفض تناول اللقمة من يدها مجدداً. قالت في هدوء وضعت ملعقة من السكر. عبس في وجهها الأشقر وقال هائجاً لا وضعت شيئاً آخر. لم تطل معه هذه المناقشة وقالت له .. " أضع فيه اصبعي هذه التي أناولك بها لقمة الطعام كما تشتهي. " حينها سرت فيه انتعاشه كبيرة أحمرّ لها وجهه واعتذر منها.. لقد أبدع الكاتب في ترك تأويل الحدث مفتوحاً. كما أنه أدخلنا في جمالية أخرى هي لعبة الألوان. حتى أنه وضعنا أمام لوحة زيتية رمزية.
المجموعة الثانية في المنعطف
جاءت في ثلاثة وثلاثون قصة بين قصص قصيرة وَ (ق ق ج). هذه المرحلة الحساسة من حياتنا حيث ينادي الآخر / الغرب بمَا بعد الحداثة. إلى الشكّ في كلّ شيء بما في ذلك القيم السمحة، القيم الجميلة.. لا يجب أن نأخذ أفكاره كمعطى حياتي هو بمثابة الحل لكل مشاكلنا.. الكاتب في كتابه هذا كان حداثياً، خاصة في التزامه بموروثه ومحاولة نفض الغبار عنه والتقيّد به كمعطى حداثي مهم. من الصعب محاورة كل قصص المجموعة. فاكتفيت بنموذجين معبّرين..
.. " قصة مباغتة ص 74 " متراصة كالطوب. واحدة تشدها أخرى. تلكم الأوراق بأنواعها. المتكتلة على غصونها الذابلة في صيف النهار. لكن ما يهدد كيانها المتلاحم في إيحاءاته ذلك العنيد وصاحب الرأس الناشف. رغم النداءات الخائفة. رغم الصرخات التي تستهدفه بالامتناع. رغم ضعفه. اهتزازها يستهويه وإن شدّت عضديه. ابتلاؤها مأموله وإن فقد ذاته. لا أنكر أعجابي به رغم ما سيلاقيه في حدسنا. حفّز نفسه. شمّر على ساعديه. أجمع قواه. فهزّة للغصن بعدها هزّات. حتى إذا ما بذل نزراً من قواه الواهنة. سقطت الأوراق جميعها. عرَّت الأغصان. اتضحت صورتها الواقعية التي تخفانا. لم يكن شيئاً مما حدسه الآخرون معي. لأن مبادئ الأوراق كانت مفككة تماماً.. "
قصة فيها الكثير من التخييل. فيها عبرة كبيرة. هو أن لا نقف مسلّمين بالمسلمات الوضعية. أن نقدسها. المبدع النصر في النهاية له حرية الرأي. ومن جهة أخرى للمتلقي حريته كذلك. لتكن هذه الشجرة صورة لفكرة ما.
أختم بقصة سارق ص 82..." سارق... أمشي الهوينى. فجأة جاء من خلفي مسرعا. قبّل أنوثتي. فهرب دون التفات. لمستُ قبلته الساخنة على وجنتي. قلتُ بهدوء وأنا أستشعر لذّة مَا : سارق. "
وهنا أيضاً شكل لنا مناخاً من التفكير الممتد، نمارس فيه حرتنا في التأويل واختلاف المخرجات.
ختاماً رأيت أن الكاتب المبدع الأستاذ عبد الله النصر له إمكانيات كبيرة في السرد حيث له قدرة كبيرة في خصوصيات الحكي. وله ثقافة واسعة وهذا ما يحتاجه كل سارد. فالتوفيق في تقديم فكرته بأسلوب مقنع يعد هذا نجاحاً كبيراً، نسأل الله أن يمده بالمزيد.
جديد الموقع
- 2024-05-09 ما بعد الوظيفة (2)
- 2024-05-09 ناصر الجاسم.. في مجموعته القصصية «العبور».. القاص المسكون بهاجس من ذاكرته الشعبية.
- 2024-05-09 كيف يصرح الأديب بحبه
- 2024-05-09 (التعويض عن الضرر المعنوي في النظام السعودي)
- 2024-05-09 الدفاع المدني بمنطقة القصيم تكرم الإعلامي زهير الغزال
- 2024-05-08 جامعة الملك فيصل تشارك في مؤتمر ومعرض الشرق الأوسط لهندسة العمليات 2024 بالظهران إكسبو
- 2024-05-07 فاطمة السحاري : لا يسعفني قلمي ولا وجعي .. فالمسافر راح .. فرحمة الله تحتويك يا "البدر"
- 2024-05-07 الخريف يرعى تكريم اللجنة المنظمة للنسخة الثالثة لـ حرفيون
- 2024-05-07 ضمن برنامج الاحتفاء بأسبوع الأصم العربي ٤٩
- 2024-05-07 أهمية الكتب الورقية: لماذا الكتاب الورقي الذي يحمله الطفل بيديه أفضل من الكتاب الذي يقرأه على الشاشة؟